لم أدرِ مطلقًا كيف انتهى بي الأمرُ عائدًة إلى غرفتي.
الاعتذارُ والبركةُ… كم كنتُ أحمقَ التفكيرِ!
“لم يكن هناك داعٍ لترتيبِ الأمور، ولا حتى للقلقِ بشأنها.”
ألقيتُ بجميعِ ممتلكاتي القليلةِ والثمينةِ داخل الحقيبة، ودارَ رأسي. لم تبقَ في داخلي أيّ ذرّةٍ من التردّد.
“يا ترى، كم كنتُ أبدو مثيرةً للشفقة!”
كنتُ أشعرُ بالأسفِ حيالَ الكونتِ كليين، لكن لم أعدْ أحتملُ البقاءَ تحت سقفٍ واحدٍ معهما ولو للحظةٍ إضافيّة.
ما إن اتّخذتُ قراري حتى انطلقتُ في التنفيذ.
دفعتُ بآخر شيءٍ داخل الحقيبة، كان ذلك “فيبي”، والذي راح يصرخُ محتجًّا:
“أووغيااا! إيفون! لماذا تضعينني هنا؟!”
قلتُ بنبرةٍ هادئة:
“أنا راحلةٌ من هذا المنزل، لذا ابقَ داخل الحقيبةِ لبعضِ الوقت.”
“مـ-مهلًا! حتى الدّمى لها حقوقـ… أوف!”
دفعتُ به داخل الحقيبةِ إلى جوارِ المال، رغم احتجاجاتهِ الصاخبة، ثم جلستُ أكتبُ رسالةً قصيرة.
“إلى إيميل، أدركتُ أن لديكَ امرأةً تحبّها بصدق. خطوبتُنا لم تكن سوى ثوبٍ لا يناسبُ أحدَنا، والحمدُ لله أنّني فهمتُ ذلك قبلَ إقامةِ الحفل. آملُ أن تكونَ سعيدًا مع روزيان.”
لم يكن هناك داعٍ لذكرِ تفاصيلَ تخصُّ إيميل وروزيان، لكنّني فعلتُ ذلك عن عمدٍ كنوعٍ من الانتقامِ الصغيرِ لطفولتي الموجوعة.
“ليتَ أمرَ علاقتِهما يُفضَحُ، فيتلقّى إيميلُ توبيخًا من الكونتِ والكونتيسةِ كليين.”
إن كان قد خدعني، فهو أيضًا خدعهما.
“لو أنّه صارحني بالحقيقة…”
هززتُ رأسي بعنف، محاولَةً طردَ آخر بقايا التعلّقِ الساذج.
لكن، كم كان انتقامي بائسًا… بعد كلِّ هذا الخداعِ، لم يكن بوسعي سوى الهربِ إلى العاصمةِ بصمت!
رغبتُ في صبِّ جامِ غضبي عليهما، لكنّني امتنعتُ احترامًا للكونتِ والكونتيسة، فذلك أضعفُ الإيمانِ تجاهَ من ربّياني.
“وداعًا للجميع.”
بعد أن أتممتُ رسالتي، ارتديتُ أبسطَ ثوبٍ لديّ، ثمّ ضممتُ الحقيبةَ المتخمةَ بـ فيبي بين ذراعي.
“لا بأس، لديّ فيبي. حتى لو لم تَسِرِ الأمورُ على ما يرامِ مع السيّدِ راون، أستطيعُ كسبَ رزقي بالخياطة.”
كنتُ أُغادرُ المنزلَ الذي أمضيتُ فيه حياتي… مزيجٌ من الخوفِ والإثارةِ دبَّ في قلبي.
إن توقّفتُ هنا، فسوف أعيشُ نفسَ المستقبلِ الذي رأيتُه عبرَ السحر.
لكنّني اتّخذتُ قراري:
“سأنتزعُ سعادتي بيديّ.”
في حياةٍ لا تُعاشُ سوى مرةٍ واحدة، لن أكونَ الحمقاءَ التي تسيرُ نحوَ تعاستِها بقدَمَيها.
ألقيتُ نظرةً أخيرةً على الغرفةِ التي أمضيتُ فيها سنينَ طويلة، ثم تسلّلتُ عبرَ البابِ الخلفيّ الذي استخدمتُه سرًّا فجرَ اليوم.
على عكسِ حجمِ قراري، كان الهروبُ سهلاً لدرجةٍ مُضحكة.
“هل هو مجرّدُ وَهْم؟ أم أنّ الهواءَ في الخارجِ يختلفُ عن هواءِ القصر؟”
أخذتُ نفسًا عميقًا، فتصاعدت أنفاسي البيضاءُ مع برودةِ الصباح، وأنا أقفُ وسطَ شارعٍ هادئٍ خالٍ من المارّة.
