بسبب التفاتة دانتي المفاجئة، التقت عيناه بعيني روان عن غير قصد.
روان ابتسمت بخفة، كما لو كانت قطة وجدت سمكة أمامها.
عبس دانتي ، لكن هذه المرة بمعنى مختلف، وسأل:
“…لماذا هذا التعبير؟”
“فقط، هذه أول مرة أراك تتحدث بهذا القدر يا سيدي.”
“همف.”
أغلق دانتي عينيه تمامًا.
راون بدأت تنخزه في ذراعه بإصبعها السبابة وهي تقول:
“يا إلهي، انظروا إلى هذا الشخص؟ الأمر يبدو مريبًا… هل أنا أتخيل، أم أن إحساسي صحيح؟”
“كفي عن الثرثرة.”
دفع دانتي يدها وكأنه يبعد ذبابة مزعجة.
كنت أراقب مزاحهما، ثم أمسكت بطرف تنورتي بقوةٍ، وصرخت بصوت مرتفع:
“على أي حال، أنا قررت أترك كليين وأبدأ حياتي من جديد! لذلك كلفوني بأي مهمة، سأقوم بها بكل جهدي!”
وأخيرًا، بدأت حياتي الحقيقية.
نفخت من أنفي بحماس وعزيمة.
نظرت روان إلي بنظرة مليئة بالإعجاب، وابتسمت وهي تغطي فمها براحة يدها.
“حماسكِ جميل جدًا، لكن لا حاجة لأن تفعلي أي شيء.”
“هاه؟”
توظيفي لم يكن سهلًا، فكيف تقول هذا الآن؟
نظرت إليها بحيرة، فتابعت روان بابتسامة لطيفة:
“حتى لو لم تفعلي شيئًا، يكفي أن ترافقينا إلى العاصمة. هذا هو دوركِ.”
“هذا…؟”
لماذا يحتاجون إلى مرافق؟
ولماذا بالتحديد بشعر فضي وعيون خضراء؟
تراكمت الأسئلة في رأسي، فأملت برأسي جانبًا وسألت بخفة:
“…هل وظفتموني فقط لأن السفر سيكون مملًا بدون رفقة؟”
روزيان أيضًا اقتربت من الكونتيسة لنفس السبب.
في تنقلات النبيلات، دائمًا ما يكنّ بحاجة لمن يحمل عنهنّ الحقائب.
وكانت روزيان هي من تحمل حقيبة كونتيسة كليين.
‘هل هذا ما يريدون مني فعله أيضًا؟’
لكن إصرارهم على المواصفات الشكلية كان مريبًا.
‘هل لديهم حساسية من أي لون شعر آخر؟ أو أنهم يميزون الناس بشكل غريب؟’
‘لكنهم وافقوا عليّ من أول نظرة…’
قبل أن أتابع تساؤلاتي، أشارت روان بإبهامها نحو دانتي وقالت:
“أمر مشابه. تخيلي أن تقضي أسبوعين داخل عربة ضيقة مع هذا الرجل الصلب. كم سيكون ذلك خانقًا؟”
“آه…”
رغم أن دانتي يبدو شخصًا جيدًا، لكنني أتفهم تمامًا كم هو صعب التعامل معه.
أومأت برأسي لا إراديًا.
وحين فتَح دانتي عينيه فجأة، رفع حاجبيه الكثيفين مستنكرًا:
“آه؟”
أدركت أنني تسرعت، فأخذت ألوّح بيدي بسرعة وأنا أقول:
“لا لا! أقصد أن وجودكما معًا في مكان واحد قد يكون محرجًا، لم أقصد أنك شخص صلب!”
لكن الضرر كان قد حدث.
دانتي، وهو يحدق بي بعينين حادتين، ضغط بإصبعه على جانب عينه وتنهد:
“حتى لو ناداني كل العالم بالرجل المتحجر، كان عليكِ أنتِ ألا تقوليها.
أنتِ التي حجزتني في غرفة مغلقة أول مرة التقينا فيها، وبكيتِ لأكثر من ساعة…”
“آآآآه!!”
