بعد أن رفض خطبة فيفيان بأدب، بدأت عروض الزواج تنهال على دانتي من كلّ صوب.
منصب زوج الدوقة الذي لا يتدخل أهلهُ في شؤونها الداخلية كان يبدو مغريًا للغاية.
خصوصًا أنّ من بين هؤلاء المتقرّبين، كان هناك كثيرون يطمعون باستغلال دانتي الشابّ لمصالحهم.
لكن، لم يتمكّن أحد من هزيمة الحذر الشديد الذي ترسّخ في قلب دانتي، بعدما تلقّى طعنة في الظهر سابقًا.
‘لم أرغب يومًا في التقرب من أحد على وجه الخصوص…’
أعاد دانتي ترتيب أفكاره القديمة وهو يبتسم بسخرية دون أن يشعر.
‘لَم أرغب؟ هذا فعلٌ ماضٍ… أليس كذلك؟’
‘هل فقدت عقلي حقًا؟’
عندما سألته روان من قبل إن كان قد جُنّ، اكتفى بالضحك.
لكنّه حين بدأ يُراجع تصرفاته الآن، شعر أنّ حالته ليست طبيعية أبدًا.
‘أنقلبُ كلشيءٌ فقط من أجل دمية؟’
كان يتجوّل قرب النهر بحثًا عنها بعدما وضع سيفه جانبًا، وشعر بتصرّفه هذا غريبًا عليه.
ضاقت شفتاه بحنقٍ.
في تلك اللحظة بالضبط، رأى دمية محبوكة بخيطٍ بلون ياقوتٍ أخضرٍ براقَ ، معلّقة في وسط الجدول على غصن شجرة، تتمايل مع تيار الماء.
“ها أنتِ هنا.”
دخل دانتي إلى الماء.
تقدّم بخطوات ثقيلة، ثم التقط الدمية.
انحدرت المياه من الدمية فبلّلت قميصه.
مرّر دانتي يده بين خصلات شعره وهو يتمتم بضيق.
“ما الذي أفعلهُ بحق الجحيم؟”
أن ينزل إلى الجدول فقط ليستعيد دمية؟
حتى لو حاول تبرير ذلك، لم يكن هناك سوى سبب واحد.
“لقد وقعت في سحرها… بلا أي مجال للإنكارِ.”
لأن صاحبة هذه الدمية هي إيفون.
‘كم هي مزعجة هذه الدمية.’
ضغط دانتي على الدمية بأصبعيه، وهو يحدّق بها بنفور.
‘ليت الماء يتسرّب منها كليًّا.’
كان منزعج منذ البداية، لكن رؤيتها تقطر ماءً جعلتها أكثر إزعاجًا.
أطبق بقوة على رأس “فيبي”.
وفي تلك اللحظة…
“أيها الوغد! سأفقد رقبتي هكذا!”
“…هاه؟”
صوتٌ غريبٌ تردّد في المكان، كما حدث مرارًا من قبل بالقرب من روان.
لكن حينها، كانت إيفون موجودة، وكان هناك أشخاص آخرون أيضًا.
أما الآن، فلم يكن في المكان سوى دانتي وحده.
ضاق دانتي بعينيه وهو ينظر إلى فيبي.
“أكنتَ أنتَ من تكلّم؟”
“……”
تظاهر فيبي بالبراءة.
همهم دانتي باستياء، ثم جذب رأس الدمية بقوة.
“أيها… أجبني!”
“آآخ! حسناً! حسناً! توقّف! ستسحب رأسي فعلًا!”
رغم أنّه دمية، إلا أنّ فيبي صرخ وكأنّه يتألّم، وهو يحرك قدميه الصغيرتين بيأس.
“دمية تتكلم؟”
ضحك دانتي غير مصدّق.
نفش فيبي صدره بفخر، ومدّ بطنه الصغير.
“أجل! أول مرة ترى دمية تتكلّم؟”
“بصراحة؟ نعم.”
“طبعًا، لأنني مخلوق عظيم ومميز!”