أينما وضعتُ قدمي، هناك سيكونُ طريقي.
لكن…
“هل تفتحُ الحاناتُ في هذه الساعة؟ إلى أين يجدرُ بي الذهاب؟”
وقفتُ في منتصفِ الطريقِ بحيرة، وقبلَ أن أجدَ إجابةً…
“أنتِ.”
“آه!”
قفزتُ مذعورةً حين اخترقَ أذني صوتٌ عميقٌ منخفض.
“ماذا؟ ماذا يحدث؟!”
“هُدُوء!”
راحَ فيبي يضطربُ داخلَ الحقيبة، لكن لحُسنِ الحظّ لم يكن صوتُه عاليًا بما يكفي لجذبِ الأنظار.
أحكمتُ القبضَ على حقيبتي، ورفعتُ رأسي بحذرٍ نحوَ مصدرِ الصوت.
وهناك، رأيتُ رجلاً بشعرٍ أسود، لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على فراقِه.
“لِـ- لماذا أنتَ هنا؟!”
“دانتي.”
“ماذا؟”
كان جوابي متلعثِمًا، فقد بدا وكأنّه يردُّ على سؤالٍ لم أطرحه.
قال بصوتٍ هادئٍ حازم:
“اسمي دانتي، وليس ’أنتَ‘.”
“آه… حسنًا، إنه اسمٌ يناسبُكَ.”
لم يكن ذلك مجاملة، فقد كان اسمًا قويًّا، متناسقًا مع هيئتِه الصارمة.
‘كنتُ أتخيّلُ أسماءَ مثلَ جيمس أو كاليب…’
لكنّ “دانتي” كان مختلفًا، اسمًا لم أسمعْ به من قبل، يحملُ وقعًا غريبًا على الأذن.
تقدّم نحوي بخطًى واثقةٍ وقال بنبرةٍ هادئة:
“قلتُ إنّني سأرافقُكِ.”
كان وجهُه وصوتُه يوحيانِ بالجمود، لكن كلماته حملت في طيّاتها دفئًا غير متوقّع.
“لكنّني رفضتُ عرضَكَ.”
إنّه غريبٌ تمامًا عنّي. لماذا يبدي لي كلَّ هذا اللطف؟
ربّما لأنّني ما زلتُ متأثّرةً بخداعِ إيميل، لكنّني لم أستطع منعَ شكوكي من الظهورِ في صوتي:
“إذًا… كنتَ تنتظرُني هنا؟”
“وأين كنتِ تظنّينَ أنّني سأنتظر؟”
“هل كنتَ تنتظرُني حقًّا؟”
“ماذا تعنين؟ أتوقّعُ أن أكونَ بانتظارِ شخصٍ آخر؟”
كانت ملامحُه الصارمةُ تؤكّدُ ما قاله، لكنّني لم أستطع تصديقَ ذلك بسهولة.
ضيّقتُ عينيّ بشكٍّ واضح.
“ألم تثقْ بي عندما أخبرتكَ أنّني أقيمُ لدى آل كليين؟ هل كنتَ تتعقّبُني لترى إن كنتُ مشبوهةً؟”
رفعَ حاجبًا وقال ببرود:
“ماذاَ تظنّينني؟”
“أظنّك شخصًا مريبًا.”
عند إجابتي، ارتسمت على شفتي دانتي ابتسامة ساخرة.
“ألم تقولي من قبل إنني شخصٌ طيّب؟”
“متى قلتُ ذلك…؟”
وقبل أن أتمكّن من المجادلة، تدفّقت إلى ذهني محادثة البارحة التي كدتُ أنساها تمامًا.
〈… أنتَ شخصٌ طيّب.〉
〈لستُ كذلك. فقط انتظرتُ لأنّك كنتِ تبكين كثيرًا، ولم أستطع الحديث معكِ.〉
〈وهذا ما يجعلُك شخصًا طيّبًا.〉
“… يا إلهي، إنّها لعنةُ الكحول فعلًا. كيف لي أن أتحدّث مع شخصٍ التقيتُه لأوّل مرة بهذه الألفة؟”
لا بدّ أنّني كنتُ أشكو همّي فقط، صحيح؟ لم أفعل شيئًا غريبًا، أليس كذلك؟
راودتني مخاوف من أن أكون قد تفوّهتُ بحماقات دون أن أدرك، لكن سرعان ما تلاشت تلك الهواجس.
“حسنًا، لقد رأى دموعي وكلّ شيء بالفعل. لا يوجد ما هو أكثر إحراجًا من هذا.”
تنفّستُ بعمق، وأرخيتُ حذري قليلًا، محاوِلةً التخفيف من توتّري بابتسامةٍ مرتبكة.
