‘لو كنتَ ستُطلق كلماتٍ لطيفة، فلا تكن واضحًا في ارتباكك.’
لا شكّ أنّ تقديم المواساة لم يكن أمرًا مألوفًا له أيضًا.
لكن إدراكي أنّني لستُ الوحيدة التي تشعر بالغرابة جعل شيئًا دافئًا يتسرّب إلى صدري.
لحقتُ به بخطواتٍ شبه راكضة، ثمّ قلتُ بصوتٍ مفعمٍ بالحيوية:
“شكرًا لكَ… على قدومكَ لأجلي.”
عند كلماتي، ارتفع حاجباه الكثيفان قليلًا، قبل أن يجيب بوجهٍ خالٍ من أيّ ابتسامة:
“لقد استمعتُ إلى شكواكِ لأكثر من ساعة، فمجرد المجيء ليس بالأمر الكبير.”
“مـ… مستحيل! أنت تمزح، صحيح؟”
أن أتمسّك بشخصٍ غريب وأبكي أمامه لساعةٍ كاملة؟ كان ذلك خارج نطاق التصديق.
لكن دانتي ردّ بجفاف:
“أنا جادّ.”
“…”
“هل تريدين أن أريكِ ردائي الملطّخ بمخاطِكِ؟”
“لااا! انسَ الأمر! تخلّص منه! سأصنعُ لكَ واحدًا جديدًا!”
ر-رداء ملطّخ بالمخاط؟ كيف يُمكنه الاحتفاظُ بشيءٍ كهذا؟!
احمرّ وجهي بالكامل، ولوّحتُ بكفّي في الهواء، بينما تابع دانتي سيره بصمتٍ تام.
كان ظهره العريض يمنحني شعورًا بأنّه لا يُصدّق كلامي، لذا بدأتُ في الحديث وحدي، كما لو كنتُ أحاول إقناعه:
“أنا جادّة، لن يكون ذلك كذبًا. أنا بارعةٌ في الخياطة، لكنّ مهارتي الأبرز هي الحياكة.”
“…”
“في كلّ عام، كنتُ أصنع لإيميل وشاحًا وسترةً محبوكة. لكن يبدو أنّه كان يكره رؤية سلّتي المليئة بالخيوط طوال الوقت. ألا ترَ أنّ ذلك قاسٍ؟”
“…”
“لذلك… لذلك شربتُ الكثير من الخمر. لقد شعرتُ بالاستياء. لو أخبرني فقط بصراحةٍ أنّه لا يريدها، لما كنتُ صنعتها له أصلًا! أليس هذا تصرّفًا سيّئًا؟ خصوصًا أنّني اخترتُ النقوش بعناية، وصمّمتُ كلّ شيء بعنايةٍ شديدة…”
بينما كنتُ أواصل الحديث بحماسٍ وانفعال، توقف دانتي عن المشي مرةً أخرى.
لكنّني كنتُ مستعدّة هذه المرة، لذا لم أرتطم بظهره.
“لماذا توقّفتَ؟”
عند سؤالي، مدّ يده بصمتٍ وقدّم لي منديلاً.
تناولتُه لا إراديًّا، فجاء صوته الخافت:
“ابكي كما تشائين. لن أتمكّن من مواساتكِ، لكن بإمكاني الاستماع.”
“…”
لم أدرك أنّني كنتُ أبكي… إلا في تلك اللحظة.
“من الطبيعي أن تنهمر الدموع.”
ضغطتُ المنديل برفقٍ فوق عينَي، ليبتلّ سريعًا ويصبح دافئًا بين أصابعي.
وفي وسط دموعي، كان يقف أمامي رجلٌ بشعرٍ أسود وعينَين حمراوَين، يحدّق بي بوجهه الخالي من التعابير.
لكن تلك اللامبالاة، في هذه اللحظة، منحتني دفئًا أكثر من أيّ كلماتٍ زائفةٍ قالها لي إيميل من قبل.
“سأبكي اليوم فقط… وسأنسى كلّ شيء بعد ذلك.”
أنا لستُ وحيدة. لذا… بإمكاني الابتسام.
عندما استيقظ إيميل كليين صباحًا، كان أوّل ما فكّر به هو:
“رأسي يؤلمني.”
فتح عينيه ببطء، دون أن يبدو عليه الذعر.
