‘سيكون كلُّ شيءٍ على ما يُرام.’
على أيِّ حال، عندما غادرتُ منزلَ كونت كليين، كنتُ قد عقدتُ العزمَ على أن أعيشَ حياةً لا تختلف عن حياةِ عامةِ الناس، وقد رحلتُ وأنا على هذه القناعة.
بعد أن رتَّبتُ أفكاري، بدأتُ أُجول قربَ العربة، فخاطبني السائقُ الذي لم أسبق لي الحديثُ معه قط.
“آنستي، لمَ لا تأخذين نزهةً قصيرة؟ لا يزال الطريقُ أمامنا طويلاً.”
رغم أنني شعرتُ بأننا قد قطعنا مسافةً لا بأس بها، إلا أننا ما زلنا بحاجةٍ للسفرِ أكثر.
كما هو متوقّع، كانت العاصمةُ بعيدةً جداً.
ابتسمتُ بلطف.
“آه، هناك أمرٌ يجب أن أفعله أوّلًا.”
كان عليّ أن أُطرّز ختمَ عائلة الدوق على منديل دانتي.
ولأفعل ذلك، كان من الضروري أن أُعاين شكلَ الختم.
درتُ حولَ العربة.
‘بما أنّ خبرَ ظهور عربةِ دوق كريستوفر في إقليمِ كليين لم ينتشر، فلا بدّ أنّ ختمَ العائلة لم يكن ظاهرًا بشكلٍ كبير على العربة.’
ومع ذلك، لا بدَّ من وجودِه لأغراضٍ إدارية.
وكما توقّعت، كان الختم محفورًا بالذّهبِ في مكانٍ خفيّ بالكاد يُرى.
عندما رأيتُه، عقدتُ حاجبَيّ بتفكير.
‘لا أملكُ خيطًا ذهبيًّا. عليّ أن أسأل إن كان من المقبول تطريزه بلونٍ قريب.’
حين خرجتُ على عَجَلٍ من منزلِ الكونت، لم يكن لديّ متّسعٌ لحملِ الكثير من خيوطِ الحياكة أو التطريز.
وبالطّبع، حتى لو كان لديّ وقت، فالحصولُ على خيطٍ ذهبيٍّ حقيقيّ، والمصنوعِ من الذهب، أمرٌ صعبٌ جدًّا.
‘سأحاول أن أُقارب اللونَ قدرَ المستطاع.’
فتحتُ حقيبتي التي لم تُفارقني حتى عندما خرجتُ من العربة، وأخرجتُ منها ورقةً وقلمًا لرسم الختم.
حينها، قفزَ أعزُّ ما أملكُ من داخلِ الحقيبة.
“أوه، كنتُ على وشكِ الاختناق من الضيق!”
كان ذلك فيبي.
“اشش!”
بشكلٍ غريزي، طلبتُ منه التزامَ الصمت، ثم نظرتُ حولي.
كان السائقُ قد ابتعد ليتفقّدَ المكان، وكان دانتي وروان منهمكَين في الحديثِ معًا، ولم يُبديا أيَّ اهتمامٍ بي.
‘الحمد لله.’
تنفّستُ الصعداء، وأخرجتُ فيبي من الحقيبة بحذر.
“أظنُّ أنه يمكنكَ الخروج الآن.”
“آه، كيف آلَ بي الحالُ لأُضطرَّ إلى التصرّفِ بحذرٍ هكذا؟”
تنهدَ فيبي بعمق، لكنه لم يُعقّب أكثر.
فهو يعلمُ بنفسه كم هو لافتٌ للنظر أن يكونَ دميةَ حياكةٍ تتحدّث.
لكن البقاءَ محبوسًا داخلَ الحقيبة لم يكن بالأمرِ السّهل أيضًا.
‘يا لكَ مسكين…’
رغم أن ملامحه الأصلية باتت مجرّدَ ذكرياتٍ باهتة، إلا أنني أذكره كتنّينٍ ضخمٍ وأنيق.
‘ومع ذلك، لم يكفه أن يتحوّلَ إلى دميةٍ، بل صار عاجزًا عن قولِ ما يشاء.’
