10
بلغت إيلي وغريس الخامسة عشرة من عمرهما. وقد بدأتا تكتسبان ملامح الفتيات الناضجات. ومع ذلك، ازدادت اهتماماتهما، كأي فتاتين عاديتين، بالاعتناء بمظهرهما الخارجي. فاحترم السيد بيلوت رغبتهما تلك، وراح يشتري لهما من الثياب والحلي ما تشتهيه أنفسهما.
كانت إيلي في البداية تشعر بثقلٍ من كرم السيد بيلوت، لكنها سرعان ما أدركت أنّ الهدايا التي تتلقّاها أقلّ بكثير مما تناله غريس، وأنّ تلك المصروفات لا تساوي شيئًا يُذكر من ثروة آل بيلوت، فتمكّنت من قبول إحسانه بقلب أكثر راحة.
كانت إيلي ترتدي دائمًا قفازات من الحرير تُخفي بها آثار الندوب الصغيرة التي بقيت على يديها، مما منحها شعورًا بالسعادة.
ومع مرور الوقت، ازدادت مقتنيات الفتاتين من السلع الفاخرة، لكن شيئًا واحدًا أخذ يتناقص تدريجيًا.
إنه رسائل إينجل.
كانت رسائل إينجل في البداية تصل إلى والديه كلّ يوم تقريبًا، لكن منذ أن رفض السيد بيلوت بصرامة طلبه بالعودة إلى المنزل في عيد الميلاد، باتت تلك الرسائل نادرة للغاية.
ورغم ما سبّب ذلك من قلقٍ للأبوين، إلا أنهما أقنعا نفسيهما بأنّ الأمر لا بدّ منه من أجل مستقبله. وكانا يواسيان بعضهما بقولهم إنّ انشغاله عن العائلة سيُساعده على النجاح في الحياة الاجتماعية. ومع ذلك، كانا يحرصان على إرسال رسالةٍ إليه كلّ يومين.
أما غريس، فكانت ما تزال تتلقّى منه رسائل بين الحين والآخر.
كانت رسائل مبعثرة الأفكار عن حياته المدرسية، تتضمّن سؤالًا عن أحوال العائلة، وتنتهي دائمًا بسؤالٍ عن إيلي.
لكن غريس لم تجد في ذلك ما يُثير الشك، بل ظنّت أن شقيقها مرهق وحزين، فتعاطفت معه بصدق.
في تلك الأثناء، كانت مهارة إيلي وغريس في الفروسية قد تحسّنت كثيرًا حتى صارتا تجوبان أنحاء الإقطاعية على ظهور الخيل بثقة.
وكانتا كثيرًا ما تزوران بيت القسّ، حيث كانت زوجته امرأة طيبة وكريمة، تستقبلهما بحفاوة وتقدّم لهما الشاي والحلوى. كما كانت تفرح لرؤيتهما تلهوان مع ابنها.
كان ابن القسّ في الثالثة عشرة من عمره، أي أصغر منهما بسنتين، وكانت غريس تراقبه باهتمامٍ خاص.
وبسبب كثرة خروجهما للركوب، كانت غريس تلتقي بفين أكثر من ذي قبل، وكلّما رأته، تأكّد في ذهنها أنه شاب فظّ مبتذل.
لذلك صارت تتلهّف لإيجاد شخصٍ يناسب إيلي، وانتهى بها الأمر إلى التفكير بأنّ ابن القسّ، رغم أنه ليس جميلًا، إلّا أنه لطيف ومهذّب، ويبدو مناسبًا تمامًا لها.
ولو كانت غريس أكثر فطنة قليلًا، لأدركت أنّ مشاعر ابن القسّ كانت تتجه نحوها هي، لا نحو إيلي.
لكن إيلي، التي لاحظت ذلك باكرًا، لم تستطع إلا أن تبتسم ابتسامةً باهتة حين سألتها غريس في طريق العودة إلى القصر:
“إيلي، ما رأيك بابن القسّ؟”
فأجابت بابتسامةٍ ساخرة:
“لا أحبّ من يبدو غبيًّا.”
قالتها بنبرةٍ تحمل شيئًا من النفور، وبدت على وجهها أمارات الاشمئزاز دون أن تشعر، ثم دهشت من قسوة كلماتها.
لقد غارت إيلي من غريس.
