بعد لحظة من التردد، اقترح البستاني نوعًا مناسبًا من الأزهار.
“نبات ديجيتاليس نبات ثنائي الحول، لذا عليكِ شراء الشتلات كل مرة. لهذا، إن زرعتيه الآن، فستتمكنين من رؤية زهرٍ جميل في الوقت المناسب. لن يكون هناك تعبٌ يُذكر أو خسارة أيضًا.”
لكن لم يكن الجواب المناسب أن تزهر الحديقة فقط أثناء إقامتي.
بناءً على ما جرى حتى الآن، كان من المرجح أن تُترك هذه الحديقة مهملة ومقفرةً بمجرد رحيلي.
لذا، كان عليّ أن أزرع أشجارًا مزهرة تدوم عامًا بعد عام.
“هل الورود هي الخيار الأفضل إن كنت أريد أزهارًا تدوم طويلًا؟”
“صحيح أنّها تستغرق وقتًا لتنمو، لذا قد لا ترضيكِ نتائجها على الفور…
لكن إن زرعتِ معها نباتات مثل السداب أو النعناع البري، القرنفل الأرضي، أو الزهور البرية مثل الماتاري لملء الفراغ، فستحصلين على تنسيق جميل لا يبدو باهتًا.”
“حسنًا، بما أن ترتيب حديقة كاملةً دفعة واحدة أمر صعب، فلنزرع الزهور في المناطق الظاهرة فقط، ونملأ الباقي بنباتات نُخطط لزراعتها العام المقبل.”
ولحسن الحظ، أعطى البستاني جوابًا مناسبًا سريعًا.
وبعد أن اتفقت معه على النباتات التي سنشتريها، وأثناء عبوري الحديقة للعودة إلى القصر، عبستُ قليلًا.
“…لكنها ما تزال شاسعة جدًا. إن ملأتُ هذه الحديقة الواسعة كلها بالورود فقط، فقد تصبح رتيبةً ومملةً.”
عندها فقط، تكلّم كبير الخدم الذي كان يستمع لحوارنا بابتسامة راضية لأول مرة:
“ما رأيكِ في إنشاء حديقة النباتات وسط الحديقة؟ بالمناسبة، لدينا بعض النباتات التي رُبيت في الدفيئة ويمكننا نقلها وزرعها فورًا.”
حديقة نباتات ! لم يخطر ببالي ذلك أصلًا.
صفقتُ بيديّ وابتسمتُ بسعادة.
“نباتات أخرى؟! يا لها من فكرةً رائعة!”
“حديقة من النباتات؟!”
كان البستاني العجوز أكثر سعادة مني.
بريق عينيه لمع كالأطفال، ثم سأل كبير الخدم:
“إذًا، هل يمكننا شقّ طريق من أحجار البازلت في المنتصف؟”
“إن سمحتِ بذلك يا آنستي.”
توجّهت الأنظار نحوي بشكل طبيعي.
وهل لديّ سبب لأرفض؟
“فلنبدأ بتوظيف العمّال أولًا.”
شق الأرض ونقل أحجار البازلت كان عملًا شاقًا على البستاني العجوز وحده.
بإجابتي، ابتسم البستاني ابتسامة واسعة وقال بصوت مرتفع:
“أعتمد عليكِ، يا سيدتي! سأبذل كل جهدي لأصنع تحفة فنية في حياتي!”
“…هاه؟”
فوجئت فجأة بأسلوبه الرسمي.
‘قلت لك لستُ “سيدتي”… لماذا غيّرت اللقب فجأة بعد أن كنا نتحدث بشكل مريح؟’
لكن يبدو أن الحماس غلب عليه، ولم أتمكن من تصحيح اللقب هذه المرة.
وانتهى بي الأمر بالعودة إلى القصر وأنا أُدعى “سيدتي”، بصحبة كبير الخدم.
كان كبير الخدم يبتسم راضيًا.
“لم أرَ البستاني بهذا النشاط والحيوية منذ عشر سنوات.”
