كأنّه نسيَ كيف يتحدّثُ.
ظلّ لسانه ينعقد، وذهنه يتجمّد في كلّ مرة يحاول فيها الكلام.
هزّ رأسه قليلًا، ثمّ واجه إيفون مجددًا.
عيناها الخضراوان الهادئتان كانت تُشِعّان صفاءً، وكأنّها تجهل تمامًا اضطراب مشاعره المعقّدة.
“هل تُزَيِّنين الحديقة؟”
“نعم.”
بعدها، نظرت إليه إيفون مطوّلًا، وكأنها تتحرّى ردة فعله، وتتساءل في داخلها إن كان يكره تدخّلها في الحديقة.
لا، لا أكره ذلك كثيرًا. أنا فقط لا أبالي.
لكن لم يكن لديه ما يكفي من الكلمات ليُعبر عن ذلك بوضوح.
تردّد للحظة، ثمّ قال بصوتٍ جاف:
“……سأرافقكِ وأستمع للشرح.”
ومع تلك الكلمات البسيطة، أشرقت ابتسامة مشرقة على وجه إيفون.
“نعم!”
سارا معًا ببطء في أرجاء الحديقة، يتحدّثان.
كانت إيفون تتولى الحديث في الغالب، شارحةً كيف ستُحوّل الحديقة، فيما كان دانتي يكتفي بهزّ رأسه.
صوتها وهي تتحدث، بدا له تمامًا كزقزقةٍ عصفور صغير.
“قرّرتُ أن أزرع زهرة الإكناسيا، والديجيتاليس، وزنابق.
هل لديك لون مُفضّل من الأزهار؟”
“أم… أُحبّها جميعًا.”
كان يجيب بلهجة مترددة، فيما عيناه تراقبان وجهها أكثر من إصغائه لكلماتها.
وفي الحقيقة، لم يكن له لون مفضل أصلًا.
ولا يعرف أسماء الأزهار هذه أصلًا.
الديجيتاليس؟ نعم، يعرفها… باعتبارها نبتةً سامة.
كل ما يعرفه عن الأعشاب يتعلق بالسموم، أو أشياء نافعة في الحروب أو في إدارة الإقطاعيات.
لو كان يعرف غير هذه الأشياء، لكان شاركها الحديث أكثر.
لأوّل مرة في حياته، شعر بالأسف على بساطة حياته العملية وجفافها.
رغم أنهما أمضيا وقتًا لا بأس به في المشي، شعر دانتي أنّ الوقت مرّ بسرعةٍ.
وحين عادوا إلى القصر، خرج كبير الخدم لإشعال مصابيح المدخل، وعيناه اتّسعتا بدهشة عندما رأى دانتي يسير بجانب إيفون.
“سيّدي؟!”
“مرّ وقت طويل، كبير الخدم.”
هل من المناسب أن أقول ’مرّ وقت طويل؟‘
كان من المفترض ألا يعود إلا بعد فترة أطول بكثير. فلم يكن يرجع إلى القصر كثيرًا أصلًا.
لكن كبير الخدم، بخبرته الطويلة، لم يُظهر استغرابًا. فقط انحنى وقال:
“انتهت فترة الحجز، على ما يبدو. لابد أنّك عانيتَ كثيرًا.”
“هاه؟ حجز؟”
إيفون هي التي تفاجأت وسألت، واتّضح لدانتي أنّ روان لم تُخبرها بشيء عنه.
تنهدَ قليلًا، ثمّ قال باختصار، دون ذكر مرض الإمبراطور:
“حين يُرافقك عدد كبير من الجنود، يكون هناك قيود على التحرك. لا مفر من ذلك.”
“لهذا ذهبتَ إلى مكانٍ ما فور وصولك للعاصمة… لم أكن أعلم.”
“الأمر ليس مهمًّا.”
فتح كبير الخدم الباب وهو يبتسم بلطف:
“ستقيم الليلة إذن. ممتاز. ستُلاحظ التغييرات التي طرأت على القصر.”
وحين فُتح الباب، شعر دانتي بأن أجواء القصر اختلفت.
