كان أول مكانٍ دلّني إليه كبير الخدم هو المطبخ.
ورغم أنّ المنزل بأكمله بدا قديماً، إلا أنّ المطبخ بدا نظيفاً، ويبدو أنّه كان يُصان بشكلٍ منتظم، ربما لأنّهم كانوا يُحضِّرون الطعام فيه يوميًّا.
‘لكن رفوف الأواني شبه فارغة، والأواني الظاهرة خشنة لا تليق بمنزل دوق.’
لا شك أنّ السبب في ذلك هو أنّ دانتي لا يمكث هنا كثيراً.
غالبًا ما كان الموظفون يكتفون بإعداد وجبات بسيطة لأنفسهم، ولم يكن هناك داعٍ لعرض أوانٍ فخمة تُستخدم عادة من قِبل الدوق.
‘أواني البورسلان الجميلة باهظة الثمن على أيّ حال.’
وأواني البورسلان تعتبر جيّدة مقارنةً بالأواني الفضية، فهذه الأخيرة يتغيّر لونها سريعاً إن لم تُلمَّع باستمرار، ولا يمكن استخدامها عندها.
حتى لو تمّ تخزين الأواني داخل الخزائن، فإنّ أدوات الطعام الفضية تتطلّب تنظيفاً متكرّراً.
وبالفعل، كما توقّعت، كانت السيدة الوحيدة في المطبخ تقوم بتلميع الأدوات الفضية بقطعة قماش جافّة.
وعندما رأتني، فوجئت وقامت من مكانها مذعورة.
“أوه، يا إلهي!”
تحطّم شيء!
لحسن الحظ، لم يكن من البورسلان بل من الفضة، فلم ينكسر.
رغم أنّ الحافّة تبدو وكأنها قد انبعجت.
أشار كبير الخدم إليها قائلاً:
“هذه السيّدة مارشا، وهي المسؤولة عن المطبخ.”
ابتسمتُ بلطف وقدّمت لها التحيّة:
“مرحباً، أنا اسمي إيفون. جئتُ لأُدير هذا القصر…”
“أخيراً، أتى سيّدنا بزوجتهِ إلى المنزل!”
صاحت السيدة بصوتٍ عالٍ قبل أن أُكمل حديثي.
تجمّد جسدي من الدهشة عند سماعي لكلمة ‘زوجة’، فأمسكت بيدي وهزّتها بحرارة وهي تقول:
“إسمكِ إيفون، أليس كذلك؟ حتى اسمكِ جميلٌ! يسعدني كثيراً لقاؤكِ! لو أنّ سوزانا التي ماتت العام الماضي رأتكِ، لفرحت كثيراً.”
“……”
كان ينبغي أن أوضح الأمر، لكنّها كانت سعيدة جدًّا، فلم أستطع قول شيء.
ولم تمنحني فرصة للكلام من الأساس!
بعدها، سلّمتُ على البستاني في الحديقة، وحدث نفس الشيء تماماً هناك.
“أوه!”
ما إن رآني البستاني وأنا أمشي مع كبير الخدم، حتى نهض من تحت ظلّ الشجرة التي كان يجلس عندها، وهتف بصوتٍ عالٍ:
“مرحباً، يا سيدتي!”
“هاه؟ أنا… لستُ سيدتك، بل اسمي إيفون…”
“الآن، حتى لو ذهبتُ إلى القبر ورأيتُ سيّدي هناك، فسأرتاح. يا له من يومٍ جميل!”
“……”
لماذا يظنّ الجميع بشكلٍ بديهي أنّني زوجة دانتي؟
عادةً، حتى وإن كان الموظفون مهتمين بحياة مالكهم الشخصيّة، فإنهم لا يُصرّحون بذلك بهذه المباشرة، لأنّ أيّ خطأ في الكلام قد يجرّ عليهم العقوبة.
لكنّهم كانوا يتحدثون عن دانتي دون تردّد، ويُعبّرون عن فرحهم الحقيقي بظنّهم أنّني زوجته.
ومن خلال ذلك، أدركت طبيعة العلاقة بين دانتي وموظفي القصر.
“يعني أنّ جميع من يعملون هنا قد خدموا هذا القصر منذ أن كان الدوق طفلاً؟”
أومأ كبير الخدم برأسه وهو يبتسم بفخر.
“نعم، سيّدنا شخصٌ عاطفيّ للغاية.”