‘ما الذي يهذي به هذا الغبي؟’
قطّب دانتي جبينه، غير مقتنع بكلام فيبي غير المنطقي.
لكن حقيقة أن دمية تتكلم كالبشر، تركت في قلبه رجفةً غريبة.
وأثارت بداخله شكًّا جديدًا تجاه إيفون.
“هل كانت هي تعرفُ بالسحر طوال الوقت، وتظاهرت بالجهلِ فقط؟”
قالت له إنها لا تعرف شيئًا، لكنها ربّما كانت تعرف جيّدًا، وتخفي الأمر فحسب.
فكّر بذلك، فتجمّد تعبير دانتي بحدة، بسبب حساسيته الكبيرة تجاه الكذب والخيانة.
قبل أن تزداد شكوكه نحو روان، تدخّل فيبي بسرعة.
“لا! أبدًا! مستحيل! تظن أنّ لديها ذلك القدر من الذكاء؟”
“……حسنًا، هذا صحيح.”
ابتسامتها البريئة لا تتناسب مع الكذب.
خصوصًا أنها، في لقائهما الأول، لم تكن تعرف من هو، ومع ذلك بكت بمرارة وسكرت حتى الثمالة.
لا تبدو كشخص قادر على الكذب بدهاء.
“إذاً، من تكون أنتَ؟”
ضاق دانتي بعينيه من جديد، فراح فيبي يلوّح بذراعيه القصيرتين بتفاخر.
“أنا أخر ما تركتهُ أمّها. بقيتُ نائمًا طويلًا، ولم أبدأ بالكلام إلا مؤخرًا.
رُبما استيقظت لأنّ أمرًا خطيرًا حصل مع إيفون.”
“حقًا؟”
خيانة خطيبها وصديقتها، ثم الهروب.
لا شكّ أنّها تمرّ بمنعطف خطير في حياتها.
‘إذًا هذه هي آخر شيء تركتها الإمبراطورة الجنيّة لابنتها.’
لم يكن في كلامه شيء يناقض المنطق.
راح دانتي يمسّد ذقنه ويفكر، حينها سأله فيبي بلهجة مشبوهة.
“لكن يبدو أنك تعرف من تكون إيفون، أليس كذلك؟”
“لنفترض ذلك، فماذا؟”
“إلى أين تأخذها إذن؟ هل تنوي إيذاءها؟”
قال فيبي بجديّة.
“لو كنت كذلك، فارحمها واتركها.
إن أردت تزوير موتها، فاقطع بعضًا من شعرها الذهبي فقط، هذا يكفي.”
ارتجف كتف دانتي عندما سمع تعبير “تزوير موتها”.
لكن فيبي واصل كلامه.
“فقدت والديها وهي صغيرة، ولم تعرف طعم السعادة ولا معنى العائلة.
إن أنا التزمت الصمت، ستعيش للأبد دون أن تعرف هويتها.
سأبقي السرّ، فقط… أطلق سراحها.”
رغم أنّ شكله مثل ورقةٍ منديّة مبلّلة ومجعدة، إلا أنّ كلماته كانت واثقة وثقيلة كهيئة تنّين عظيم.
ابتلع دانتي ريقه.
“إيذاؤها…”
لا يعلم ما سيحصل في المستقبل، ولا يعرف ما عليه فعله تمامًا…
لكن شيئًا واحدًا كان واثقًا منه:
“لن أؤذيها أبدًا.”
إن حاول “بينتلي” أن يمسّها بسوء، فسيبذل دانتي كل جهده لإيقافه.
‘كيف انتهى بي الحال هكذا فجأة؟’
حتى هذا الصباح، كان يشعر بعدم الارتياح تجاه هذه المهمة البائسة.
قطّب جبينه، فضحك فيبي بسخرية.
كلماته التالية اخترقت قلبه كالسهم.
“لكن قلبك لا يقول ذلك… لأنك تحبّ إيفون.”
“أحب…!”