وسرعان ما ستستعيد أنت أيضًا حيويتكَ.
نظرتُ إليه مبتسمةً.
“لديك أيضًا عمل تقوم به، يا كبير الخدم.”
“أنا؟”
البستاني سيوجهُ العمال الذين سيُوظفون لتنسيق الحديقة، لكن ترتيب القصر من الداخل سيتطلب جهدًا أكبر بكثير.
ابتسمتُ بلطفٍ وقلت:
“الأواني كلها مخزنة في المستودع، أليس كذلك؟ هل تُريني إياها؟”
* * *
كان دانتي مشغولًا جدًا بعد وصوله إلى العاصمة.
إنه مشغول في العادة، لكن الأوضاع السياسية غير المستقرة مؤخرًا جعلت الأمور أكثر تعقيدًا.
الإمبراطور كان طريح الفراش، يصارع الموت يومًا بعد يوم، وعرش الإمبراطورية على وشك أن ينتقل إلى يدٍ أخرى.
وفي مثل هذه الأوقات، لا شيء أكثر شيوعًا من محاولة التمرد، وهذا ما يعرفه الإمبراطور المريض نفسهُ أكثر من أي أحد آخر.
فهو نفسه لم يُزَحْ من العرش إلا عندما كان الإمبراطور الراحل في فراش المرضِ.
لهذا، جُمِع جميع قادة فرسان الإمبراطورية في العاصمة دون أن يُسمح لهم باصطحاب جنودهم.
بمعنى آخر، يمكن القول إنهم خضعوا لنوعٍ من الإقامة الجبرية في العاصمة، لمنع أي حركةّ تمرديةٌ.
‘حقًّا، لا عجب أن الناس يقولون إن المذنب لا يعيش بسلام.’
أما دانتي، فقد دخل العاصمة وهو يتجول بحرية خارجها، مما جعلهُ موضع ريبة.
خضع للتحقيق مرارًا، ولم يحصل على حرية الحركة داخل العاصمة إلا بعد أن وُضع عليه خاتم مانع لاستخدام السحر.
استغرق الأمر ثلاثة أيام كاملة.
ثلاثة أيام عالقة دون أن يفعل شيئًا.
لكن حتى بعد الإفراج عنه، لم يكن لديهِ وقتٌ للراحة.
فور خروجه، انهالت عليه الأعمال المتراكمة واللقاءات المتأخرة.
ومضت عدة أيام بسرعة في خضم تلك الانشغالات.
‘آه، ممل.’
كان يفضل التجوّل والتجارة مع روان بدلًا من هذا.
لكن، بالطبع، حقيقة امتلاكه كانت سرًا لا يعرفه سوى القليل.
عندما أبدى دانتي ضيقه، حاول أحد خدمه تهدئته مبتسمًا:
“تحلَّ ببعض الصبر يا سيدي. نعلم أن الحبس كان مزعجًا.”
“ليس الأمر كذلك تمامًا.”
اعتقد الخادم أن دانتي يحاول تجنّب سوء الفهم حول ولائه، لكنه كان صادقًا.
فما جعله منهكًا مؤخرًا لم يكن ضغط العمل، بل فتور حماسه.
بل الأدق، أن السبب كان امرأة شغلت تفكيره.
‘هل إيفون بخير الآن؟’
إيفون.
اعتقد أن قلبه سيهدأ عندما يغيب عنها، لكنه بات ينبض بقوة أكبر.
رغبة جارفة اجتاحتهُ لرؤيتها على الفور.
ما إن يُغمض عينيه حتى تظهر له صورة وجهها كما كانت في آخر مرة التقيا داخل العربة.
كان هناك الكثير ليقوله لها… لكن الكلمات لم تخرج.
كل ما تفوّه به كان:
“… إذًا.”
‘كيف لي أن أقول لها وداعًا بهذه الطريقة الجافة؟’
ها هي وحدها، في قصر غريب، بلا أحد تعرفه… ولم يملك حتى الشجاعة ليواسيها.