فالفضاء الذي يحيط به مألوفٌ جدًا المكتبة الخاصّة به، التي طغى عليها اللون الأخضر الداكن.
لكن على غير العادة، كان رأسه ينبض بألمٍ شديد، وكأنّه سينشطر.
ضغط على جبهته بأطراف أصابعه، فتسرّبت إلى ذهنه صورةُ شخصٍ لم يُغادر غرفته بالأمس بسبب الصداع.
“لم أرَ إيفون طوال يوم أمس.”
زفر إيميل ببطء.
“كنتُ أظنّها تدّعي المرض كلّ مرة تقول فيها إنّ رأسها يؤلمها. لكن إن كان هذا هو الألم الذي شعرتْ به، فأنا أُدينُ لها باعتذار.”
إيفون… الفتاة الرقيقة، التي بدت دائمًا هشّةً وساذجةً كالأطفال.
لطالما كانت ضعيفةً صحّيًا منذ صغرها، لذا اعتاد على تجاهل شكواها عندما تقول إنّها مريضة.
لأنّه، ببساطة، كان أمرًا متكرّرًا.
“عليّ الاعتذار منها عندما أراها.”
كان واثقًا أنّها، حين يُمسك بيدها النحيلة ويطبع قبلةً على وجنتها الناعمة، ستبتسم له بتلك الابتسامة الدافئة التي تُذيب قلبه دائمًا.
لكن بينما كان يفكّر في ذلك، شعر بحرارةٍ مفاجئة تلتصق بجسده.
ذراعٌ نحيلةٌ امتدّت لتحيط بخصره، وصوتُ ضحكةٍ ناعمةٍ تسلّل إلى أذنَيه.
“أوه؟ أنتَ نشيطٌ في هذا الصباح. هل لم تكتفِ بعد؟”
“روزي…”
روزيان. صديقتهُ القديمة.
لم يكن دفء جسدِها الغارق في العري غريبًا عليه، بل كان مألوفًا جدًا، وقد وجد فيه نوعًا من العزاء أحيانًا.
لكن ليس الآن.
ببرود، أزاح إيميل يدها بعيدًا، قائلاً:
“لماذا أنتِ هنا؟ عودي إلى غرفتكِ.”
“كم أنتَ قاسٍ.”
لم تُعارضه، بل تراجعت بخفة، غير أنّها غمَزَته وهي تضغط بأصابعها على خاصرته بمكر.
“مع أنّك كنتَ لطيفًا جدًا البارحة… هل ستتصرّف هكذا الآن؟”
“هذا ليس قسوة. إنّه ببساطة… جزءٌ من اتفاقنا.”
لم يُضِف كلمةً أخرى، بل التقط القميص الملقى على الأرض وارتداه بغير اكتراث.
بينما وقفت روزيان، تعقد ذراعيها وتبتسم بسخرية.
العقد؟ أتقصد ذلك الاتفاق الذي ينصُّ على ألَّا نتصرف بمودة بعد طلوع الشمس؟”
“نعم.”
“لكن كيف يمكن الالتزام بذلك دائمًا؟ فقد يظلُّ الجسد متقدًا حتى بعد الشروق.”
“هذا عند الوحوش.”
“أنت وحشٌ بالفعل. أفترض أن أخبر إيفون بجميع الأفكار القذرة التي تملأ رأسك؟”
“أطبق فمك، فأنا بالكاد أحتمل هذا الصداع.”
كانت روزيان تبادل إيميل حديثه بابتسامة، لكنها هذه المرة، تجمدت ملامحها. راحت تنظرة ممتعضة قبل أن تقول:
“أليس من المفترض أن تعاملني بلطفٍ أكثر الآن؟ كيف لك أن تكون مع إيفون كقطعة سكرٍ حلوة، بينما تعاملني بهذه البرودة؟”
“أنتِ وإيفون مختلفان.”
جاء ردُّ إيميل باردًا كحدِّ شفرة، لا يسمح لنقاشٍ أن ينفذ إليه. ضحكت روزيان بسخرية وقال:
“آه… إذن لهذا السبب تُمثِّل دور السيد المهذّب أمامها؟ ستتزوجها دون أن تُخبِرهَا شيئًا، أليس كذلكَ؟”
“وماذا ينبغي عليَّ أن أُخبِرهَا؟”
قطَّبت روزيان شفتيها وقالت بتهكم:
“حسنًا، لا شيء منك يستحق أن تِخبرها بهِ، لكن عليَّ أنا… أن أخبرها بما تحب، وكيف تحب أن يتم الأمر….”