فهي دائمًا الأجمل، والأرفع شأنًا، والكلّ يُعجب بها أكثر منها، ومجددًا كان الحال نفسه.
أثار ذلك في نفس إيلي مرارةً خفيّة، وبدت لها غريس ساذجة ومغرية في آنٍ واحد.
لكن إيلي كتمت ما في قلبها، وقالت بلطفٍ مصطنع:
“الرجال السذج لا يعجبونني. أحبّ الرجل الواثق، الممتع… وإن كان وسيمًا، فذلك أفضل.”
ضحكت غريس بخفة وأومأت موافقةً:
“الوسامة مهمة فعلًا. لكن إن تزوّجت يومًا، فسأنظر أولًا إلى الأخلاق.”
فأجابت إيلي مازحة:
“إذن فلتجدي رجلًا وسيمًا وصالحًا في الوقت نفسه.”
قالت غريس مبتسمة:
“مثل أخي إينجل؟”
تجمّدت إيلي عند سماع الاسم، وتوقّف حصانها.
رمقتها غريس متعجّبة، وقد بدت على وجهها علامات الدهشة.
راقبت إيلي تعابيرها بحذر، خوفًا من أن تكون قد عرفت شيئًا عمّا جرى بينها وبين إينجل، وربما أرادت اختبارها بالسؤال.
لكن غريس لم تُبدِ أيّ إشارةٍ إلى ذلك.
قالت ببراءة:
“هل قلت شيئًا غريبًا؟ أليس أخي وسيمًا وذو خلق؟ أم أنك لا ترين ذلك؟”
شعرت إيلي بالخجل من ردّ فعلها المبالغ فيه، فشرعت تمسح بدها على عنق حصانها لتُخفي اضطرابها، وقالت:
“لا، لا شيء من ذلك. إنه فقط كأخي الحقيقي، لذا فذكر اسمه في مثل هذا الحديث فاجأني لا أكثر.”
ضحكت غريس وهي تتابع السير، ووجدت في ردّ إيلي مسحة من الطرافة.
وحين عادتا إلى قصر هيفنلي هيل، أنزلتا الخيل وربطتاهما في الإسطبل.
ولاحظت غريس النظرات الطفيفة المتبادلة بين إيلي وفين، لكنها تظاهرت بعدم ملاحظتها، وأسرعت تصحب إيلي إلى غرفتها.
على مكتب غريس كانت رسالة جديدة من إينجل.
وكالعادة، كانت السيدة بيلوت تتأكد من اسم المرسل قبل تسليم الرسائل.
أما الرسائل الموجّهة إلى غريس، فكانت تُرسلها إلى غرفتها بواسطة الخادمة، لتقاوم رغبتها في فتحها بنفسها.
جلست غريس إلى مكتبها وفتحت الرسالة لتقرأها.
“إيلي!”
كانت إيلي جالسة على الأريكة منهمكة في تطريز منديل غريس، لكنها فزعت من نداء الأخيرة، فارتعشت يدها وانغرست الإبرة في إصبعها.
كتمت صرخة خفيفة، واقتربت من غريس متظاهرةً بالهدوء.
“ماذا هناك؟”
قالت غريس وهي تشير إلى الرسالة:
“أخي يريدك أن تكتبي له. أنظري، هنا كتب:
‘هل يمكنك أن تسألي إيلي إن كانت تودّ مراسلتي؟ سأكون سعيدًا حقًا إن فعلت.’”
تصفّحت إيلي الموضع بعينيها بسرعة، ورأت بوضوح آثار التردّد على السطر؛ فالكلمات كانت مشطوبة بالقلم ثم أُعيدت كتابتها مراتٍ عدّة.
قالت بذهولٍ خافت:
“صحيح، أرى ذلك…”
“هل يمكنك أن تكتبي له؟ يبدو أنّ شقيقي يشتاق كثيرًا إلى البيت. في الحقيقة، كان يسألني منذ فترة عمّا إذا كانت هناك أخبار تصل من قِبَلك.”
تطلعت إيلي إلى الرسالة بصمت. كان عقلها يغلي بالأفكار المتشابكة حتى غرق في السواد.
صحيح أنّ السيد والسيدة بيلوت لم يكونا من النوع الذي يهوى عادةً قراءة رسائل الآخرين، لذلك كانا يتركان رسائل إينجل الموجّهة إلى غريس وشأنها، لكن إيلي كانت تشعر بأنّهما لو تلقّيا رسالة تخصّها هي، فسيقرآنها بعناية من أولها إلى آخرها.