هل فعلاً تجرأ وقالها؟!
قفزت واقفة، ووضعت كلتا يدي على فمه لأمنعه من إكمال الحديث.
“…؟”
عينا دانتي الحمراوان كالياقوت، حدّقتا بي وكأنهما تقولان: “ما الذي تفعلينه؟”
حرارته تحت كفّي كانت مرتفعة.
بل كانت ترتفع أكثر فأكثر.
هل هذا بسبب إحراجي؟ أم أن حرارة جسده فعلًا عالية؟
صرخت ووجهي يشتعل خجلًا:
“توقّف عن الحديث! أنا محرَجة أيضًا! إلى متى تنوي الاستمرار في تكرار نفس القصة؟!”
دانتي، وهو يحدق بوجهي الأحمر كالورد، أمسك بمعصمي وأبعد يدي عن فمه وقال بهدوء:
“لم يمضِ على لقائنا يومٌ واحد حتى الآن.”
“هـ…!”
كان محقًا.
رغم كل ما حصل، لم تمضِ حتى 24 ساعة منذ أن التقيت به.
“آه، لقد فعلت كل ما لم أفعله طوال حياتي، في يومٍ واحد فقط…”
على الأقل، لم يكن تصرفي ذلك وأنا في وعيي.
لو استطعت العودة بالزمن، كنت سأصفع نفسي وأمنعها من فعل ذلك.
“الـ…بيرة، إنها خادعة. لا يجب أن أشربها.”
‘لماذا سمحت لفضولي أن يتغلب علي؟’
وأنا أخفض رأسي من شدة الخجل، قال دانتي بصوته الجاف:
“وأيضًا، أنتِ كثيرة التلامس.”
“ت-تلامس؟!”
ماذا يقصد الآن؟!
نظرت إليه بعينين مرتجفتين، فرأيته يلمس شفتيه بإصبعه.
تلك الشفاه التي منعتها من الكلام بيدي للتو.
“حتى أول لقاء بيننا، اقترحتِ الذهاب إلى مكان نكون فيه وحدنا…”
“لا! ليس هكذا! أنتَ فهمتني خطأ!”
في تلك اللحظة، كنت ثمِلة جدًا، وخائفة من أن يتعرف عليّ أحد، لم أكن واعية بما أقول.
كلمات دانتي جعلت قلبي ينبض بقوة.
رؤيتي له وهو يبتسم بخفة جعلتني أتجمد في مكاني.
“هاه…”
تلك كانت أول مرة أراه يبتسم فيها.
ابتسامة خفيفة، بالكاد حركت شفتيه، لكنها كانت مدهشة.
فتحت عيني على اتساعهما وأنا أراقبه.
لم أكن الوحيدة، حتى راون نظرت إليه بنظرة غريبة، وكأنها ترى شيئًا لم تعهده.
حين التقى نظره بنظرها، عبس دانتي مجددًا وعاد إلى ملامحه الجادة المعتادة.
“لماذا هذا الوجه؟”
“…هل أنت حقًا حضرة الدوق؟ ألست شخصًا آخر؟ هل أنت شيطان ربما؟ لكن الغريب، أن الشيطان يبدو أكثر طيبة، أليس كذلك؟”
“…”
لو استمر الوضع قليلًا بعد، لكانت راون سترش الملح عليه.
تنهد دانتي وأدار رأسه فجأة.
“دعك من الحديث.”
كان الصوت غير المنطوق يتردد في أذنيه.
المكان الذي تتجه إليه العربة التي تقل إيفون الآن…
قلب الإمبراطورية، العاصمة.
وفي قلب العاصمة، في مركزها الأعمق، يقع القصر الإمبراطوري، الذي كان يلفه سكونٌ تام.
فقد مضى أربعة أشهر فقط منذ سقوط الإمبراطور إيلياد.
رغم اعتراضات الأطباء، خرج الإمبراطور في رحلة صيد، ليسقط فجأة من على ظهر جواده، كما لو أن خيوطه قد قُطعت كدمية.
