‘لكن، ماذا عساي أفعل؟ منذ اللحظة التي خدعتُ فيها السيّدة الإمبراطورة السابقة، التي أنقذت حياتها بالهروب من تحت يد والدي، وجلبتُها إلى هنا… كنتُ أنا أيضًا قد أصبحتُ شريرة.’
هزّت روان كتفيها بلا مبالاة.
“من حسن الحظ أنّ الآنسة لا تعرف شيئًا عن الحياة أكثر ممّا كنتُ أظن. لو كانت شخصًا عاديًّا، لشكّت حتمًا وحاولت الهرب.”
الشروط المشبوهة للوظيفة، وطبيعة العمل التي لم تكن واضحة.
هل يُعقل أن يُدفع راتب ضخم فقط من أجل التحدّث معها؟
أي شخص لديه أدنى معرفة بالحياة، لم يكن ليُصدّق ذلك أبدًا.
“يبدو أنّ آل كليين كانوا قلقين من أن تهربِ هكذا، لذا لم يُعلّموها شيئًا أبدًا. هذا في صالحنا، أليس كذلك؟”
“مَن يدري…”
حتى دانتي وافق على أنّها تجهل العالم. لكن أثناء استماعه لكلام روان، استحضر في ذهنه صورة أخرى من إيفون.
تلك العيون الخضراء اللامعة، وهي تقول بثقة:
‘سوف أدرس بجدّ، لذا أرجو ألّا تراني مزعجة.’
بالفعل، كانت بريئة. لكن لم يكن الوقت مناسبًا بعد للاطمئنان.
قال دانتي بصوتٍ خافت لروان:
“البراءة شيء… والغباء شيء آخر. احرصي على اختيار كلماتك.”
إيفون كانت ساذجة، لكنّها لم تكن غبيّة.
بل كانت سريعة البديهة، وبارعة في قراءة مشاعر الآخرين.
إن بدأ أحدهم بإلقاء التلميحات، فقد تكتشف الحقيقة وتختفي فجأة، كما لو كانت تتبخّر.
أومأت روان برأسها بتفهّم.
“صحيح، فهي تمتلك سحرًا غامضًا.”
ذلك السحر الغامض كان بدوره عاملًا مجهولًا.
أخذ دانتي يعبث بمنديل مخبّأ في صدره. ثم تذمّرت روان بصوتٍ مرتفع:
“لكن، لماذا منعتني من فحص التطريز قبل قليل؟ قلت إنّه مصنوع بسحر، أليس كذلك؟ نحن بحاجة لفهم نوع السحر لنُقرّر طريقة التعامل.”
أجاب دانتي بعبوس بين حاجبَيه:
“حينها، كانت في حالة سُكر شديدة. لا أظن أنّها تُسيء استخدام السحر عادةً. كدتُ أُثير شكّها عندما تطرّقتُ للتطريز.”
“صحيح، لكن…”
راحت روان تفكّر بعمق، ثم بدّلت تعبير وجهها فجأة وسألت:
“أتُراها قادرة على استخدام أنواع أخرى من السحر؟ سأجرّب الأمر لاحقًا.”
“افعلي ما تشائين.”
“لا تُجبني بهذا البرود. لا تتصرّف بلُطفٍ لا يُناسبك وتحاول إيقافي.”
“…”
اكتفى دانتي بالإيماء برأسه، ويبدو أنّ روان رضيت بذلك، فعادت بخفّة نحو إيفون.
بينما كان يُراقب ظهر الاثنتين وهما تتبادلان الحديث بلُطف، تمتم دانتي بنبرةٍ ذات مغزى:
“صحيح، يبدو أنّ وصف ‘الرجل السيّئ’ ليس بعيدًا عنّي.”
فهو لم يُخبرها بأي شيء، وها هو يقودها إلى العاصمة.
‘ما نوع الأوامر التي سيُصدرها بنتلي؟ وإن كانت بالفعل كما أتوقّع…’
‘…فماذا سأفعل؟’
إن كان عليه أن يُفكّر في ما يجب عليه فعله من البداية، فقد كانت الأمور قد انحرفت بالفعل. أطلق دانتي تنهيدة ثقيلة.
* * *
كانت روزيان تقضم شفتَيها بشدّة.
منذ أن غادرت إيفون، بقيَت روزيان في منزل كونت كليين، متذرّعة بمواساة الكونتيسة، بينما كانت في الحقيقة تبحث عن معلومات حول إيفون.
لكن الكونتيسة لم تُجبها بأي شيء.
‘ما السبب يا تُرى؟ هل يدينان لوالدَيها بدَينٍ ضخم؟ لا يُعقل أن يتعلّقا بها بهذه الطريقة من دون سبب.’
بلغ بها التخيّل أن اعتقدت أنّ آل كليين ربّما قتلا والديْ إيفون، بعد أن عجزا عن سداد دَينهما.
بدا ذلك الاحتمال الأقرب للمنطق في نظرها.
‘لكن لا، لم يكن آل كليين ممّن يتورّطون في مغامرات تجارية.’
ظلّت الحقيقة لغزًا في نظر روزيان، وهي تمشي بخُطى حذرة في الممر. لم تكن في طريقها إلى غرفة الضيوف التي تقيم فيها.
‘ربّما تُخفي غرفة إيفون أسرارًا.’
ما دامت الكونتيسة لم تُجبها، فلم يكن أمامها سوى غرفة إيفون للعثور على أدلّة.
‘قالت إنّها لا تعرف شيئًا عن والديْها، لكن قد تكون قد أخفت ذلك عنّي.’