“قلتُ لك أن تغلقِ فمكِ القذرَ.”
كان صوت إيميل أكثر حدَّة هذه المرة، مما جعل وجه روزيان يشحب. نظرة إليه بنظرةً باردة قبل أن تستدير فجأة وقالت بصوتٍ ساخط:
“إن واصلت معاملتي بهذه الفظاظة، فستندم.”
ثم أغلقتَ الباب خلفه بصفعةٍ مدويّة.
زفر إيميل بضيق، وأصابعه تعبث بخصلات شعره في توتر.
رغم معرفته بروزيان منذ سنوات، إلا أن تقلب مزاجها لم يكن أمرًا يعتاد عليه بسهولة.
أليس هو من بدأ هذا النوع من العلاقة بيننا؟
منذ طفولته، اعتاد إيميل أن يرتدي قناع اللطف، ولم يكن الأمر مختلفًا مع إيفون.
كيف يُمكن له أن يُحب فتاةً أُحضِرَت إلى القصر بشكلٍ مفاجئ، وأجبره والداه على معاملتها كأخته؟
“إيميل، هذه الطفلة أُحضِرَت خصيصًا من أجلك. اعتبرها شقيقتك الصغيرة، ثم اجعلها زوجتك لاحقًا.”
زوجة؟ يا للسخرية.
كيف له أن يعتبرها أخته، ثم يُؤمر بأن يتزوجها؟
لكنه، رغم ذلك، تظاهر باللطف أمام الجميع.
أما إيفون، فكانت تتبعه كظله، لا تشك لحظةً في نواياه.
“إيميل، أنت لطيفٌ للغاية!”
كم كانت ساذجةً !
مجرد فتاةٍ حمقاء لا تفهم مشاعر الآخرين.
رؤية تلك الابتسامة النقية كانت تجعله يشعر بالضيق… والضحك في آنٍ واحد.
ترى… هل تصدق حقًا أنها ستكون زوجتي؟ كيف سيكون وجهها حين تُدرك الحقيقة؟
كان إيميل يتوقُ لرؤية إيفون تُدمَّر بسبب خيبة الأمل.
كانت رقتها المبالغ فيها مجرّد تمهيد للحظة الانكسار.
وكان أوَّل من كشف نواياه الخفية… هي روزيان.
“سيكون الأمر ممتعًا إن جعلناها تشعر بالغيرة أيضًا. لن تحتمل ذلكَ.”
كانت روزيان تشبهه في نواحٍ كثيرة.
كانت تملك رغبة في الانتقام من أهلها الذين رسموا لها مستقبلها منذ ولادتها.
لمَ لا؟ لا بأس ببعض التسلية.
في البداية، أراد فقط أن يعبث بإيفون، أن يرى صدمتها وخيبتها. لكن مع مرور الوقت…
أصبحت إيفون جميلةً وساحرة.
في اليوم الذي أجبرته والدته على خطبتها، تردُّدها في القبول جعله يُدرك حقيقة مشاعره.
متى…؟ متى أصبحتُ أريدها فعلًا؟
عاد الألم إلى رأسه، فضغط بكفه على جبينه. على أي حال، إيفون ما زالت بجواره، والآن…
الصداع هو المشكلة الأولى.
خرج من مكتبه، وبينما كان يسير، ألقى عليه أحد الخدم التحية:
“أفقتُ يا سيدي؟”
“نعم.”
وقف إيميل مستندًا إلى الجدار، ثم قال بصوتٍ خافت:
“أحضر لي ماءً دافئًا للاستحمام.”
“لكن… لم تتناول إفطارك بعد، سيدي.”
“إنه مجرد صداع. أريد الماءَ فحسب.”
“كما تأمر.”
غرفة نومه لم تكن بعيدة، وبمجرد أن ألقى جسده فوق الأريكة، شعر أن ثِقَل رأسه بدأ يتلاشى قليلًا.
لم أجد وقتًا لأرى إيفون البارحة….
التعليقات لهذا الفصل " 12"