“أنا آسفة، يبدو أنّني كنتُ متوتّرةً أكثر من اللازم. شكرًا لقدومِك لأخذي، كنتُ تائهةً لا أعرفُ إلى أين أذهب.”
“فلنكتفِ بالشكر فقط.”
رفض دانتي اعتذاري بسلاسةٍ وكأنّه أمرٌ غير مهم، وكلماته التي بدت دافئةً رغم برودتها جعلتني أرمشُ بدهشة.
وقبل أن أستوعب، امتدّت يده الكبيرة وانتزعت حقيبتي منّي بخفّة.
“آه!”
“هل هذا كلُّ ما تحملينه؟”
“نعم! ليس بالكثير، كان بإمكاني حملُها بنفسي…”
“وحين يكون الوزن خفيفًا، فالأولى أن تحمّليه لغيركِ.”
الحقيقة أنّ ما أقلقني لم يكن ثقل الحقيبة، بل “فيبي” الذي كان بداخلها.
لكن، لم أستطع إيجاد عذرٍ مناسبٍ لاستعادة حقيبتي، فاكتفيتُ بالسير خلف دانتي بخطواتٍ صغيرةٍ متردّدة.
حين خيّم الصمت، بدأت مشاعر القلق تعودُ إليّ من جديد.
‘لكن إذا ظلّت الحقيبة معه، فلن أتمكّن من الفرار إن حدث أيّ شيء غير متوقّع… هل يجدرُ بي المطالبة بها؟’
لم يكن الأمر أنّني أشكّ فيه تحديدًا، بل لأنّني تعلّمتُ ألا أثقَ بشيءٍ في هذا العالم.
عضضتُ شفتَي بتردّد.
‘حسنًا، سأطلبُها منه الآن.’
لكن، وقبل أن أتمكّن من فتح فمي، كان دانتي هو من سبقني بالكلام:
“إذًا، هل انتهيتِ من مشكلتكِ مع خطيبكِ؟”
كانت نيّتي طلبَ حقيبتي، لكن بمجرد أن سمعتُ تلك الجملة، اشتعلت غضبًا وأطبقتُ يديّ في قبضةٍ مشدودة.
“ذاك الـ… ذاك الوغد! عندما عدتُ، وجدته عاريًا في السرير مع صديقتي! بل كان يناديها بلقبٍ لم أسمع به من قبل، ’روزي‘…!”
كدتُ أعقر لساني بينما كنتُ أتمتمُ بشتائم لم أعتد قولها.
عندها، توقّف دانتي فجأة عن المشي، فاصطدمتُ بظهره العريض دون قصد.
وضعتُ يدي على جبهتي ومسّدتها برفق قبل أن أرفع رأسي.
كان حاجباه الكثيفان ينعقدان ببطء، وصوته الرتيب الهادئ تسلّل إليّ:
“هل تريدين مني أن ألقّنه درسًا؟”
“… أعتقد أنّني بدأت أفهمُ طبيعة هذا الرجل.”
بجسده الضخم وذراعيه القويّتين ووجهه الخالي من التعابير، بدا مخيفًا، لكن كلماته كانت دائمًا لطيفة.
كان يفكّر بي حقًا.
وجود شخصٍ يقف في صفي بهذه الطريقة، حتى وإن لم يكن سوى غريبٍ قابلتُه مؤخرًا، جعلني أشعر بالطمأنينة.
ابتسمتُ بثقةٍ وقلت:
“هذه مسؤولية والديه. أما أنا، فسأعتبر أنّه لم يكن مناسبًا لي من البداية.”
“…”
كنتُ أتوقّع أن يوافقني دانتي أو يردّ بإجابةٍ مقتضبة، لكنّه بدلاً من ذلك، بقي صامتًا.
ذلك الصمت الغريب جعلني أشعر بالحرج وأتساءل:
‘هل تصرّفتُ بمرحٍ مفرط؟ أم بدوتُ خفيفةً أكثر من اللازم؟’
بالطبع، الفرار من خطيبي لم يكن أمرًا يمكنُ الحديث عنهُ بخفّة.
شعرتُ بوخزة قلقٍ وأنا أحرّك يدي بارتباك، لكنّ دانتي تحدّث أخيرًا، بنبرةٍ بطيئةٍ هادئة:
“لقد كنتِ… أرفع شأنًا منه بكثير.”
اتّسعت عيناي دهشة.
وكأنّه أدرك أنّه قال أكثر ممّا ينبغي، أدار وجهه بسرعةٍ إلى الجهة الأخرى، ثمّ تسارعَت خطواته فجأة.
تأخّرتُ قليلًا في استيعاب الأمر، لكن ما إن فعلتُ حتى اعترتني رغبةٌ في الضحك.
“… آه، إنّه محرجٌ الآن.”
التعليقات لهذا الفصل " 11"