“ومنذ ذلك الحين لم يتمّ تعيين أي موظف جديد؟”
“نعم، هذا صحيح.”
لهذا، لم يتبقَّ سوى عدد قليل من كبار السن في هذا القصر الواسع.
‘بهذا الشكل، لو دخل لصّ إلى القصر فلن يُكتشف.’
يبدو أنّ القصر يعمل بأقل عددٍ ممكن من الأشخاص.
البوّاب، كبير الخدم، الطاهية، والبستاني.
كان هناك غيرهم سابقًا، لكنّهم رحلوا واحدًا تلو الآخر، ولم يُستبدلوا بأحد.
‘ربما من الأفضل أن يبدو القصر مخيفًا… حتى لا يفكر اللصوص بالدخول إليه لعدم وجود ما يُسرق.’
ومن يدري، ربما كانت هذه هي السّبب الحقيقيّ في أنّ القصر بقي آمناً حتى الآن.
“هل هناك سببٌ لعدم توظيف أشخاص جدد؟”
“في الماضي، تمّ توظيف شخصٍ جديد، لكنّه سُرعان ما كُشف وهو يسرق ممتلكاتٍ من القصر.
وحين حاولت المُربية منع السرقة، دفعها ذلك الرجل وأصابها، ويبدو أنّ ذلك ترك أثراً عميقًا في نفس السيّد.”
“لقد فَهمتُ.”
“سيّدنا لا يثق بالناس بسهولة. لذا فإنّ مجيئكِ يا آنسة، أمرٌ جيّد للغاية.”
“هاها…”
ضحكتُ بخجل على مدحِ كبير الخدم.
على الأقل، الآن عرفت أنّ دانتي يقدّر المقرّبين منه كثيراً.
‘لكن بهذا الشكل، لن يستطيع القصر العمل كما ينبغي.’
بعدها، أرشدني كبير الخدم إلى الغرفة التي سأُقيم فيها.
كانت غرفة كبيرة جدًّا ومُزخرفة بطرازٍ قديمٍ فخم.
“هل يمكنني استخدام غرفةٍ بهذه الضخامة؟”
“لطالما كانت خالية. لذا سيكون من دواعي سرورنا أن تستخدميها.”
“شكراً جزيلاً.”
“إذن، أتمنّى لكِ راحةً هانئةً.”
انحنى كبير الخدم وخرج من الغرفة.
وضعت حقيبتي على الأرض وتجولت في أرجاء الغرفة.
‘يبدو أنّها كانت غرفة مهمّة… أن تُحافظ على هذا القدر من النظافة، رغم أنّه لا أحد يسكنها، أمرٌ لافت.’
رغم قلّة الموظفين في القصر، إلا أنّ الغرفة نُظّفت بعناية.
ومن الداخل، بدا كأنّ آخر من استخدمها كانت امرأة، إذ وُجدت غرفة ملابس واسعة تحتوي على فساتينٍ قديمةٍ جداً، معلّقةً بترتيب.
“تمّ حفظها بطريقة ممتازة.”
رغم أنّها أصبحت خارج نطاق الموضة، إلا أنّ المواد والحالة العامة للفساتين كانت مثالية.
وبأقصى داخل غرفة الملابس، وُجدت تيجان، وأقراط، وقلائد، وقفازات حريرية، وجوارب حريرية، تطابق كلّها تلك الفساتين.
كانت جميعها تبدو باهظة الثمن، فأغلقتُ الباب بهدوء.
‘أخشى أن يُفقد شيءٌ من هذه الأشياء.’
لحسن الحظ، لم يدخل لصّ إلى القصر.
فكّرتُ في أن أشتري قفلًا جيّدًا وأُقفل الباب بإحكام.
نظرتُ من النافذة، فظهرت لي الحديقة الواسعة وكأنّها أطلالٌ.
(ميري : الأطلال هي ما تبقّى من آثار المباني القديمة بعد أن تهدّمت أو اندثرت، سواء كانت بيوتًا أو قصورًا أو معابد أو مدنًا أو حتى قطع أرضٍ مرممةٍ. وهي شاهدٌ على وقتٍ سابقة.)
ربّما لأنّ البستاني ما يزال يقوم بتهذيب الأشجار وقطع الأعشاب، لم تكن فوضويّة، لكنها بدت مهجورة.
القصر والحديقة، كلّ ركن فيهما يحتاج إلى من يعتني به.