همم؟
حتى دانتي، الذي لا يُعير هذه الأمور اهتمامًا، لاحظ التغيير بوضوح.
لم يتبدّل لون الجدران، ولم تُغيَّر أماكن الأثاث، ومع ذلك، فالقصر أصبح ينضح بدفء لطيف.
بل، هل زاد عدد الأثاث؟
رأى قطعًا لم يرَها من قبل.
وعلى الجدار العريض الممتد من المدخل الكبير إلى الدرج، عُلِّقت قطعة نسيج ضخمة.
آه… كانت في المبنى الفرعي.
كل ما صنعته والدته تم حرقه من قِبل والده، عدا تلك القطعة، إذ نجت من الحريق.
لكنها كانت مرمية في زاوية المبنى الفرعي… فكيف وصلت إلى هنا؟
لكن التغيير الأكبر كان في غرفة الطعام.
فوق الطاولة الكبيرة، كان هناك مفرش أصفر مزخرف بالأزهار.
وحين جلس دانتي، وُضعت أمامه أطباق ملوّنة بأزهار جميلة.
هل كان في قصر الدوق مثل هذه الأشياء؟
قطّب حاجبيه باستغراب، فبادرت إيفون بابتسامة مشرقة:
“وجدتُ هذه الأطباق الجميلة نائمة في المخزن. أليست محببة؟”
“هذه……”
“وصنعتُ المفرش ليناسب زخرفة الأطباق.”
“صنعتهِ؟”
كان يظن أن المفرش أيضًا من المخزن، لكنها قالت إنها صنعته بنفسها.
وعندما أدرك أنها صنعت قماشًا يغطي هذه الطاولة الضخمة، اتسعت عيناه ونظر إليها بدهشة.
إيفون ابتسمت بخجل، وهزّت كتفيها بتواضع:
“اشتريت القماش فقط وختمته عند الأطراف. لا شيء يُذكر.”
“ولكن…….”
حتى دانتي، الذي لا يفقه شيئًا في الخياطة، لاحظ التفاصيل الدقيقة.
كانت حوافّ القماش مزينة بدانتيلٍ أنيق.
سألت إيفون بابتسامةٍ مشرقة:
“هل تسمح لي بتغيير شيء في غرفتك أيضًا، يا سيّد الدوق؟
لن ألمس المكتب ولا المكتبة، أعدك.”
“غرفتي؟”
“نعم. أتوقّع أنّها تحتوي فقط على سرير ضخم.”
كان توقّعها دقيقًا، لكن دانتي حاول الدفاع عن نفسه، خشية أن تراه شخصًا جافًّا:
“هناك سيف للزينة، وجلد دبّ أنا اصطدته عندما كنت صغيرًا…….”
لكن كبير الخدم قاطعه بلطف:
“كلّها في المخزن الآن، يا سيّدي.”
“آه، فعلًا؟”
حكّ دانتي خده بتعبيرٍ محرج. إيفون اتسعت عيناها وقالت:
“جلد دبّ؟! هل اصطدتَ دبًّا؟”
“نعم.”
خفض صوته فجأةً.
إيفون كانت قد قالت ذات مرة إنها لا تريد حتى ارتداء قفّازات من فرو الأرنب…
فكيف ستكون ردة فعلها إن عرفت أنّه قتل دبًّا؟
دون أن تدرك مشاعر دانتي، تحدّث كبير الخدم بفخرٍ بعد طول غياب سيّده وكأنهُ حان وقتَ ذلكَ:
“وليس أيّ دبّ! بل الدبّ الرمادي الذي لُقّب بذبّاح الجنوب…….”
“توقّف.”
قاطعه دانتي، ممسكًا بطرف ثوبه، لأنه لم يحتمل متابعة الكلام.
إن سمعت بهذا، ستخاف مني.
تخيّل فقط أن تبتعد عنه خوفًا… ذلك وحده كان كافيًا ليُثلج صدره.
لكن إيفون، على عكس توقّعه، عيناها لمعتا باندهاش:
“هذا النوع من الأشياء لا يُوضع في المخزن! يجب تعليقه بفخر عند المدخل!
لا توجد عائلات تملكُ شيئًا كهذا!”
