يبدو أنّ مَكوثي بجانب العربة طوال وقت الاستراحة دون أن أذهب لأيّ مكان آخر، قد بدا غريبًا.
رفعتُ جسدي مبتسمة، ثمّ أجبتُ قائلة:
“آه، كنتُ أرسم شِعار عائلة كريستوفر على منديل لأقوم بتطريزه.”
“حقًا تنوين تطريزه؟”
“نعم.”
“ألن يستغرق وقتًا طويلًا؟”
“بلى، سيستغرق وقتًا لا بأس به.”
رغم أنّ يدي أسرع من الآخرين، إلّا أنّ تطريز منديل واحد فقط كان يتطلّب الكثير من الوقت.
فمن الأصل، كانت نتيجة التطريز تتناسب طردًا مع مقدار الجهد المبذول فيه.
لكن، لم يكن الوقت مهمًّا بالنسبة لي.
كنتُ ممتنّة لدانتي، كما أنّ التطريز كان من الأشياء التي أحبّها.
“على أيّ حال، بما أنّني سأبقى جالسة في العربة، فيمكنني التطريز أثناء السير.
ألن تشعروا بالملل من الاستماع إليّ فقط؟”
كنتُ قد قلت ذلك لأنّ ملامح دانتي بدَت عليه الملل طوال الوقت في العربة، فجاء رده سريعًا:
“لا، لا أشعر بالملل أبدًا.”
“حَـ-حقًّا؟ مـ-مع ذلك…”
“إن قمتِ بالحياكة داخل العربة، فقد يُصيبك الصداع.”
“لا أظنّ أنّ هذا سيحدث لي…”
لم أشعر بدوار الحَرَكة من قبل، فهل سيبدأ فقط لأنّي أقوم بالتطريز؟
بينما كنتُ أُحرّك أصابعي بتردّد، تنهد دانتي بعمق.
“…ما دمتِ تقولين أنّكِ بخير، فالأمر كذلك.”
كنتُ أعلم أنّه سيقول ذلك.
ابتسمتُ له ابتسامة مشرقة ولَحِقته، إذ كان أطول منّي بكثير، فحين يخطو خطوة واحدة، أحتاج لثلاث أو أربع خطوات صغيرة كالعصفور للحاق به.
سألته وأنا أُثرثر بحيوية:
“هل يمكنني تطريز الشعار بالخيط الأصفر؟ أم أنّك تفضّل لونًا آخر؟”
“لماذا الأصفر؟”
“لأنّني رأيتُ أنكم تزيّنون عادةً باللون الذهبي، لكنني لا أملك سوى هذا اللون الأصفر.
هل يمكنني استخدامه؟”
كان من الصعب شرح لونه تمامًا، لكنّ فراشةً مرّت في الهواء في تلك اللحظة، فأشرتُ إليها وأنا أُكمل حديثي.
عقد دانتي حاجبيه وقال:
“لونها صارخ للغاية.”
“أليس كذلك؟”
كان صاحب صورة قاتمة وثقيلة، لذا لم يكن اللون الأصفر ملائمًا له أصلًا.
‘فما العمل إذن؟’
ربّما الأفضل أن أختار لونًا فاتحًا من درجات البيج.
تجهمتُ تلقائيًا وأنا أفكر في ذلك، فقطع دانتي أفكاري بنبرة جافّة:
“اختاري اللون الذي ترينه جميلاً. ليس ضروريًّا أن يكون ذهبيًّا.
قلتُ لكِ من قبل، أنا لا أستخدم مناديلي.”
يعني ذلك أنّ هذا سيكون أوّل منديل يحمل الشعار، ويكون من صُنع يديّ.
رغم أنّ كلماته كانت تُشعرني بالمسؤوليّة الثقيلة، فإنّ قلبي كان مفعمًا بالحماس.
أحسست وكأنّي أوكِلتُ بمهمّة عظيمة، مما زاد من عزيمتي فجأة.
“آه!”
انتشر ألمٌ حادٌّ أسفل ساقي.