تفاجأ دانتي وصرخ، لكنه سرعان ما احمرّ خجلًا وأغلق فمه.
ثم، بصوتٍ متكلّفٍ وجاف، سأل:
“…ما الذي يجعلك تظن ذلك؟”
لكنّ دوافعه لطرح هذا السؤال كانت واضحة جدًا، ما جعل فيبي ينفجر ضاحكًا.
“من غير الذي ينزل من منحدر ويفتش في الوادي من أجل دمية قماشية، فقط لإرضاء فتاة يحبّها؟”
“أووغ…”
لقد أصابه في مقتل.
أخفض دانتي رأسه.
بات حتى عنقه مصبوغًا باللون الأحمر.
‘حتى هذا الشخص، رغم مظهره، يبدو بريئًا.’
في العربة، لاحظ فيبي أن دانتي أنّه كان دائمًا يدافع عن إيفون، ما جعله يظن أنّه ليس مخلوقًا سيئًا.
اعتقد أنه يتصرّف هكذا فقط ليحوز إعجابها، وكان الأمر مسلّيًا له.
والآن، بعد أن أصبح فيبي في موقع السيطرة، قال بنبرة متعجرفة:
“إيفون محبوبة للغاية، أليس كذلك؟”
سعل دانتي متصنّعًا.
“أعتقد أنها فتاة طيبة.”
“تعني أنها مناسبة لتكون زوجتك، أليس كذلك؟”
“…توقّف عن السخرية. مظهرك لطيف، لكنك خبيٌث للغاية.”
“أوه! أنا أكبر منك سنًّا، يا هذا!”
هل يعلم هذا المخلوق الصغير كم يبدو تافهًا؟
بدلًا من الرد، ضغط دانتي على رأس فيبي بأصبعه.
صرخ فيبي مجددًا.
“آآآخ! رأسي سينفجر! إن فعلت، سترى منّي شيئًا فظيعًا!”
‘وما الذي سيخرج؟ مجرد قطن!’
نفخ دانتي ببرود، ثم قال بتحذير:
“لا تخبرها بشيء.”
أمال فيبي رأسه بتساؤل.
“لِمَ لا؟ أليس من الأفضل أن تعترف إن كنت تحبّها؟
خاصة أنّها انفصلت عن خطيبها الآن، وقلبها سيكون هشًّا… إنها فرصة.”
للحظة، بدا فيبي وكأنّه نسي من تكون سيدته، وهو يدفع دانتي للتصرف بجرأة.
لكن دانتي لم يتأثّر.
هزّ رأسه ببطء، وأجاب بجدّية:
“لا أريد أن أضع عليها عبئًا.”
نعم، قد تكون الفرصة سانحة الآن لتقريب المسافة بينه وبينها.
خصوصًا أنّ حالتها النفسية ضعيفة، ومتى ما عادت إلى العاصمة، ستتغيّر الأمور حين تقابل بينتلي والإمبراطور.
قد تكون هذه آخر فرصة.
‘لكن، لن أفعل ذلك.’
لا يريد أن يرهقها وسط هذا الوضع الغامض، ولا أن يخدعها بمشاعره دون أن يطلعها على كلّ الحقيقة.
ربما لو لم يكن يملك مشاعر تجاهها، لاستطاع التصرّف بخبث، لكن الآن…
بات ذلك مستحيلًا.
لعق فيبي شفتيه بضيق.
“تشيه، كنت آمل أن تتسرّع وتعترف فتُرفَض فورًا.”
قطّب دانتي وجهه في غضب.
يدفعه للفشل عمدًا؟ ذلك تفكير لا يفعله إلا الشياطين.
“ما أنتَ بحقّ الجحيم؟ مخلوق شرير؟”
“مـ-ماذا تقول؟ أنا التنين العظيم فيتوانيس! حامي الجنيات!”
“يا له من اسم مبالغ فيه.”
“ماذا!”
نَفَش فيبي فروه غضبًا.
التعليقات لهذا الفصل " 26"