مسحتُ بخفّةٍ على العُرفِ الصغيرِ في رأسه وسألتُه:
“برأيكَ، متى ستتمكّن من استعادةِ جسدكَ الحقيقي؟”
“لقد استغرق الأمرُ عشرات السنين لأستعيدَ وعيي، فلا بدَّ أن الجسدَ سيستغرق أكثر.”
“هل هذا يعني أنّك ستبقى على شكلِ دميةٍ صغيرة؟”
“من يدري…”
رغم أنه لا بدَّ يعاني ويضيقُ ذرعًا بذلك، إلا أنّ فيبي ابتسم وقال:
“على الأقل، بفضلِ هذا الشكلِ، أستطيعُ أن أظلَّ ملتصقًا بكِ هكذا. وهذه نقطةٌ تعجبني.”
شعرتُ بحرارةٍ تلسعُ أنفي. احتضنتُ فيبي وأنا أقاومُ الدموع.
“حين أستقرُّ في العاصمة، ستتمكّن من التصرّف بحرّيةٍ أكبر. فقط تحمّل قليلًا بعد.”
عندما أمتلكُ منزلي، سيحظى فيه براحةٍ حقيقية.
حين كنتُ أفكّرُ بأنّه يجب أن أبدأ بالبحثِ عن بيت، قال فيبي بنبرةٍ غاضبةٍ خفيفة، وقد ضيّق عينيه:
“هل حقًّا تنوين البقاءَ مع ذلك الفتى؟ حتى في العاصمة؟”
“هذا…”
انحبست الكلماتُ في حلقي. فأنا ببساطة لا أعرفُ خيارًا آخر.
فقال وهو ينقرُ بلسانه:
“أنا لا أوافق على ذلك الفتى.”
“لماذا؟”
“لا يُعجبني وجودُ رجلٍ آخر إلى جانبك.”
كنتُ متوتّرةً، خشيةَ أن يكون قد لاحظ شيئًا لم أُدركه، لكنّي انفجرتُ ضاحكة.
“يا إلهي، هل تغار؟ لا تقلق، أنتَ وحدك مَن أثقُ به، يا فيبي.”
“أتركي عنكِ هذا! ما هذا الذي تقولينه عن التنّين العظيم، فيتُوانيس!”
ومَن غيرك؟! بالطبع أنتَ فيبي الصغير!
عندما دلّكتُ وجنتيه، تململت الخيوطُ الخشنة والناعمة تحتَ أطرافِ أصابعي.
ضحكتُ، ثم وضعتُه على سطحِ العربة.
“تنشّقِ الهواء قليلًا، سأقوم برسمِ الختم.”
“هُمف.”
فيبي لم يُعجبه ما أفعله من تطريزٍ لدانتي، وعبّر عن امتعاضه بنفخةٍ خفيفة.
أراد أن يُلقي بمزيدٍ من التذمّر، فارتجفتْ كتفاه الصغيرة، لكنه كبحَ نفسه.
فمن يدري متى قد يقتربُ الناسُ فجأة؟
سق سق.
صوتُ القلمِ فوق الورقةِ كان يُثيرُ القشعريرة.
ولم يقتربْ دانتي وروان مني إلا بعدما انتهيتُ تقريبًا من رسمِ الختم.
“يا إلهي! إيفون تجيدُ الرسمَ أيضًا؟”
“أفعل؟”
“بالطبع! قليلون مَن يستطيعون رسمَ ختمٍ معقّد هكذا من أول نظرة.”
أمالتُ رأسي بتعجّب. إنها أوّل مرة أسمعُ فيها هذا النوعَ من المديح، ولم أدرِ كيف أُجيب.
ثم قال دانتي بصوته الجافّ وهو يشيرُ برأسه:
“لننطلق.”
عندها أسرعَ السائق، الذي كان قد منح الخيولَ بعضَ الراحة، إلى لجامها.
لكن…
“أوه، لا.”
يبدو أن الجيادَ قد أنهكت من الرحلةِ الطويلة. كانت تُزبد وتُحرّك رؤوسها بضيق.
ربّت السائقُ على عنقِ الحصان وقال بوجهٍ حائر:
“يبدو أننا بحاجةٍ إلى إراحتهم قليلًا.”
كان خائفًا من أن يغضبَ دانتي.