نجا بالكاد من الموت، لكن العظام التي تكسرت عند سقوطه اخترقت أحشاءه، ولم يعد أحد يستطيع الجزم بكم من الوقت سيبقى على قيد الحياة.
وعندما يقترب الإنسان من الموت، لا بد أن يعود بذاكرته إلى ماضيه.
ولم يكن الإمبراطور إيلياد استثناءً من ذلك.
في غرفة نومه التي غمرها ضباب كثيف من رائحة الدواء، حرك الإمبراطور شفتيه بصعوبة.
“…يجب أن نجد الأميرة إيفون… إيفون، أميرة الجيل السابق… الوحيدة التي خلفها السلف…”
“أبي…”
عند صوت الإمبراطور، رفع ولي العهد بنتلي، والإمبراطورة جينيفير، رؤوسهم من جوار قدميه.
في العائلة الإمبراطورية الحالية، لا توجد أميرة سابقة.
ومع ذلك، كان الإمبراطور يحرك أصابعه كما لو كان يريد الإشارة، ويبحث عن تلك “الأميرة المختفية”.
“هذا عقابي… العرش يجب أن يُسلَّم للأميرة…”
تلك كانت اعترافًا بخطيئة قديمة ارتكبها الإمبراطور إيلياد.
في الأصل، كان إيلياد من فرع بعيد من العائلة الإمبراطورية، ولم يكن من المفترض أن يتولى العرش.
لو ظل الإمبراطور السابق الشاب والموهوب بصحة جيدة، لما آل إليه العرش أبدًا.
لكن الإمبراطور السابق تعرض للعنة ساحرة بينما كان يحاول إنقاذ جنية مضطهدة، مما جعله يعيش عمرًا أقصر بكثير مما كان مقدرًا له.
وكانت الجنية التي أنقذها هي الإمبراطورة ليليان، وأنجب منها ابنة وحيدة: إيفون، أميرة الجيل السابق.
كانت الأميرة في الخامسة من عمرها، والإمبراطورة لم تكن تعرف شيئًا عن عالم البشر.
في تلك اللحظة، بدأ الجشع يتسلل إلى قلب إيلياد كالحبر المنتشر في الماء.
«هذه فرصة. في كل الأحوال، لو اعتلت تلك الطفلة الصغيرة العرش، فالدولة ستنهار. من الأفضل أن أتولاه بنفسي.»
وهكذا، حشد جيشًا وقتل الإمبراطورة، وزور وصية الإمبراطور.
لكن وسط تلك الفوضى، هربت الأميرة من قبضته.
ومنذ ذلك الحين، ظل إيلياد يبحث عنها طوال حياته.
في البداية كان هدفه قتلها، لكن مع مرور الوقت، تغير هدفه تدريجيًا.
ومع تقدمه في السن وضعف جسده، بدأت خطيئته تثقل كاهله.
“الأميرة… يجب أن يُسلَّم العرش إلى السلالة الشرعية…”
بالنسبة إلى الإمبراطور، كان ندمه قد جاء متأخرًا، لكنه كان صدمة بالنسبة لولي العهد الذي قضى عمره يستعد لتولي العرش.
«كل من له صلة بتلك الحادثة قد مات، ولم يعد أحد يتذكر الأميرة المنسية.»
لكن الآن، فجأة، الإمبراطور نفسه ينطق باسمها.
شعورًا بوجوب تهدئة الوضع، تحدثت الإمبراطورة بنبرة هادئة محاولًة مواساته:
“تماسك يا جلالة الإمبراطور. كيف تقول ذلك، وتُشعر ولي عهدنا بالخذلان؟”
“اصمتي، أيتها الأفعى الماكرة!”
عندما تحدث عن الأميرة إيفون، كان صوته ضعيفًا كشمعة على وشك أن تنطفئ، لكن حين وبّخ الإمبراطورة، كان صوته قاسيًا حادًا لا يُحتمل.
التعليقات لهذا الفصل " 15"