وفوق ذلك، ما الذي يمكنها قوله أصلًا لإينجل؟ أياً كان ما ستكتبه، فسيكون في غاية الإحراج والغرابة، ومهما حاولت، فسيُسيء هو فهم كلماتها بطريقةٍ ما، فينسج منها أوهامًا جديدة أو يخيّب أمله أكثر.
بعد تفكيرٍ سريع، قرّرت إيلي أن الأفضل ألّا تكتب إليه مطلقًا.
لكنّ هذا القرار أثقل صدرها وأشعرها بالضيق.
ثمّ قالت أخيرًا بصوتٍ منخفضٍ لغريس:
“لا أظنّ أنّ لديّ ما أقوله له حقًا. السيد بيلوت، والسيدة بيلوت، وأنتِ أيضًا ستكتبون له في الوقت نفسه، وسيكون مضمون الرسائل متشابهًا على الأرجح، مما سيجعله يشعر بالملل. ربما سيتمنى بعد فترة أن تتوقفوا جميعًا عن إرسال الرسائل. اكتبي له فقط في النهاية أنني بخير، هل يمكنكِ ذلك؟”
وجدت غريس كلام إيلي منطقيًا. فهي نفسها كانت تعاني كثيرًا كي لا تكرّر في رسائلها ما يكتبه والداه، ولم تُرِد أن تُحمّل إيلي هذا العناء أيضًا.
“حسنًا، إيلي. سأُبلغه أنا بأخبارك بدلاً منك.”
جلست غريس إلى مكتبها وعلى وجهها ملامح سرورٍ خفيّ، فقد وجدت أخيرًا موضوعًا مثيرًا تكتب عنه في الرسالة، والأجمل أنّه أمر لا يعرفه أحد غيرها.
ثمّ سحبت الورقة وبدأت تكتب بحماس:
إلى شقيقي العزيز إينجل،
لقد وصلت رسالتك بخير، وسُررت لأنك تقضي وقتًا طيبًا في المدرسة.
اقترحتُ على إيلي أن تكتب إليك، لكنها، وكعادتها الرقيقة، قالت إنّ من المرهق أن تقرأ أربع رسائل متشابهة، وستشعر بالضجر. تخيّل! كانت قلقة عليك حتى في هذا الأمر البسيط. إيلي فتاة طيبة فعلًا! إنها تُظهر لطفها في أكثر المواقف غير المتوقعة. لو طُلب مني أن أقرأ أربع رسائل متشابهة، لأغمي عليّ من فوري!
لذلك، اتفقنا أن أنقل لك أنا أخبارها بدلًا منها.
إيلي بخيرٍ تام، وهي تزداد براعة في العزف على البيانو يومًا بعد يوم، وأمي مسرورة جدًا بتقدّمها.
قبل قليل فقط عدنا من بيت القسّ بعد تمرين ركوب الخيل. القسّ وزوجته لطيفان للغاية.
أما الفطيرة التي صنعتها زوجته، فكانت لذيذة لدرجة أننا أكلنا منها قطعتين لكل واحدةٍ منا! أظنّ أن خيولنا كانت ستنهار في طريق العودة من ثقلنا بعد ذلك.
آه، تذكّرت! بما أنّنا نتحدث عن الخيول، فابن المسؤول عن الإسطبل، السيد مارشال، يعمل معنا هذه الأيام ليتعلّم المهنة. اسمه فين مارشال.
لكن يبدو أنه أكثر اهتمامًا بإيلي من اهتمامه بالخيول نفسها. والغريب أنّ إيلي لا تبدو منزعجة من ذلك. في الواقع، يتحدثان كثيرًا مؤخرًا، وأحيانًا يختفيان معًا لبعض الوقت.
بالطبع، إن كانت إيلي تحبّه، فلا بأس، لكن بيننا يا شقيقي—وهذا سرّ لا تخبر به أحدًا—فإنّ فين فظّ جدًا لدرجة لا تُحتمل. أظنّ أن إيلي تستحق رجلًا أفضل منه.