لكن دانتي، بعكسِ توقّعه، لم يُبالِ كثيرًا.
“لا بأس.”
عندها ابتسمَت روان وقالت:
“الوقت مناسب، فلنتناول الغداء هنا.”
اندهشتُ لسماعِ ذلك. صحيحٌ أننا كنّا نتوقّف أحيانًا في الغابةِ للراحة، لكن لم يسبق لي أن تناولتُ الطعامَ في الهواء الطلق.
“هل سنُعدّ الطعام هنا؟”
أجابت روان بابتسامة:
“أعددنا كلَّ شيءٍ مُسبقًا. لا تقلقي. كما أنني أُجيد الطهي.”
“واو، أنتِ ماهرةٌ في الطهي؟”
أما أنا، فلم أكن أعلمُ حتى كيف يُحضّر الطعامُ الذي آكله كلّ يوم.
بل إنني، وحتّى وقتٍ قريب، كنتُ أؤمنُ تمامًا بكلامِ إيميل عندما قال إنّ الزبدةَ تُقطفُ من شجرةٍ خاصة!
روان أثبتت صدقَ كلامها، وبدأت تُخرجُ الخضروات من الأمتعة.
ظهرت البصلاتُ الدائرية، والجزر الطويل.
نظرتُ بفضولٍ وأنا أُطِلّ من جانبها.
“هل هناك شيءٌ يمكنني مساعدتكِ فيه؟”
“هل سبقَ أن قطّعتِ الخضروات؟”
“لا.”
اكتفت روان بالابتسام بصمت.
ومن خلال تلك الابتسامة، فهمتُ المعنى خلفها.
‘آه… مساعدتي ستُتعبها بدل أن تُعينها.’
فتراجعتُ بهدوء، واخترتُ عملًا آخر لا يحتاجُ إلى سكين.
“سأُحضِرُ الماء. تحتاجين إليه، صحيح؟”
وضعتُ فيبي في جيبِ تنورتي، إذ إنني سأحتاجُ كلتا يديّ لحمل الدلو.
لكن…
“سأذهب أنا.”
حتى الدلو انتزعه مني السائق.
نظرتُ إليه مشدوهةً، فقال بلطف:
“آنستي، هلّا أحضرتِ بعضَ الحطب لإشعالِ النار؟”
“آه، هذا سهل!”
أخيرًا وجدتُ شيئًا يمكنني فعلُه.
سرعان ما عثرتُ على غصنٍ بحجمِ ساعدي.
“وجدتُ واحدًا كبيرًا!”
قفزتُ فرحًا وأنا أُلوّحُ بالغصن.
ابتسم السائقُ كما لو أنه ينظرُ إلى ابنته الشقيّة:
“يبدو أنّها المرةُ الأولى لكِ في هذه الأعمال، أليس كذلك؟”
“لماذا؟”
“رغم أنه كبير، إلا أنّ الأغصانَ الطريّة لا تشتعل. لا تزالُ حيّة من الداخل وتحتفظُ بالرطوبة. ما نحتاجه هو أغصانٌ صغيرةٌ وجافة.”
“آه، فهمت.”
بصراحة، حتى بعد شرحه، لم أكن أعرفُ كيف أُميّز بين الغصنِ الجافِّ والحيّ.
ظللتُ أُقلّب الغصن في يدي، ثم تمتمتُ بهدوء:
“إذاً، الحطبُ الذي كان يُدفئ غرفتي… لا بدَّ أن أحدهم جمعه لي.”
“عادةً ما يُقطَع الحطب من أشجارٍ كبيرة ويُجفَّف قبل استخدامه.”
“لم أكن أعلم.”
بل، لأكون دقيقة… لم أحاول أن أعلم.
ظننتُ دومًا أنّ الأمرَ لا يعنيني.
تأمّلتُ قليلًا، بينما ضغطتُ شفتيّ ببعضِ الحزن، فقال لي السائقُ قولًا أثّر فيّ كثيرًا:
“حتى الناس… مثل الحطب، لا تشتعلُ النيرانُ فيهم إلا عندما تنضجُ اللحظةُ المناسبة.”
اللحظةُ المناسبة…
‘نعم، لا داعيَ لأن أشعرَ بالإحباط.’
التعليقات لهذا الفصل " 22"