كان القصر الحجريّ الضخم، المصنوع من صخور رماديّة هائلة، يبدو وكأنّ له عمرًا من مئات السنين.
أشجار التنّوب، التي لا تُزرع عادةً قرب المنازل، كانت منتشرة في كل مكان، مما جعل المكان يبدو كأنه قصر وسط غابة، لا في العاصمة.
‘يليق بالدوق تمامًا.’
كان قاسيًا وكئيبًا في مظهره، لكنّ ذلك بدا مناسبًا تمامًا لدانتي.
وبينما كنتُ أرمش بعينيّ أمام ذلك القصر العظيم، التفتّ إلى روان وسألتها متردّدة:
“هل سأعمل هنا؟”
“نعم، هذا صحيح. سأشرح لكِ ما يجب أن تقومي به.”
قفزت روان من العربة بخفّة وبدأت تسير بخطوات نشيطة نحو المدخل.
فنزلتُ خلفها بسرعة وسألتها:
“م- مهلاً! أعتقد أنّ علينا تحديد مكان إقامتي أولاً. أحتاج إلى تفريغ أمتعتي.”
لم يكن معي سوى حقيبة صغيرة، لكنني قلتُ ذلك فقط لأطلب مساعدتها في إيجاد غرفة لي.
فلو غادرت روان فجأة مثل دانتي، ربما سأشعر بالضياع وأبدأ في البكاء.
توقّفت روان فجأة عن المشي عند سؤالي، ثمّ مالت برأسها وكأنها لم تفهم ما أقول، وسألتني بدهشة:
“إقامة؟ هل كنتِ تنوين العثور على مكان منفصل للإقامة؟”
“نعم؟”
أليس هذا طبيعيًّا؟ لم أفهم ردّ فعلها، فحضنتُ حقيبتي وسألتها باستغراب:
“يعني، لا يمكنني الاعتماد على مساعدة الدوق إلى الأبد. لم يتمّ توظيفي بشروط تتضمن السكن والطعام، أليس كذلك؟”
خاصةً أن بقاء امرأة عازبة في منزل رجل عازب قد يُحدث شائعات غير مناسبة.
لم أجرؤ على قول ذلك بصوت عالٍ، لكن روان، وكأنها فهمت حتى ما لم أنطق به، رفعت كتفيها وقالت:
“لا أظن أنّ صاحب السمو يكترث كثيرًا لذلك. في الأساس، هو لا يأتي إلى القصر كثيرًا. لا داعي للقلق.”
“هل يغيب كثيرًا عن القصر؟”
“لديه مكان إقامة منفصل داخل القصر الإمبراطوري. حين يكون في العاصمة، يقيم هناك معظم الوقت. وفي أغلب شهور السنة، يكون في الإقليم أو يقوم بمهام خارجيّة.”
“آه…”
لا عجب إذاً أنّه لم يتردد في دعوة امرأة عازبة إلى منزله، لأنه نادرًا ما يأتي.
‘محبط.’
انخفض رأسي بخيبة دون أن أشعر، ثمّ انتبهت لنفسي بسرعة.
‘ما الذي أحبطني الآن؟! استفيقي!’
منذ أن وجد فيبي في الوادي، أصبح قلبي يرتجف كلّما رأيت دانتي، وكان ذلك مزعجًا.
هززت رأسي لطرد تلك المشاعر.
‘بل هذا أفضل. إن لم أره، فستختفي هذه الارتجافة الغريبة.’
دون أن تنتبه لحالي، تابعت روان سيرها بثبات، ثمّ أمسكت الباب الثقيل.
“أنتِ لا تعرفين أحدًا في العاصمة بعد، وليس لديكِ مدّخرات. هناك غرف كثيرة فارغة في هذا القصر. يمكنك استخدام الجناح الجانبي بأكمله إن أردتِ.”
شدّت الباب بيدها، فانفتح ليُظهر بهو القصر الرماديّ الضخم.
عادةً، تكون صالة الاستقبال هي الأجمل في أي قصرٍ نبيل.
لكن قصر دوق كريستوفر كان مختلفًا.
“……موحش، أليس كذلك؟”
“نعم.”
في الحقيقة، بدا أشبه بقبرٍ ضخم.
لا حاجة لأن يكون الداخل والخارج رماديّين بهذا الشكل!
‘ربما كان من الصعب لصق ورق جدران على هذه الجدران، لكن على الأقل يمكن طلاؤها، أو تعليق بعض الزينة أو حتى إنارة المكان!’
أشرتُ إلى الجدار المركزي الفارغ وقلت:
“عادةً، توضع هنا لوحة جدارية، وهنا تُعلّق صور العائلة. لكن لا يوجد شيء على الإطلاق.”
“لأن لا أحد يهتم. والد الدوق السابق أحرق كل شيء.”
تساءلت عن سبب قيامه بذلك، لكن روان فقط عبست وقالت:
“كان مجنونًا.”
ثمّ أشارت بحماس إلى المنزل الكئيب قائلة:
“مهمّتك هنا هي تزيين هذا المكان ولو قليلًا. سنتكفّل بمكافأتك بسخاء، فاعتمدي علينا.”
كانت وظيفة مناسبة لطبيعتي، بل وأحببتها فعلًا.
لكنني لم أستطع الموافقة مباشرة، إذ إنّ تزيين المنزل كان من اختصاص ربّة المنزل.
“هل يمكنني فعل ذلك فعلاً…؟”
ماذا لو زيّنت المنزل، ثمّ لم يعجب ذلك زوجة الدوق المستقبليّة؟
وحين تردّدتُ وبدأت الكلام بحذر، رفعت روان كتفيها مجددًا وقالت:
“رأيتِ حالته، أليس كذلك؟ قد ينتهي به الأمر عازبًا مدى الحياة. لا تقلقي بهذا الشأن.”