‘لماذا أعاني من هذا أصلًا؟’
وبعد أن ينهي دوامة أفكاره، لا يسعه إلا أن يشعر بالضيق من نفسه.
يتنهدُ لا إراديًا، فيسمعه خادمه الذي ابتسم بارتباك.
“يبدو أن مزاجك ليس جيدًا اليوم. ما رأيك أن ترتاح مبكرًا الليلة؟”
“لكن…”
“لقد استعدت حريتكَ للتو، بعد الحجز. أعتقد أن ركوب الخيل قد يُفيدك.”
“رُبما.”
في الحقيقة، لم يكن يشعر بالضيق، لكنه قَبِل الاقتراح فورًا.
ليس من أجل ركوب الخيل، بالطبع.
‘طالما سُمح لي بالتنقل داخل العاصمة، فلا بأس بالذهاب إلى القصر.’
الحقيقة أن منحه الحرية داخل العاصمة لم يكن عبثًا.
الجميع يعلم أن دانتي لا يغادر القصر الإمبراطوري بسهولةٍ.
حتى الخادم الذي اقترح عليه ركوب الخيل لم يكن ليخمن أنه سيعود إلى القصر الذي ترك فيه إيفون.
لكن هذا لا يهم.
دانتي قرّر العودة إلى قصره.
‘من الوقاحة أن أترك الضيفة هناك لفترة طويلة دون أن أراها.’
وهو لم يهتم لأمرها طوال الفترة الماضية، لكنه بارع في التبرير.
هكذا، أسرع دانتي في خطواته عائدًا إلى القصر.
وفي تلك اللحظة، ذلك الشخص الذي كان على وشك أن يقترب منه منذ أن دخل العاصمة، ظهر أخيرًا.
“دانتي، صديقي العزيز.”
تجهم دانتي واستدار.
“تعرف جيدًا كم أكره هذا الكلام المقزز.”
كان ذلك الرجل الذي تبعه، يبتسم بتسلية تحت شعره الذهبي البراق. إنه ولي العهد بنتلي.
فتح ذراعيه على اتساعهما وقال:
“إذًا، ماذا أسميك؟ كنزي؟ تابعي المخلص؟ هديتي الثمينة؟”
“نادِني كما تشاء.”
“بعد هذا الغياب الطويل، هذا كل ما أحصل عليه؟ ألا تستحق صداقتنا فنجانًا من الشاي؟”
“عشر دقائق فقط.”
“علينا أن نشربه قبل أن يبرد إذًا. تُرى، هل لسان الدوق سيتحمل الحرارة؟”
رغم رده الجاف، تبع دانتي بنتلي إلى الداخل.
وحين تأكّد الأخير أن لا أحد يسمع، سأل دانتي بوجه جاد فجأة:
“أين هي؟”
كان يقصد إيفون، بالطبع.
فهو من أمر بالبحث عنها من البداية، وليس غريبًا أن يسأل عنها مباشرةً.
لكن هذا أزعج دانتي بشكل غريب لا يمكن تفسيره.
أجاب بجفاف:
“في قصري.”
“هل رآكم أحد وأنتم تدخلون؟”
“لا أظن. سافرنا بسرعة دون توقف تقريبًا. لكن بسبب مظهرها اللافت، لا أستطيع تأكيد ذلك.”
حتى مع كل تلك العجلة، لم يكن من الممكن إبقاءها في العربة دومًا أو الاكتفاء بطعام على الطريق.
كانا يضطران إلى التوقف في نزل أحيانًا لتناول الطعام.
وشعرها الفضي المتلألئ تحت ضوء الشمس كان كافيًا ليجذب الأنظار.
رفع بنتلي حاجبه بدهشة خفيفة، ثم سأل بنبرةٍ فيها اهتمام واضحٌ:
“هل هي… جميلةٌ؟”
التعليقات لهذا الفصل " 33"