بعد أن أصبحتُ يتيمة فجأة، قام الكونت كليين بأخذي إلى قصره، وبشكل طبيعي، نشأتُ إلى جانب ابنه الوحيد، إيميل، وأصبحنا صديقين منذ الطفولة.
كان إيميل شابًا وسيمًا، يتمتع بملامح راقية وعقل نبيه، بشعر بني فاتح وعينين زرقاوين.
وكان يعاملني بلطفٍ شديد، لدرجة أنني كنتُ أعتبرهُ أخًا أكبر لي.
“إيفون، هذا هدية لكِ. تذكرتكِ عندما رأيتها، فاشتريتها لكِ.”
“شكرًا لكَ، إيميل.”
كانَت غرفتي تعجّ بالهدايا التي قدّمها لي، من دمى الدببة، إلى باقات الزهور، إلى الكتب وغير ذلك!.
ومع مرور السنين، بدأنا ننظر إلى بعضنا البعض ليَس فقط كأصدقاء الطفولة، بل كرجل وامرأة.
كان مظهرنا متناسقًا عندما نقف جنبًا إلى جنب، هو بملامحه اللطيفة وأنا بشعري الفضي الناعم وعيَنيّ الخضراوين.
لكن وراء ظهري، كانت هناك دائمًا أصابع الاتهامِ والهمسات الساخرة.
“لقد حالفها الحظ فحسب، وإلا لما لفتت نظر الكونت وزوجته.”
“الكونتيسة كليين طيبة القلب حقًا، لكنها كيف فكرت في السماح لفتاة بالكاد تختلف عن العامة بدخول أسرة نبيلة؟”
“يا لها من جرأة! لو كنتُ مكانها، لألقيتُ بنفسي عند قدمي السيد إيميل وتوسّلتُ إليه!”
كان كل ذلك بسبب أصلي المجهول.
“من أنا حقًا؟ هل أنا من العامة؟”
حتى وجه أمي لم أعد أتذكره… الشيء الوحيد الذي بقي محفورًا في ذاكرتي هو تلك الليلة، عندما كنت أهرب على ظهر ذلك التنين الأخضر الزمردي.
“إذا كان التنين قد حاول حمايتي، فلا بد أنني لستُ فتاةً عاديةً، أليس كذلك؟”
لكن كيف لي أن أثبت! ذلك؟ لم يكن لدي أي دليل سوى تلك الدمية الصوفية الصغيرة، المحاكة على هيئة تنين مستدير الرأس.
“آه… لا أريد التفكير في هذا الآنَ.”
تأملتُ دميتي للحظات، ثم التقطتُ سلة الحياكةَ خاصتي.
“الحياكة دائمًا ما تكون حلاً رائعًا عندما يرهقني التفكير.”
لكن الأمر الذي كان يرهق تفكيري الآن…
كان عرض الزواج الذي قدّمه لي إيميل.
أخذتُ أبحث بين خيوط الصوف الملونة، بينما استعدتُ في ذاكرتي ما حدث قبل بضعة أيامٍ
* * *
“إيفون.”
كان إيميل يبدو كعادته تمامًا. ربما كان يقرأ قبل أن يأتي إليّ، فقد كانت أكمام قميصه مجعدة قليلًا، ومعطفه غير مُحكم.
وفي يده الكبيرة، كان يحمل باقةَ من الزهور القرمزية الزاهية.
“لطالما أحببتِ هذه الزهور، أليس كذلكَ؟”
في الواقع، لم أكن أحب اللون الأحمر كثيرًا.
كان يذكرني بذلك اليوم المشؤوم، اليوم الذي سقط فيه ذلكَ لتنين العظيم على الأرض بلا حراك.
“شكرًا لكَ.”
مع ذلك، رسمتُ ابتسامة لطيفة على وجهي، وتسلّمتُ الباقة منهُ.
كيف لي أن أعترَض أو أن أرفَض شيئًا منهُ، وأنا ما زلتُ أعيش في كنف عائلته؟
لكن حين أمعنتُ النظر في الزهور، شعرتُ بدوارٍ مفاجئ.
كان لونها مطابقًا تمامًا للون الدم…
ضغطتُ أصابعي على جبهتي، محاولةً التغلب على شعوري بالدوار.
وفجأة، امتدت يد إيميل نحوي.
ثم، بصوت هادئ ولكن ثابت، قال:
“إيفون، تزوجيني.”
“هاه؟!”
اتسعتْ عيناي في صدمةٍ، وتجمدتُ في مكانيِ.
لم يكن الأمر أنني لا أحب إيميل.
