بالكاد سمع تلك الكلمات، حتى تراءت أمام عينيه، وكأنها واقفةٌ بالفعل أمامهُ.
بشرتها الفاتحة، رموشها الطويلة بلون شعرها، وعيناها بلون البراعم الخضراء التي بدأت للتوّ بالنمو.
تذكّر دانتي تمامًا كيف كانت عيناها تبتسمان برقة كلما ضحكت، فتحدث بنبرةٍ شاردة:
“……نعم، جميلةٌ كالحُلم.”
وعندها فقط، أدرك دانتي ما في قلبه.
سواءٌ أنكر، أو حاول تجاهل الأمر، لم يكن هناك سوى سببٍ واحدٍ يجعلها تتكرر في ذهنه بهذا الشكل.
لأنها، بكل بساطة، قد احتلت مكانًا واسعًا في قلبه.
“……!”
نظر بنّتلي إلى دانتي الذي بدا مصدومًا، وضيّق عينيه.
“كلامٌ مثير للاهتمام.”
أن يتمكن أحدهم من جعل دانتي كريستوفر يتصرف هكذا، لهو أمرٌ لا يُصدّق.
وبما أن بنّتلي يعلم جيدًا أن صديقه لا يسمح لأي أحدٍ بدخول قلبه بسهولة، فقد بدا له هذا الوضع مثيرًا للدهشة، بل ومضحكًا بعض الشيء.
“هل وقعت في حبها مثلًا؟”
“……وإن كان؟”
بمجرد أن انتقل الحديث إلى الجانب الشخصي، تخلى دانتي عن أسلوبه الرسمي، وأظهر نبرةً حادة.
“وإن كنتُ كذلك، فماذا ستفعل يا بِن؟”
حتى الحذر… هذا يعني أن الأمر حقيقيّ.
قهقه بنّتلي بمرح، وعلّق:
“صديقي العزيز لا بد أنه كان ذا ذوقٍ عالٍ للغاية، حتى بقي بلا حبيبةٍ طوال هذا الوقت.
أن تُسلِم قلبك لآخر جنيةٍ بقيت في هذا العالم…”
أشبه بقصةِ الإمبراطور السابق الذي وقع تحت لعنةٍ شريرة من أجل إنقاذ جنيةٍ مسجونة.
لو كان الإمبراطور الحالي المريض في فراشه هو من سمع بذلك، لربما شعر بالغيرة من الإمبراطور السابق ومن دانتي معًا.
لكن بنّتلي لم يكن من النوع الذي يشعر بالغيرة دون سبب.
ضحك ضحكةً مكتومة، ثم سأل:
“هل اعترفتَ لها؟”
“ليس بعد. لم أتيقّن بعد من قدرتي الكاملة على حمايتها.”
“وماذا عن مشاعرها؟”
“لا أعلم.”
“دانتي.”
أن يُعاني بهذه الجديّة، رغم أنه لا يعرف مشاعر الطرف الآخر، ولا إن كانت ستقبل اعترافه أصلًا… إنه حقًّا دانتي المعروف برصانته.
ابتسم بنّتلي بخبث، وقال:
“في غيابك، وصل إلى القصر الملكي خطابٌ مثير. يقولون إنهم عثروا على ملابس الأميرة الملكية المفقودة في مقاطعة كليين.”
“همم؟”
بمجرد أن ذُكر ذلكَ ، عبس دانتي وركّز مع حديث بنّتلي.
فواصل بنّتلي وهو يبتسم بمكر:
“وللتأكد من الأمر، أرسلنا رسولًا بسرعة. ثم تلقينا تقريرًا يقول إنهم عثروا على الأميرة المفقودة نفسها.
القصر يخطط لإرسال فرسان الذهب لاستقبالها باحتفالٍ مهيب.”
لكن دانتي قاطعه:
“هذا مستحيل. المرأة التي أحضرتها أنا هي الأميرة المفقودة، وهذا مؤكد.”
أومأ بنّتلي برأسه.
فهو يعلم جيدًا أن صديقه العنيد لا يمكن أن يدّعي أمرًا بهذه الجديّة دون دليلٍ قاطع.
وبالتالي، فلا بد أن من ظهرت في مقاطعة إيرل كليين ليست سوى مُزيفة.
“يبدو أن عائلة كليين الذي أخفاها طوال هذه المدة قد بدأ لعبةً مثيرة.
يظنون أنني وأنت لا نعلم عن وجودها.”
“…….”
عض دانتي شفتيه بقوةٍ.
فـ كونت كليين هو نفسه من كان يخفي حقيقة كون إيفون هي الأميرة الملكية طوال هذا الوقت.
وما إن اختفت، حتى ظهرت فجأة “أميرة” بديلة… لا يمكن أن يكون هذا مصادفة.
لا شك أنهم لما يئسوا من العثور على إيفون، قرروا اختلاق أميرةٍ مزيفة.
فوق ما فعله ذلكَ الكونت بمحاولة تزويجها من ابنه بالخداع، ها هو الآن يريد أن يسرق منها كل شيء؟
حتى أن يجعلها تجهل للأبد أنها هي الأميرة الحقيقية؟
لا، لا يمكن تركهم وشأنهم.
قرر دانتي أنه لا بد من التحرك ضد كونت كليين.
لكن قبل أن يضع خطة انتقام مفصّلة، قاطعه بنّتلي من جديد:
“يعني، أذا اراد قلب صديقي العزيز، يمكنني أنا أيضًا التحرّك.”
نظرة دانتي اتجهت ببطءٍ نحو بنّتلي مجددًا.