تنهّدتُ وأنا أُحدّق في الخارج، ثم التفتُّ للخلف.
“لن يكون الأمر سهلاً، أليس كذلك؟”
كان فيبي يركض هنا وهناك داخل الغرفة، ثم تمدّد وهو يتذمّر.
『هذا غير طبيعي حقاً. أن يترك المرء قصره ليصل إلى هذا الحدّ من الإهمال… يا له من شخصٍ غريب.』
هززتُ رأسي.
كنت لا أزال جريحة من إيذاء إيميل و روزيان لي، ولم أرد أن ألوم دانتي أيضًا.
إن كانت المُربية التي يعتبرها كعائلته قد أُصيبت بسبب لصّ، فمن الطبيعي أن يخاف من توظيف أحدٍ جديد.
“رجاءً، لا تتحدّث عنهُ هكذا. فالثقةُ بالناس تحتاج إلى شجاعة.”
『ههه! لا تدافعي عنه أمامي.』
أدار “بيبي” رأسه بعيدًا وهو ينفخ بخديه، لكن شكله اللطيف والرخو جعلني أبتسم.
مرّرتُ أصابعي على فيبي فأغمض عينيه كأنّه يغفو، ثم تمدّد على حجري وهو يتمتم بتذمّر:
『لا تُجهدي نفسك كثيراً. يبدو أنّه قصر لا يزوره أحد، فما الحاجة إلى ترتيبه وتزيينه؟』
“لكنّ المنزل يكون أجمل عندما يكون دافئًا وجميلاً، أليس كذلك؟”
حتى لو لم يأتِ دانتي كثيراً، فعندما يأتي ويجد المكان دافئًا ومريحًا، سيسعدُ بذلك.
وسيعود إليه تلقائيًّا كلّما احتاج إلى إعادة شحن طاقته.
‘وأنا أيضًا… أريد أن أكون شخصًا يساعدهُ.’
منذ خروجي من مقاطعة كليين، وهو يساعدني كثيرًا.
لذا، أريد أن أردّ له الجميل بما أستطيع.
وبما أنّ “فيبي أدرك نيّتي، لم يُعارضني هذه المرّة، بل اكتفى بالنقر بلسانه.
『أنا فقط خائف عليكِ. كيف ستُزيّنين هذا المكان الكبير وحدكِ؟ ومن الصعب أيضًا توظيف أحدٍ جديد.』
“أجل، لن أُرهق نفسي.”
كنتُ سعيدةً لأنّ فيبي يهتمّ بي.
في اليوم التالي، بحثتُ عن البستاني بحماس.
كنت أظن أنّ من الأفضل البدء بالتنسيق معهُ، لأنّ العناية بالحديقة تستغرق وقتاً طويلاً.
وبما أنّني لستُ زوجة الدوق فعلاً، فإنّ كلّ ما يتعلق بالمال لا بدّ أن يمرّ عبر كبير الخدم.
لذا، ذهبت لمقابلة البستاني برفقة كبير الخدم.
“ما الأمور التي يمكننا القيام بها الآن؟ وما الأشجار الموجودة في الحديقة؟”
فهم البستاني أخيرًا أنّني لستُ ‘السيّدة’، فصار يتحدث بأسلوبٍ أكثر راحة، وبدأ يُخبرني بأمورٍ مفيدة:
“يجب أن نُقلم أشجار الطقسوس والشمشير والدودونيا بشكلٍ جميلٍ.
كما أنّ الوقت حان لبدء تجهيز أحواض الزهور الشتوية.
لو زرعنا بذور البنفسج والكرنب الآن، فستنبت وتُزهِر في الشتاء، وهي زهرة ذات تأثيرٍ كبير مقابل تكلفةٍ بسيطة.”
“واو، لم أكن أعلم أنّ الشتاء يبدأ تحضيره من الآن.”
هززت رأسي بينما كنت أستمعُ باهتمامٍ.
المهمّة الأولى إذاً: زرع بذور النباتات التي تُزهِر في الشتاء، من الآن.
‘إذاً علينا شراء تلك البذور.’
لكن الشتاءُ ليسَ الآن ، أما علينا بـ مشكلةَ الآن…
“إذًا، هل سيكون من الصعب زرع زهور ملوّنة في الوقت الحاضر؟ أحُب أن أجعلَ الحديقةَ مبهرةً بالألوانِ.”
التعليقات لهذا الفصل " 32"