بل على العكس… كنتُ معجبةً به.
لكن الزواج؟
لم أفكر أبدًا في مثل هذا الأَمر.
منذ صغري، كان الجميع يقول لي ألا أحلَم بمثل هـٰذه الأحلام المستحيلة.
“إيميل يحتاج إلى زوجةٍ نبيلةٍ، فتاة ذاتُ مكانة مرموقة تستطيع أن تكون شريكته حين يصبح الكونت القادم.”
كان هناك الكثير من العرائس المحتملات، فتيات نبيلات يتمتعن بالجمال والرُقيّ، ويمكنهن دعم إيميل في إدارة شؤون العائلة.
أما أنا؟
“أنا لا أجيد سوى الحياكة.”
لهذا، كان عليّ أن أرفض.
لكن، قبل أن أتمكن من نطق كلمة واحدة، قاطعَ حديثنا صوت آخر…
“يا إلهي! هل حقًا وصلتما إلى مرحلة الحديث عن الزواج؟! أنا سعيدة للغاية!”
كانت تلك والدة إيميل، الكونتيسة كليين.
كانت تقف هناك، وعيناها تلمعان بالدموع، مغمورةً بسعادة عارمة.
لكن، لحظة…
“من المفترض أن أكون أنا من يبكي الآن، أليس كذلكَ؟”
استطعتُ أن أتخيل تمامًا ما سيقوله الناس إن قبلتُ بهذا الزواج
“إنها سندريلا الكونت كليين.”
الفتاة التي لا أحد يعرف من أين جاءتْ، والتي انتهى بها الأمر لتصبح الكونتيسة المستقبلية…
ضغطتُ على شفتَي، بينما استوعبتُ ما يجري حولي.
أما إيميل، فقد رسم حدودًا واضحةً بينه وبين والدته بصوتٍ هادئ لكنه حازم.
“أمي، لم تُجب إيفون بعد.”
“أوه، أوه. يبدو أنني لم أستطع كبح! حماسي بسب!ب فرحتي الغامرة.”
ورغم كلماتها، لم تبدُ عليها أي نية للتراجع.
بل بالعكس، أمسكت بيدي بإحكام وقالت بابتسامة لطيفةً تخفي وراءها إصرارًا لا يُقاوَم:
“لكن لا بد أن تكون إجابتكِ بالموافقة، أليس كذلك؟ إذا رفضتِ، فستضطرين لحزم أمتعتكِ ومغادرة قصر عائلةِ كليين فورًا. هل ستفعلين ذلك حقًا؟ هذا العالم قاسٍ، ولا يمكن لفتاة مثلكِ أن تعيش وحدها.”
شعرتُ بارتجافةٍ خفيفة تسري في كتفيّ دون وعي.
وحين أدركت الكونتيسة خوفي، ابتسمت بحنانٍ متكلف وأردفتْ:
“بالطبع، كان بإمكاننا أن نترككِ لمواجهة هذا العالم وحدكِ، لكننا لم نفعل، بل اعتنينا بكِ.
ألا يجدر بكِ أن تكوني ممتنة؟
وهذه هي الطريقة الوحيدة لردّ هذا الجميل…
أن تصبحي زوجة إيميل.
منذ اللحظة التي وطئتِ فيها هذا القصر، كنتِ مقدّرة لأن تكوني فردًا من العائلة.”
“…….”
كان إصرارها قويًّا إلى درجة أن الكلمات انحبسَت في حلقي. شعرتُ بأصابعي تقبض لا إراديًّا على باقة الزهور القرمزية بين يديّ.
‘لماذا تُؤيّد الكونتيسة زواجنا بهذه القوة؟ أيّ فائدة ترجُوها من كوني عروسًا لإيميل؟’
في خضمّ هذا الاضطراب الذي اجتاح ذهني، قطع صوت إيميل تفكيري مجددًا، هذه المرة بنبرة أكثر حدة.
“أمي.”
“يا إلهي، هل بدأتَ بالفعل بالوقوف في صفّ زوجتكَ المستقبلية؟”
“أمي.”
“حسنًا، حسنًا، فهمتُ.”
رغم أنها أبدت تذمرًا خفيفًا، إلا أنها التزمت الصمت أخيرًا، دون أن تتراَجع تمامًا.
وحين عادت الأجواء إلى الهدوء، التفت إليّ إيميل، محدّقًا فيّ بعينيه العميقتين قبل أن يسأل:
“هل ستقبلين عرض زواجيَ؟”
في موقفٍ كهذا، هل كان هناك خيار آخر؟
مددتُ يدي لتلمس أطراف باقة الزهور بينما همستُ بإجابة بالكاد خرجت من شفتيّ:
“بالطبعِ… سأقبلهُ.”