أعتقد أن ابن القسّ هو الأنسب لها، لكن إيلي تقول إنها لا تحبّ الرجال الذين يبدون “أغبياء”! أليس هذا مضحكًا؟ لو رأيت فين بنفسك، لقلتَ إنّ ابن القسّ يبدو أكثر ذكاءً منه بأضعاف!
تخيّل! طلبتُ منه يومًا أن يربط لي الحصان، فأجابني ساخرًا:
“نعم يا آنسة، كما تأمرين تمامًا!”
لولا أنني تمالكت نفسي، ولولا أن إيلي تُظهر له بعض اللطف، لما وطئت قدماه إسطبل هيفنلي هيل مجددًا. أنا حقًا لا أطيقه.
يا إلهي، كنت أريد فقط أن أخبرك بأخبار إيلي، لكن عندما أعدت قراءة الرسالة وجدت أن معظمها صار عن فين!
رجاءً، بعد أن تنهي قراءتها، أحرقها فورًا! سأكتب لك مجددًا قريبًا.
أختك المحبة دائمًا،
غريس.
وضعت غريس القلم وهي تشعر بالارتياح والبهجة.
***
مرّ الوقت سريعًا في هيفنلي هيل رغم غياب إينجل.
وحين استمرّ السيد بيلوت في اختلاق الأعذار لمنعه من العودة إلى البيت، بدا أن إينجل فهم أخيرًا ما يجري، فتوقف عن إرسال الرسائل المتوسلة إلى والديه.
وبدلاً من العودة إلى المنزل في العطل، صار يقضي وقته في بيت صديقه المقرّب وزميله في السكن، هايدن أوستر، الذي كان يدعوه لقضاء الأعياد معه.
كان السيد والسيدة بيلوت مسرورَين بذلك أشدّ السرور.
فعائلة أوستر لم تكن ثرية كعائلتهم، لكنها عائلة نبيلة ذات سمعة طيبة ومعارف رفيعة.
وزاد من سرورهما ما كتبه إينجل في رسائله عن أخت صديقه، روزاليند، التي وصفها بأنها فتاة جميلة وناعمة.
كان الزوجان يحلمان باتحادٍ بين العائلتين، معتبرين أنّ ذلك سيكون زواجًا مثاليًا.
وقد بدا من رسائل إينجل أنّه يُعجب فعلًا بروزاليند، إذ وصفها مرارًا بأنها رقيقة ومحببة، كما كتب مازحًا أنّ صديقه هايدن لا يكفّ عن مطالبته بأخذها معه.
وكان أكثر ما يُرضي الوالدين هو أن محتوى رسائل إينجل صار أكثر تأنقًا يومًا بعد يوم.
فهو الآن يُكثر من حضور الاجتماعات والرحلات، ويخالط أبناء العائلات الرفيعة، ويعيش حياة اجتماعية زاخرة.
وكان دائمًا ما يصف نفسه محاطًا بالمشاهير وبالنساء المعجبات به، حتى كتب في آخر رسائله:
“ربما سأندم على العودة إلى المنزل بعد التخرج.”
أدرك الوالدان حينها أنّه تجاوز ماضيه بالكامل، ونسي تمامًا أمر إيلي.
وهكذا، شعرا بالرضا التام، لأنّ كلّ شيء يسير وفق ما خططا له منذ البداية.
كانا يتحدثان بهذه الأمور علنًا أثناء تناول الطعام، بحيث تسمع إيلي كلّ شيء بوضوح.
كانت تشعر بالأسى حين تسمع أخبار إينجل، ثم تتفاجأ من نفسها، وتتساءل بخجل: “ولماذا أحزن أصلًا؟”
فقد مرّ قرابة عامين منذ آخر لقاء بينهما، وهو لم يكن يومًا ملكها، كما أنّ قلوب الناس تتغيّر بسهولة.
لكن حين تسمع أنّه يُغدق حبّه على فتاةٍ أخرى كما كان يفعل معها من قبل، كانت تشعر بفراغٍ داخلي لا تستطيع دفعه عنها.
كانت لا تزال عالقة في مكانها، بينما هو يمضي قُدمًا نحو عالمٍ آخر. كان ذلك يُشعرها بغيرة مكتومة وعجزٍ مرير، فتغادر المائدة دائمًا أولاً وتلوذ بغرفتها هاربة.
وبعد أيامٍ قليلة، اجتاح هيفنلي هيل خبرٌ جديد أثار ضجةً أخرى.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 10"