“جنيّة؟”
كان الأمر جديدًا عليّ تمامًا، إذ لم أسمع من قبل أن دماء الجان تسري في عروقي.
ومع فقداني لمعظم ذكريات طفولتي، كان من الطبيعي ألا أعرف.
عندها، وضع فيبي يديه على خصره وتباهى قائلاً:
“أجل، جنيّة. ولهذا السبب، أنا، التنين لعظيم، أحميكِ بهذه الطريقة. فقد كنتُ حاميَ الجان منذ زمن بعيد.”
“واو، هكذا إذن.”
كنت أتساءل دومًا لماذا كنتُ طفلة مطاردة من الناس، ولماذا كنتُ على ظهر هذا التنين الضخم.
والآن، وجدتُ إجابة واحدة على الأقل:
فيبي كان يحمي الجان منذ القدم، ولذلك بذل قصارى جهده في الفرار لحمايتي.
لكن، من هم هؤلاء الذين هاجموه لأجلي؟ ولماذا حاولوا أخذي؟ تساؤلات كثيرة راودتني، لكن للأسف، إجابات فيبي كانت غير كافية.
“أنا نفسي لا أعلم التفاصيل. فقد تم استدعائي فجأة من قِبَل ليليان لأحميكِ.”
إذن، كان اسم أمي ليليان.
مجرد معرفة ذلك كان كافيًا لي. وعندما أومأتُ برأسي، اقترب فيبي من وجنتي كما لو كان يحتضنني، وقال بحنان:
“أنتِ آخر جنيّة متبقية على وجه الأرض. وأنا لن أبتعد عنكِ حتى آخر يوم في حياتي. لذا، ثقي بي.”
شعرتُ بحزن خفيف لفكرة كوني الأخيرة من بني جنسي، لكن في الوقت ذاته، غمرني شيء من السعادة لكون فيبي سيبقى بجانبي حتى النهاية.
ضغطتُ بأصابعي على ظهره الصغير وأحطته بذراعي، ثم قلت:
“حسنًا، سأفعل. شكرًا لكَ، فيبي.”
“إحم، إحم.”
لم يكن هناك شيء ألطف من هذا التنين الصغير المتباهي.
لم أستطع مقاومة تقبيل أنفه وأذنيه وعرَفه. عندها، أخذ يتلوى وهو يصرخ:
“ابتعدي! يكفي هذا!”
ثم سألني بحذر:
“إذن… هل قررتِ؟”
“نعم.”
رسمتُ ابتسامة باهتة على شفتيّ. عندما أنهيتُ تبديل ملابسي، كان عقرب الساعة يشير إلى السادسة صباحًا.
وقتٌ مناسب للقاء إيميل فهو الآن في مكتبة القصر، فقد كان شخصًا مُجِدًّا لا يتأخر عن عاداته. وما بيني وبينه حديثٌ كان لا بد أن يُقال.
“سأذهب لمقابلة إيميل.”
عندما هممتُ بالمغادرة، صاح فيبي وهو جالس على كتفي بنبرة متذمرة:
“لم لا تتحركين ببطء أكثر؟ ربما لا يزال نائمًا بعد سهره حتى وقت متأخر من الليل!”
توقفتُ عند كلماته. كان أفراد عائلة كليين أناسًا منظمين للغاية، ونادرًا ما يسهرون حتى وقت متأخر. لكن…
“سهر؟ من كان معه؟”
“لست متأكدًا تمامًا، لكن يبدو أن امرأة قضت الليلة هنا. سمعتُ إحدى الخادمات تقول ذلك عندما طرقت باب غرفتك.”
“… روزيان؟”
لم يكن من غير المألوف أن تبيت روزيان في قصر كلين، لكن اليوم… كان الأمر يثير حفيظتي.