قطّب دانتي حاجبيه من الدهشة.
“رُبما، لكن…… ألا يخيفك؟”
“هاه؟ طالما أنك لن تذهب لاصطياد واحدٍ جديد، فلا بأس.
ثم إنه كان يُسمّى بالذبّاح… أليس لأنه أضرّ بالبشر؟”
“صحيح.”
كان ذلك الدبّ قد هاجم عددًا من السكان، حتى وصلت أخباره إلى دانتي بصفته السيد.
قالت إيفون بقوّة:
“إذًا يجب أن تتفاخر بذلكَ!
لو عُلّق بجانب صورتك الشخصية، سيكون رائعًا فعلًا!”
“…….”
أطبق دانتي شفتيه بصمت.
هذا الشعور… يشبه ذلك اليوم، عندما قالت إنّ يديه الخشنتين تُعجبها.
شعور غريب يُدغدغ قلبهُ، ويجعل جزءًا منه يرغب في التفاخرِ.
ما هذا بحقّ؟
كتم دانتي ذلك الإحساس المزعج داخلهُ.
هذه المشاعر الغريبة تفجّرت بلا استئذان، فأربكتهُ.
والأغرب أنّه، رغم ذلك… كان يشعر بالسعادة.
قلبهـ ينبض بعنفٍ، ولا يريدُ تركها تذهبُ.
بل، كان يتمنى أن يقضي وقتًا أطول معها.
والآن وقت العشاء… طالما بقي صامتًا، سيكون من الطبيعي أن نبقى معًا.
لكن في تلك اللحظة، وبينما كان يظنّ أنهما سيتناولان الطعام سويًا، انحنت إيفون بلطف واستدارت:
“تمنّياتي لك بعشاء شهي.”
وهمّت بالمغادرة، فلم يجد دانتي وقتًا للتفكير أو التردّد، مدّ يده وأمسك بمعصمها.
“إلى أين؟”
“هاه؟”
“ألا يمكنك تناول الطعام هنا؟”
“لكنني خادمةٌ.”
في الأصل، لم يتمكنوا من إخراجها من بيت الكونت كليين إلا بعد أن وافقت على العمل في القصر.
لكن الآن، عندما سمعت نفسها تُسمي نفسها “خادمة”، شعر دانتي بالغضبُ.
كان غضبهُ بلا منطقٍ، وغير مفهومٍ حتى لهُ.
فقط عضّ على شفتيه بصمت.
من وضع حدًا لتوتر الموقف كان كبير الخدم، الذي سحب الكرسي بلطف وقال:
“تفضّلي بالجلوس، آنستي.”
“هاه؟”
رغم ارتباكها، جلست إيفون في النهاية.
وحين وُضعت أطباق الطعام أمامهما، سألها دانتي بهدوء، وكأنّه لا يهتم:
“وماذا فعلتِ في المنزل أيضًا؟”
“كان هناك تسريب ماء في المبنى الفرعي، فاستدعيت من يُصلحه.
وأيضًا…….”
استرسل صوتها الهادئ، وكان في أذنَي دانتي جميلًا، كأنّه موسيقى.
امرأةٌ صغيرةٌ ونحيلةٌ كـهذهِ… كيف يمكن أن تكون نشيطةً إلى هذا الحد؟
لقد أنجزت أمورًا كثيرة في غيابه.
“شكرًا على الطعام. سأذهب الآن لمساعدة السيّدة مارشا.”
أنهت وجبتها، وذهبت إلى المطبخ.
وبينما بقي دانتي وحيدًا على الطاولة، لم ينهض.
بل ظلّ جالسًا، شاردًا، وعلى وجهه ابتسامة دافئة.
عندها قال كبير الخدم وهو يبتسم بخفة:
“هذا هو أثارِ الزواج. يمنح الطمأنينة.”
“……لم أقل شيئًا.”
“منزلٌ دافئ، وكلمات لطيفة تُنسيك مشقّة العالم.”
“أصبحتَ ماكرًا في غيابي، أيّها الخادم.”
قال دانتي مبتسمًا بسخريةٍ خفيفةٍ.
التعليقات