فوجئت، فنظرت إلى الأسفل، فإذا بغصنٍ حادٍّ قد خدش ساقي بشكل طوليّ.
“آه، لا…”
بدأت ساقي تحترق من الألم.
تنورة واسعة تُعيقني، وأحمل بين ذراعيّ أغصانًا، فلا أستطيع حتّى فحص الجُرح.
‘كما أنّه من المحرج رفع التنّورة الآن.’
بينما كنت مترددة، تَقدّم دانتي قائلاً:
“سأُساعدكِ، لا تُجهدي نفسك.”
لكن لكي يُساعدني، عليه أن يضع الأغصان التي يحملها جانبًا، وهذا سيؤدّي إلى تأخير موعد الطعام.
هززت رأسي بسرعة:
“لا بأس! لا يؤلمني كثيرًا!”
“ومع ذلك…”
تنهد دانتي مرة أخرى، ثم تابع السير بخطوات واسعة قائلاً:
“على كلّ حال، من الأفضل غسل الجرح أولًا.”
بعد أن جمعنا الأغصان في مكانٍ واحد، توجّهنا نحو مصدر الماء القريب.
في البداية ذهبنا باتجاه صوت الماء، لكن تبيّن أنّ التيّار كان أقوى مما توقّعنا.
والسبب أنّ أحد الجوانب كان مُتدرّجًا بشكل يشبه السلّم، حيث ينحدر الماء من ارتفاع إلى انخفاض.
كنا نقف في المنتصف تقريبًا.
الماء كان يتدفّق من ارتفاع يعادل خصري، مُحدثًا صوتًا قويًّا ورذاذًا منعشًا، ثمّ يتابع طريقه نحو الأسفل.
صرختُ بدهشة:
“واو، الماء يسقط من الأعلى للأسفل!”
في قصر عائلة كليين، كان هناك بحيرة ضخمة ونوافير، لكنّها لم تكن بهذا الشعور القوي والمنعش.
أجابني دانتي دون أن يبدو عليه الانزعاج:
“هذا ما يُسمّى شلّال. يتشكّل عندما يتدفّق الماء من مكان مرتفع إلى منخفض.”
من المرتفع إلى المنخفض…
على عكس نوافير قصر كليين التي ترتفع من الأسفل إلى الأعلى.
أومأت برأسي قائلة:
“إذًا، هذه هي طريقة تدفّق الماء الطبيعية.”
“لهذا السبب لا أحبّ النوافير. أيّ شيء يتم بالقوة أعتبره غير طبيعي، سواء أكان إنسانًا أم شيئًا آخر.”
ثم تابع بنبرة حازمة:
“سأتحدّث كثيرًا عن مثل هذه المواضيع لاحقًا، أما الآن، فاجلسي.”
“هاه؟ حضرتكَ ستُعاين الجرح بنفسكَ؟.”
“ومن غيري؟”
لكنّنا ما زلنا غير متزوّجين!
وقد تربّيتُ تربية صارمة منذ الصغر، لدرجة أنّني لم أُرِ إميلي حتى ركبتي من قبل.
‘هل أفكاري غريبة؟’
لكن، على عكس خجلي، لم يُبدِ دانتي أيّ تردّد.
‘حتى لو لم يكن ذلك محظورًا اجتماعيًا، فإنّني ما زلت أشعر بالحرج!’
فالمرء يحق له أن يرفض اللطف إن كان يشعر بالحرج!
دفعتُ يده برفق وقلتُ:
“أستطيع معالجة الجرح بنفسي. لا أبدو كشخص لم يتعرّض لأذى من قبل، أليس كذلك؟”
“بصراحة… نعم، هكذا تبدين.”
“كنتُ مشاغبة في طفولتي! وقبل لقائك مباشرة، كنتُ قد جرحتُ ركبتي!”
رغم أنّني جرحتها أثناء تسللي إلى الحديقة للتجسس على إيميل وروزيان.
جلستُ على حجر مُستوٍ أشار إليه، ورفعتُ تنورتي، فإذا بالجُرح أسوأ مما توقّعت.