“في اليوم الذي لم أخرج فيه من غرفتي بسبب مرضي… اختارت أن تبيت هنا؟ هل أبالغ في حساسِيتي؟”
كان هناك شيء يبعث على الريبة، وكأنه وخزة حادة في صدري. عضضتُ شفتي قليلاً ثم سألت فيبي:
“أي غرفة كانت؟”
“هاه! وهل تظنينني خادمك الشخصي الذي يجيب على كل أسئلتك فورًا؟”
“آه، إذن لا تعرف؟”
تنهدتُ، فرفرف بجناحيه الصغيرين في الهواء ثم قال بتكلف:
“بل أعرف. كانت في الغرفة الأخيرة بالطابق الثاني.”
“إن كان يعرف، فلمَ كل هذا العناد؟”
الغرفة الأخيرة في الطابق الثاني… كانت قريبة جدًا من مكتبة إيميل.
“هذا أيضًا مزعج.”
تخيلتُ بسهولة إيميل متظاهِرًا بقراءة الكتب حتى وقت متأخر، ثم يتسلل إلى غرفة روزيان.
أو ربما العكس ، أن تتظاهر روزيان بالنوم، ثم تذهب إليه بنفسها.
في الحالتين، شعرتُ ببرودة جليدية تتسلل إلى دمي.
“…”
لابد أن تعبير وجهي بدا مخيفًا، لأن فيبي أخذ يراقبني بقلق. وعندما التقت نظراتنا، تمالكت نفسي بسرعة ورسمتُ ابتسامة خفيفة.
“بما أن روزيان كانت هنا، فهذا يعني أن الكونتيسة لم تشعر بغيابي، أليس كذلك؟ حسنًا، على الأقل هذا مطمئن.”
“ليس تمامًا. عندما فتحتُ الباب، وجدتُ أمامه طبقًا من الطعام وبعض الدواء.”
“هكذا إذن…”
لقد أرسلت لي الكونتيسة الدواء بنفسها. حتى بعد تلك الرؤى المرعبة التي رأيتها، لم أستطع إنكار أن الكونتيسة كانت دائمًا تعاملني بلطف.
“أنا مدينة لها بالكثير.”
لا زلتُ أذكر دفءَ يديها حين احتضنتني كابنةٍ لها. أغمضتُ عيني بقوة.
“لكن… هذه مسألة تتعلق بحياتي. ليست حياتي وحدي، بل أيضًا حياة إيميل وروزيان. إذا استمروا بخداع أنفسهم، فلن يكونوا سعداء أبدًا.”
الحب الذي يُخفى عن العيون لا يمكن أن يكون سعيدًا. كان عليّ أن أفعل الصواب للجميع.
“يجب أن أنهي الأمر مع إيميل.”
بوجه حازم، خطوتُ نحو المكتبة.
* * *
لم تكن المكتبة بعيدة عن غرفتي، مجرد خمس دقائق سيرًا على الأقدام.
لطالما كان هذا الممر شاهدًا على طفولتي مع إيميل، حيث كنا نركض ونلعب هنا.
“لكن الآن… أقفُ أمام مكتبتهِ بسبب امرأة أخرى.”
كل ما أردته أن يعترف بما فعله، أن يقول إنه آسف… على الأقل لمرة واحدة.
“وأرجو أن تشجّعَ بدايتي الجديدة.”
أخذتُ نفسًا عميقًا، ثم رفعتُ يدي ببطء وطرقتُ باب المكتبة.
“إيميل، هل أنتَ هنا؟”
لم يأتِ أيّ ردّ من الداخل.
“هل يمكن أنه لا يزال نائمًا بعد سهره ليلة أمس؟”
بما أن فيبي قال ذلك، فلا بد أنه صحيح. بعد لحظة من التردّد، استدرتُ بهدوء، عازمةً على العودة.
لكنّ القدر كان قاسيًا عليّ.
فجأة، انفتح الباب المغلق بهدوء، ليملأ المشهد أمامي بوهج أحمر…
“ما الذي جاء بكِ في هذا الصباح الباكر، إيفون؟”
“روزيان…”
لم يكن الشخص الذي خرج من الغرفة هو إيميل بل كانت روزيان.
كانت واقفة عند العتبة، ترتدي ثوب نوم فضفاضًا دون حتى أن تتكلف بارتداء شال.
كان قماش الثوب خفيفًا بأحزمة رفيعة تنزلق عن كتفيها العاريين، ليكشفا عن بشرتهما البيضاء الناعمة.