عند سماع كلماتي، ارتسمت على وجه إيمَيل ابتسامة دافئةٌ، وكأنها أضاءت ملامحه بالكامل.
“إيفون، أنا سعيدٌ للغاية لأنكِ قبلتِ مشاعري.”
لكن، لا أعلم لماذا، تلك الابتسامة بدت لي كزجاجٍ رقيقٍ يوشك على الانكسار.
قبل أن أتمكن من فهم هذا الشعور الغريب، أمسكت الكونتيسة بيدي مجددًا، وبدأت تمطرني بكلماتٍ دافئة.
“أعهد إليكِ بابني، إيفون!
مهما حدث، لا تفكري أبدًا في مغادرة جانبه.
كوني دائمًا سندًا له…
ولا تفكري مطلقًا في الطلاق، هذا مستحيل!”
“…نعم.”
رغم ارتباكي، لم أجد سوى أن أجيب بطاعةٍ.
ابتسمت الكونتيسة بارتياحٍ وهي تقول بحماسٍ واضح:
“إذًا، لنحدد موعد الزفاف!”
“الزفاف؟!”
لم يكن هناك حتى حديث عن حفل خطوبة، بل قفزت مباشرةً إلى الزواج!
…..
“وهكذا، تقرر أن تُقام حفلة الخطوبة في عيد ميلاد إيميل القادم، ثم يتم الزواج بعد شهرٍ واحد فقط.”
لحسن الحظ، لم يُعقد الزفاف فورًا.
رغم أن الكونتيسة أرادت إتمام الزواج في أقرب وقت ممكن، إلا أن الكونت كليين تدخّل أخيرًا، ليضع حدًّا لاندفاعها.
“حتى عامة الناس لا يتزوجون بهذه السرعة. أفهم مدى حماسكِ، لكن علينا التروي قليلًا.”
“يا لرحمة السماء… لقد كان ذلك نعمة ًحقيقية.”
قلبي لا يزال مضطربًا كأوراقٍ تتقاذفها الرياح.
لو كان الزفاف قريبًا جدًّا، لشعرت بأن رأسي سينفجر.
“الأمر لا يتعلق بكرهي لإيميل.”
بل على العكس… كان شخصًا رائعًا، رجلًا نبيلاً، راقيًا، ورقيقًا كمَا لو أنه أميرٌ خرج من بين صفحات قصة خيالية.
“لكن… لا أشعر أن الزواج منه هو الخيار الصحيح.”
ما معنى الزواج أصلًا؟ كيف يُفترض بامرأةٍ أن تشعر وهي تصبح زوجةً لرجل؟
“لقد كنتِ مقدّرةً لأن تصبحي فردًا من العائلة منذ اللحظة التي دخلتِ فيها القصر.”
هل قدري كان مرسومًا بالفعل، كما قالت الكونتيسة؟
“لا أعلم شيئًا بعد الآنَ…”
ربما بسبب هذه الفوضى التي تسود أفكاري، لم أستطع حتى أن أختار خيط الحياكة الذي كنتُ أبحث عنه.
تركتُ سلة الخيوط جانبًا، ثم التقطتُ تلك الدمية الصغيرة المصنوعة من الصوف—دميةٌ بلون الزمرد، على هيئة تنينٍ صغير.
كانت هذه الدمية قد سقطت من العدمِ في تلكَ الليلة، حين اختفى التنَين العظيم، وتركني وحيدة في عالمٍ لا أعرفهُ.
تأملتُ ملامح الدمية للحظات، ثم ضغطتُ برفقٍ على رأسها الصغيرة وهمست:
“السيد تنين… ماذا عليّ أن أفعل؟”
كان من الخطأ أن أُقدم على زواجٍ لا أرغب به.
لكن إن رفضتُ هذا الزواج، فسأُطرَد فورًا من القصر، بلا مأوى أو سند.
كما أنني بذلك سأخون الكونتيسة التي كانت مغمورةً بالسعادة لأجلنا.
“لا أدري…”
زفرتُ تنهيدةً طويلة، فيما ألقيتُ نظرةً أخرى على دميتي الصغيرة.
كانت قد سقطت إلى جانبها بفعل دفعي لها، لكن فجأة
نهضت وحدها.
ثم، بصوتٍ صغيرٍ لكنه واضح، تمتمت قائلةً:
“آه… يا له من موقفٍ مزعجٍ.”
التعليقات لهذا الفصل "2"