‘آه، لهذا أراد أن يُفحصه بنفسه.’
جواربي البيضاء كانت ملوّثة بالدم، مما جعل المشهد مُخيفًا أكثر.
‘لكن لا يبدو أنّه جرحٌ عميق.’
فور نزعي للجوارب، صرختُ متألمة وارتجف جسدي.
‘آه، كم يؤلم!’
لا أعلم كيف خُدِشت بهذه الطريقة، وبينما كنت أرتجف، اقترب دانتي وأمسك قدمي بلُطف قائلاً:
“سأجذبها برفق، لتتمكّني من نزعها بحذر.”
“…نعم.”
هكذا، سحب هو الجورب بلُطف، وأنا أبعدته عن الجرح بصعوبة، إلى أن نزعته أخيرًا.
رغم أنّني كنتُ أخجلُ من إظهار قدمي بالجوارب، إلّا أنّني اليوم أظهرتُها عارية بالكامل.
‘لقد ارتكبتُ الأخطاء الواحد تلو الآخر طوال اليوم.’
حتى عندما أحاول استجماع قواي، تستمر الأمور في التعقيد.
أخفضت رأسي حزنًا.
‘لحسن الحظ، الجرح ليس عميقًا.’
رغم طوله، إلا أنّه لم يكن يتطلّب خياطة، كما أنّ النزيف قد توقّف تقريبًا.
ما جعل نزع الجورب مؤلمًا هو التصاقه بالدم المتجلّط.
غسلت الجُرح بلُطف بماء الجدول البارد، ووقف دانتي بجانبي واضعًا يديه على صدره، ثم أشار إليّ بذقنه وقال:
“بالمناسبة، ما ذلك الشيء؟”
“نعم؟”
استدرت لأرى ما يقصده، فإذا برأس بيضاوي يخرج من جيبي.
“آه.”
‘لا بدّ أنه كان منزعجًا جدًّا!’
بما أنه لم يكن يرى شيئًا سوى سماع الأصوات، فلا بدّ أنّ فضوله قد بلغ ذروته.
ترددتُ قليلًا، ثم عضضتُ شفتي.
‘ربّما لا بأس أن أخرجه الآن. لا بدّ أنه يعلم على الأقل أنّ عليه عدم التحرّك.’
اتّخذتُ قراري، فأخرجتُه وقدّمتُه لدانتي:
“هذا صديقي فيبي. إنّه تنين صغير.”
حين سمع أنّه تنين صغير، بدت على وجهه علامات الاهتمام الشديد.
مدّ يده الكبيرة وسأل:
“هل يمكنني لمسه؟”
فجأة، ارتعش جسد فيبي.
‘آه، يبدو أنّه لا يحبّ ذلك.’
لكن رفضي القاطع وسحب فيبي بسرعة قد يكون تصرّفًا غريبًا، لذا ابتسمتُ ابتسامة متوتّرة وقلتُ:
“بلُطف فقط؟”
“كنتُ أنوي ذلك على أيّ حال.”
أطراف أصابعه الخشنة رَبَتت على رأس فيبي برِفق.
رغم أنّ هذا الفعل بدا غير منسجم مع شخصية دانتي، لكن لم يكن الأمر بدافع اللُطف.
بل لأنّه لم يرَ شيئًا كهذا من قبل.
“لِمَ سطحه خشن هكذا؟ هل السبب هو سُمك الخيط؟ ولماذا استُخدم هذا النوع من الخيوط أصلًا؟”
“آه، لأنّه مصنوع بالحياكة. يختلف عن القطن أو الحرير الذي يرتديه سيادتكَ.”
“الحياكة؟”
“نعم، تُستخدم لصُنع أوشحة أو جوارب… ألم ترَ شيئًا كهذا من قبل؟ عادةً ما يُحاك للأطفال سترات أو لفّافات للبطن.”
“لا أظنّ ذلك.”
هزّ دانتي رأسه نافيًا.
التعليقات لهذا الفصل " 24"