شعرها كان فوضويًا، ووجهها بلا مساحيق، وثوبها الفضفاض لم يُخفِ الحقيقة.
كان المعنى واضحًا تمامًا.
ارتجفت حدقتاي في صدمة، وأجبرتُ قدميّ على الثبات في مكاني، رغم أن كل ما رغبتُ فيه كان الهرب فورًا.
قبضتُ على يدي بقوة وسألتها بصوت مختنق:
“… أين إيميل؟”
أسندت روزيان جسدها إلى إطار الباب، وأخذت تلوّي خصلة من شعرها حول إصبعها قبل أن تجيب:
“إنه نائم. كان متعبًا جدًا البارحة.”
“نائم؟ في المكتبة؟”
كانت هناك أريكة طويلة في المكتبة، موضوعة لراحة القراءة. لكن فكرة أن إيميل قد نام هناك؟ لم تكن قابلة للتصديق.
‘إنه نفس الشخص الذي كان يوبّخني لمجرد أنني كدتُ ألطّخ كتابًا ببضع قطرات من الشاي أثناء القراءة.’
كان إيميل شخصًا لطيفًا، لكنه كان صارمًا حين يتعلق الأمر بكتبه.
لذا، فكرة أنه نام هنا، ومع روزيان تحديدًا… لم أستطع استيعابها.
حاولتُ كتم ارتجاف أنفاسي وسألتها بصوت هادئ:
“وأنتِ؟ لماذا أنتِ هنا؟”
لحسن الحظ، خرج صوتي طبيعيًا، رغم أن قلَبي كان ينبض بجنون.
لكن روزيان، بابتسامتها التي بدت كأنها تسخر مني، مالت برأسها قليلاً وقالت:
“هل يجب عليَّ حقًا أن أشرح لكِ؟”
“نعم. قوليها بوضوح. ما الذي يحدث هنا بالضبط؟”
“كنتُ أحاول مراعاة مشاعركِ، لكن بما أنكِ مُصرَّة…”
بكل هدوء، دفعت الباب أكثَر.
تدفّق نور الصباح المتسلل عبر النافذة، مسلطًا ضوءه على الأريكة داخل المكتبة… حيث كان إيميل نائمًا.
شعره البني كان مبعثرًا على الوسادة، ووجهه الهادئ كان يبدو طفوليًا بعض الشيء وهو مستغرق في النوم.
لكن المشكلة لم تكن في وجهه…
كان في قميصه الملقى على الأرض، مجعدًا، بينما كان جسده العاري مغطى فقط ببطانية خفيفة.
مع دخول تيار الهواء البارد عبر الباب المفتوح، تحرك إيميل في مكانه وأصدر أنينًا ناعسًا:
“روزِ…؟ ماذا تفعلين؟”
“لحظة واحدة، عزيزي.”
أجابت روزيان بصوت ناعم، وكأنها تطمئنه، ثم التفتت إليّ وابتسمت ابتسامة واسعة، كأنها تستمتع برؤية وجهي الشاحب.
ثم، بصوت خافت، تمتمت بمرح:
“نحن… في علاقة كهذه.”
ثم أضافت، هامسةً بابتسامة عذبة:
“بالمناسبة، سمعتُ أنكِ ستتزوجين قريبًا… مباركٌ لكِ.”
كان ذلك اعترافًا وقحًا، ليس فقط بأنها كانت تخدعني طوال هذا الوقت، بل بأنها ستستمر في ذلك حتى النهاية.
تجمدتُ في مكاني، رفعتُ رأسي ببطء وحدّقتُ في وجهها.
ابتسامتها كانت ناعمة كزهرةِ وردٍ حمراء، جميلة كما يوحي اسمها.
(ميري: دلطشيها براجدي كسري سنونه وريحي گلبنه )
لكنني، لأول مرة، رأيتُ فيها وجهًا غريبًا تمامًا…
صديقتي القديمة لم تكن سوى شخصٍ لم أعد أعرفهُ.
التعليقات لهذا الفصل " 10"