كان الآخر يبتسم بمكرٍ خفيّ، وأكمل:
“إذا ظهرت حقيقة أنها الأميرة المفقودة، فستصبح بعيدة المنال أكثر فأكثر، أليس كذلك؟”
حقًّا.
فبمجرد أن يُعلن نسب إيفون، ستصبح في قلب الصراع السياسي.
طالما أن الإمبراطور المريض يصر على وجوب إعادة العرش للأميرة الحقيقية، فالوضع لن يكون بسيطًا.
بل ليس الإمبراطور وحده، لا يزال كثيرون يحنّون للإمبراطور الصالح الراحل، وللإمبراطورة الجميلة الغامضة.
“لكن، إن اعترفت بالجنية المزيفة، وأومأت بالموافقة، فستبقى تلك المرأة إلى جانبك بسهولة.
تصبح حينها فارسًا رومانسيًا وجد حسناءً في الريف وطلب يدها.”
قال بنّتلي كأنه شيطانٌ يُغوي ملاكًا، بنبرةٍ ناعمة.
“وأنتَ، ماذا تريد حقًّا؟”
نظر إليه دانتي بصمتٍ طويل، ثم فتح فمه ببطء:
“أنا…….”
* * *
متعب.
فرك دانتي عينيه المتعبتين.
كان بنّتلي رجلًا جيدًا كصديقٍ وكسيد، لكن الحديث معه يستنزف الطاقة دومًا.
بفضلهِ، عدت إلى البيت متأخرًا.
كان ينوي المرور في طريقه ليشتري هدية صغيرة لإيفون، كونها تزور العاصمة للمرة الأولى، لكن خطته تأخرت.
الآن صار الوقت أقرب للعشاء. لا يعلم إن كانوا قد أعدّوا طعامًا لهُ أيضًا.
وبينما هو غارق في تلك الأفكار، وجد نفسه قد وصل إلى قصر دوقية كريستوفر وسط العاصمة.
كان الجو مختلفًا تمامًا هذه المرة.
عمال؟
رأى مجموعة من العمال يخرجون من القصر وقت الغروب.
أمرٌ لم يكن معتادًا في هذا القصر، الذي لم يكن يوظف عمالًا ولا خدمًا من قبل.
هل يحدث شيءٌ ما؟
تذكر أن روان قد طلبت من إيفون الإشراف على تجديد القصر، كي تبقى مشغولة ولا تطلب الخروج.
وكان قد ظن أنها ستكتفي بالحياكة والتزيين فقط.
لكن يبدو أن إيفون كانت أكثر نشاطًا مما توقّع.
وما إن مرّ دانتي عبر البوابة، وسار في الحديقة، حتى أدرك بسرعة ما يقوم به العمال.
فقد كانت الحديقة محفورة في أكثر من موضع.
هل تُعيد تصميم الحديقة؟ لقد زرعوا نباتات جديدة أيضًا.
رغم أن العمل لم ينتهِ بعد، إلا أن التجديد كان يبعث إحساسًا خاصًّا بالنشاط والنضارة.
تأمل دانتي حديقته وهو يمرّ بجانبها، وفي تلك اللحظة سمع صوتًا ناعمًا ورقيقًا، لكنه مليء بالحيوية:
“شكرًا لجهودكم. يمكنكم الاستمرار بهذا الشكل.”
“حاضر، يا سيدتي.”
“قلت لكم، لا تنادوني سيدتي.”
كانت محادثة بين إيفون وأحد البستانيين.
توقف دانتي وأصغى لما يقولانه.
قال البستاني بمرحٍ:
“إن ترك فتاةً فاضلة مثلك، فسيكون سيدنا الأحمق الأكبر.”
“لو سمعك الدوق، سيؤدبكَ.”
“لا يهمني، لا يهمني. أنا لا أسمع إلا كلام سيدتي.”
“يا إلهي…”
يبدو أن البستاني قد أحبها كثيرًا.
ومع أن دانتي لا يراها، فإنه يشعر تمامًا بحرجها وارتباكها.
ابتسم بخفةٍ.
“إذًا، إلى اللقاء.”
ودعت إيفون البستاني، ثم اتجهت نحو القصر بخطواتٍ خفيفةٍ تكاد لا تُسمع.
لكن دانتي سمع وقع خطواتها بوضوح.
راح يعدّ خطواتها بصمت، حتى اقتربت منه بما يكفي، فأظهر نفسه.
“دوق!”
كان عليه أن يُبادرها بالتحية، لكن حين رآها أمامه، عجز عن الكلام.
سبقت إيفون بالكلام، فنادته أولًا.
رمش دانتي بسرعة من الدهشة، ثم قال ببطء:
“……يبدو أنكِ تعملين بجدّ.”
وفور أن نطق بتلك الجملة، كاد يضرب رأسه من الغباء.
ما هذا الأسلوب الجافّ؟
وكأنه رئيسٌ يمدح موظفًا!
هذا بسبب سنوات الحرب الطويلة.
تنحنح ليغطي على خجله، ثم أعاد تحيته قائلًا:
“مرّ وقتٌ طويل.”
فأجابته إيفون بابتسامةٍ مشرقة:
“نعم، فعلًا، مرّ وقت طويل. متى وصلت؟”
“للتو.”
كانت ترتدي بلوزة بيضاء، وتنورة حمراء منقوشة.
أما شعرها الفضي الجميل، فقد رفعته عاليًا.
فبدت مرحةً ومليئة بالحيوية.
اختلفت كثيرًا عن آخر مرة رآها فيها، لدرجة أن دانتي ظل يحدّق فيها بذهول.
حتى احمرّ خده بخفة، وأدار وجهه.
‘لقد فقدتُ عقلي تمامًا…’
التعليقات لهذا الفصل " 34"