عليها أن تعثر على أي أثر تركه والدا إيفون.
فآل كليين قالوا إنّها تنحدر من عائلة نبيلة سقطت. لا بدّ من وجود دليل يدعم ادّعاءهم.
‘من غير المعقول أن يكون اسمها الحقيقي هو “كروكوس”. حسنًا، سأعثر على الدليل.’
لم يكن في الممر أحد. تأكّدت من عدم وجود شهود، ثم تسلّلت إلى غرفة إيفون.
لكن، كانت هناك مفاجأة غير متوقعة في الظلام.
“روزي.”
“إ، إيميل!”
إنّه إيميل.
بدا مُنهارًا أكثر من ذي قبل، بعينَين غائرتَين وجوّ قاتم، وكأنّه شخصٌ آخر.
منذ أن رحلت إيفون، كانت روزيان تتجنّب البقاء معه بمفردهما قدر ما تستطيع، خوفًا من ردّ فعله.
‘ولم أكن أتوقّع أن ألتقيه وجهًا لوجه في مكانٍ مغلق كهذا.’
ابتسمت روزيان بتوتّر وتراجعت إلى الخلف، مُستعدّة للهرب في أي لحظة.
كانت هي من يعرف إيميل أكثر من أيّ شخص في هذا العالم.
كانت تعلم أنّه ليس النموذج المثالي الذي يُظهره أمام الآخرين، بل شخصٌ ساديّ بطبعه.
‘لا أحد يعلم ما قد يفعله تحت تأثير الغضب.’
وخاصةً بعد اختفاء إيفون.
ارتعشت يدا روزيان، لكن صوتها خرج هادئًا:
“أردت فقط أن أرى ما إذا كنتَ تفكّر بإيفون حين تدخل هذه الغرفة…”
وقف إيميل من مكانه، وتقدّم منها بخطًى ثقيلة.
قبل أن تتمكّن من الهرب، مدّ يده وضرب الباب أمامها ليمنعها من الخروج.
“إيميل…”
نظر إليها بعينَين باردتَين كالثلج، وتكلّم بصوتٍ حادّ كالسكّين:
“لماذا كذبتِ؟ لا يُمكن أن تكون إيفون قد قالت عنكِ شيئًا سيّئًا.”
ارتجفت عينا روزيان، وحاولت أن تتمالك نفسها قائلة:
“لـ، لم أكذب! لماذا تظنّ أنّني كذبتُ؟”
“إيفون ليست من هذا النوع. لو ساورها الشكّ حول علاقتنا، لكانت جاءت إليّ أولًا لتتأكّد.”
“أنتَ من أسأت فهمها!”
رفعت صوتها، لم يعد بإمكانها التراجع.
“إيفون كانت دائمًا تُراقبني. كانت تُضايقني كلّما لم تكن تُراقبنا! لهذا اقتربتُ منك، أردتُ أن أجعل الشكّ الذي تُكنّه لي يتحقّق، بدلًا من أن نبقى عالقين!”
“إذن، لماذا لم تُخبِريني من قبل؟”
“لأنّك ما كنتَ لتُصدّقني! حتى الآن، أنتَ تشكّ فيّ، لا بها!”
تمسّكت روزيان بذراع إيميل. كانت نظراته باردة، لكنّها لم تتوقّف عن الكلام.
“لكن الآن، تُصدّقني، أليس كذلك؟ ربّما كان لديها حبيبٌ آخر. أنتَ تعرف أنّها لا تملك القوّة أو المهارات اللازمة للهروب بمفردها. لا بدّ أنّ أحدًا رافقها. رجلٌ كانت تُخفيه.”
“…”
كانت روزيان مُحقّة. إيفون كانت كطائرٍ في قفص، لا تعرف شيئًا عن العالم.
حين شعرت أنّ إيميل اقتنع، تمسّكت به أكثر وهي تتصنّع الابتسامة.
“أليس هذا أفضل يا إيميل؟ لو أنّها ظهرت بعد الزواج ومعها عشيق، لكان الأمر أسوأ. هي لا تليق بك أبدًا.”
“هذا…”
‘لذا، اخترني.’
نظرت إليه بعينَين تتوسّلان، لكن إيميل قطع حديثها بجفاء:
“هذا ليس من شأنكِ.”
بدت نظراته مشتعلة. رغبةٌ مُظلمة، كثيفة، امتلكت أعماقه كالشوكولاتة المذابة.
“إيفون لي. وإن كان هناك رجل آخر، فسأقتله وأُعيدها. يثيرني الأمر… لم أتوقّع أن تخفي مثل هذا السرّ خلف وجهها الهادئ.”
“إيميل!”
هل جُنّ تمامًا؟ هل يُدرك ما يقول؟!
‘لماذا تُصرّ على المضيّ في هذا الطريق؟ ما الذي يُميّزها إلى هذا الحد؟!’
في الحقيقة، كانت روزيان هي الأخرى قد تجاوزت حدّ العقل. لكنّها فقط لم تكن تُدرك ذلك… فكلّما تعمّق التعلّق، غابت البصيرة.
“حسنًا! نعم، لقد كذبتُ! إيفون رحلت فقط لأنّها كرهتك! لذا انسَها!”
“أغلقي فمكِ.”
أبعد إيميل ذراع روزيان عنه، وقال ببرود:
“كُفّي عن التعلّق بي، روزي. هذا هو الشرط الوحيد بيننا.”
اتّسعت عينا روزيان بصدمة. أمّا إيميل، فلم يُلقِ عليها نظرةً ثانية، بل استدار عنها ومضى.
التعليقات لهذا الفصل " 20"