ما خطب دانتي!
شعرت بالضيق، لكن قبل أن أرد، عانقتني روان فجأة.
لم يعانقني أحد من قبل، فتيبّستُ من الصدمة.
ربّتت على ظهري بلطف وقالت:
“أنا مرتاحة لأنكِ تولّيتِ هذه المهمة. اعتني بنفسكِ حتى نلتقي مجددًا.”
“حسنًا.”
ارتعش أنفي بتأثّر.
وبعد أن شدّتني مرةً أخيرة في حضنها، أفرجت عني.
فتّشت حقيبتي وقدّمت لها زوجًا من الجوارب التي صنعتها بنفسي.
“هذه هدية.”
“هدية؟”
اتّسعت عينا روان وهي تتلقّى الجوارب المحبوكة، فابتسمتُ لها قائلة:
“بفضلك وصلتُ إلى العاصمة بأمان. شكرًا لكِ.”
“أوه، بحقّكِ…”
احمرّت وجنتاها تأثرًا، وقالت:
“لماذا أنتِ طيبة هكذا؟ إن وقعتِ في أيدي الأشرار فماذا ستفعلين؟”
“ومن سيسيطر عليّ أصلًا، وأنا لا أجيد شيئًا!”
“هذا غير صحيح. أنتِ فتاة جميلة، لطيفة، ومحبوبة.”
انحنت روان قليلاً وأكملت.
“سيكون لديكِ الكثير من العمل هنا. أرجوكِ كوني لطيفة كما أنتِ اليوم.”
“هذا ما أرجوه منكِ أنا أيضًا.”
وبينما ظننتُ أنّها سترحل الآن، توقّفت لبرهة، ثمّ نظرت إليّ بجدية وقالت بإصرار:
“لو حصل شيء، اتّصلي بي فورًا. سأبذل قصارى جهدي لأساعدكِ.”
“شكرًا لكِ.”
شعرتُ بإخلاصها، فكاد البكاء يغلبني مجددًا.
دخلت قصر دوق كريستوفر، وجلست أنتظر في غرفة الاستقبال، إلى أن خرج رجل مسنّ نحيل، شعره أبيض بالكامل.
“تشرفت بلقائكِ يا آنسة. أنا أماندو، كبير خدم هذا القصر.”
“تشرفتُ بك.”
لم يُزعجني تأخّره في المجيء.
ما لفت نظري أكثر هو مدى الخراب والوحشة في القصر الذي لم يمرّ فيه أحد.
‘هل لا يوجد موظفون؟ أم أنّ الجناح الرئيسي لا يُستخدم أصلاً؟’
عادةً، حين تدخل عربة غريبة إلى القصر، يخرج كبير الخدم لاستقبال الزائر.
لكن بعيدًا عن هذه التفاصيل، فإنّ سلوك الخادم كان مثاليًّا كأيّ خادمٍ في عائلة أرستقراطية.
انحنى بأدب، ثمّ أوضح لي مهامي قائلًا:
“وردتنا تعليمات بعدم التقييد بأي ميزانيّة في ما ترغبين في تغييره. سواء الأثاث أو الورق، افعلي ما تشائين.”
“ماذا! كيف عرف ما سأشتريه؟!”
لا أدري كيف أصدر دانتي تلك التعليمات، رغم أنّه لم يصل إلى القصر، لكن فكرة ‘اشتري كلّ ما ترغبين فيه دون تردد’ أرعبتني.
‘لم يُسمح لي حتى بهذا حين كنتُ خطيبة إيميل.’
لم أكن أستطيع تغيير كرسيّ واحد في قصر آل كلين.
حتى الأثاث والمفروشات في غرفتي لم تكن على ذوقي.
وحين لاحظ كبير الخدم تردّدي، ابتسم بلطف ودفعني برفق نحو الداخل:
“لا تقلقي، بل أرجو أن تشتري بسخاء. هناك ميزانية مخصصة لصيانة القصر وتحسينه كل عام، لكنّ السيّد لا يستخدمها إطلاقًا، فبقي منها الكثير.”
“حقًا؟ لكن…!”
كنت على وشك أن أقول: كيف لا يهتمّ أحد بالقصر؟
لكن فجأة، صُدمتُ بمنظر الحديقة من خلف النافذة القديمة الطراز.
بدت الحديقة قاحلة كما لو كنتُ في أرضٍ تغطيها الثلوج.
وأشجار التنّوب… عادةً لا تُزرع في منازل النبلاء لأن الطيور لا تحطّ عليها.
“……أعتقد أن أول خطوة ستكون توظيف بستاني، أليس كذلك؟”
“يوجد بستاني بالفعل. لكن الدوق أمره بألّا يفعل شيئًا، لذا لم يجرؤ على لمس شيء.”
“هل من سبب لذلك؟”
أجابي كبير الخدم بنبرة هادئة:
“ربما لأنّه لا يريد إزعاجًا.”
“يا إلهي…”
يبدو أن القصر أكثر إهمالًا مما تصوّرت.
“كان بإمكانك التدخل بنفسك.”
“لكن إن حاولتُ، يقول لي دائمًا إنّ الراحة من واجباتي.”
“يبدو أنه سيّد كريم جدًا.”
“الراحة الزائدة تجعل الخدم في حيرة، لذا أرجو أن تُشغلينا بمهام كثيرة يا آنسة.”
ضحكتُ قليلًا من مزاحه المهذّب، ثمّ وقفتُ.
“في البداية، أودّ مقابلة من يعملون هنا.”
التعليقات لهذا الفصل " 31"