لعبوا طوال فترة بعد الظهر، وعندما قاربت الساعة الرابعة والنصف إلى الخامسة، غربت الشمس،
وبدأ ظل الجبل يغطي بيتًا تلو الآخر، فأذنت “لين تشوشا” للأطفال بالخروج للعب.
خصوصًا أن الأشقياء الثلاثة كانوا قد عادوا لتوهم من السوق البلدي، بل واشتروا حلوى، فلا بد لهم من الخروج للتباهي بها.
كان الكبير يحمل في كل يد قطعة حلوى، ينهش من هذه وتلك بالتناوب، بينما كان الثاني أكثر أناقة وهدوءًا،
يمسك بقطعة واحدة ويأكل منها ببطء. أما الصغير، فلم يكن مهتمًا بالحلوى،
بل كان يمسك بمصاصة تفوق حجم كفه، يقفز فرحًا وهو يخرج من المنزل.
في هذه الأثناء، ذهبت “لين تشوشا” لتبحث عن العم “وانغ” لترى إن كانت عربتها الصغيرة قد انتهى صنعها.
في الآونة الأخيرة، أرهقها حمل الماء، ويداها أصبحتا تؤلمانها وتتخدران. “آه…” تنهدت.
أما العربة التي دفعت ثمنها بعدة قطع من النقانق المجففة، فقد أخذتها عائلة “وانغ” على محمل الجد. لم يمضِ ثلاثة أيام حتى كانت جاهزة.
تتكوّن من عجَلَتين من الحديد والخشب أُحضرتا من محل خردة في البلدة، ولوح خشبي بسيط، وعليه عصا للسحب والدفع، تصميم بسيط لكنه عملي.
لكن عندما رأت “لين تشوشا” تلك العربة، أضاءت عيناها وقالت:
“يا عم وانغ، لم تخيّب ظني، حقًا رائع!”
رفعت إبهامها بإعجاب، وكانت كلماتها مليئة بالتقدير، فبعد كل شيء، هي لا تعرف كيف تصنع مثلها بنفسها.
ضحك العم “وانغ”، وامتلأ وجهه المتجعد بفخر ورضا:
“طبعًا، كنتُ نجارًا في شبابي!”
“حسنًا، سأأخذها الآن إذًا.”
لحسن الحظ، لم تكن مضطرة هذه الليلة للذهاب إلى الجدول لجلب الماء، فقط تملأ الدلو، تضعه على العربة، وتدفعه للعودة إلى المنزل.
يا لها من راحة!
“حسنًا.” أومأ العم “وانغ” برأسه عدة مرات، كان بالأمس لم يُتم العربة بعد، فلم يجرؤ على طبخ النقانق خوفًا من الحاجة لإعادتها.
أما اليوم، فقد صار بإمكانه أن يطلب من العجوز أن تطبخها.
بعد يومين سيكون وقت الحصاد، لا بد أن يتناولوا طعامًا جيدًا ليستطيعوا العمل.
عاد العم “وانغ” إلى منزله سعيدًا، يلوّح بيديه خلف ظهره، ويصيح لزوجته أن تطبخ. لكنها قابلته بالصراخ والغضب ورمت شيئًا نحوه:
“أكل، أكل، أكل! ألا تعرف كيف تطبخ؟! أنا مشغولة حتى الموت!”
مسح أنفه باستسلام وقال:
“هُه، وما المشكلة؟ أتظنين أني لا أعرف كيف أطبخ؟”
حسنًا، سيطبخ بنفسه إذًا!
أما “لين تشوشا”، التي كانت تدفع عربتها الصغيرة، فلم تسمع بما جرى في بيت العم “وانغ”،
بل كانت تمشي ببطء نحو بيتها، تفكر في حياتها القادمة.
لا يمكنها البقاء في الريف للأبد. صحيح أن الهواء نقي، والناس طيبون… لكن كل شيء هنا صعب وغير مريح.
أما شراء منزل؟ فليس لديها ما يكفي من المال. صحيح أن لديها سوبرماركت، لكن لكي تحول البضاعة إلى مال،
عليها بيعها في السوق السوداء. وإذا قبضوا عليها، قد تُعدم!
وبينما كانت تجر العربة وتصل إلى باب منزلها، كانت تنوي الذهاب إلى المطبخ لإحضار الدلو و”جلب الماء”، لكن أطفالها عادوا، قذرين، بعيون محمرة من البكاء.
قفزت “لين تشوشا” فورًا من مكانها وركضت إليهم، وقد تملكها القلق والذعر:
“ما الذي حصل؟ من تجرأ على إيذائكم؟”
كان الكبير يعضّ شفتيه بعناد وعيناه محمرتان، الثاني كان غاضبًا يقبض يديه وفي عينيه بقايا الظلم،
أما الثالث، فقد كان يبكي بحرقة. رأتهم أمهما مغطّين بالتراب وكأنهم تدحرجوا على الأرض.
“غوغو! غوغو! سرق حلوائي… وضرب، ضرب أخي الأكبر… أوه أوه أوه…”
صرخ الثالث باكيًا، لم يُخفِ شيئًا من إحساسه بالظلم، أو اعتماده الكامل على أمه.
فاشتعلت “لين تشوشا” غضبًا:
“ماذا؟ يجرؤ أحدهم على إيذاء أولادي؟ يريد الموت إذًا! هيا، أمكم ستعيد لكم حقكم! طالما أنا هنا، لا أحد يلمسكم!”
أمسكت بأيديهم وخرجت لتأخذ بثأرهم، فرفع الأشقياء الثلاثة رؤوسهم بعيون مليئة بالأمل.
“هيا، خذوني إليه.”
ظهرت هيبة “لين تشوشا” فجأة، فمسح الكبير دموعه، وقال بصوت طفولي مكسور:
“إذا، إذا قام، بضربك أيضًا، ماذا سنفعل؟”
كأنه أراد أن يمنعها، لكنه كلما تكلم ازداد شعوره بالظلم:
“لماذا؟ لماذا أبي ليس في المنزل؟”
ثم انفجر باكيًا:
“أوه أوه… هل ستُضربين أيضًا؟ لماذا يضايقوننا جميعًا؟”
ربّتت على رأسه، ومسحت دموعه وقالت بابتسامة مليئة بالصلابة:
“أي كلام هذا؟ ألم تتذكر كيف أمسكت بشعر العمة الكبرى وجعلتها تصطدم بالجدار؟ لا تبكِ. هيا بنا!”
قالت، وعباراتها ملأتهم حماسًا.
مسحوا دموعهم، وتذكّروا قوتها قبل أكثر من نصف شهر، فقادوها نحو بيت “غوغو”، لا يزالون يمسحون دموعهم…
نعم! لا بد أن نعيد له حلوته.
الكبير بقي قلقًا، وبين الحين والآخر كان يلتفت إليها، كأنه ما زال يفكر إن كان من الأفضل التراجع.
لكنهم وصلوا أخيرًا إلى بيت “غوغو”.
لم يكن هناك عمل في الحقول اليوم، فجميع الناس كانوا في بيوتهم في هذا الوقت. وقفت “لين تشوشا” عند الباب، يداها على خصرها، وصرخت:
“غوغو! أيها الحقير، اخرج فورًا!”
كان صراخها عاليًا لدرجة أن جميع أفراد عائلة “غوغو” سمعوه. كانت أمه في الداخل تغسل الأرز لتطهو،
وما إن سمعت صوتًا ينادي على ابنها بغضب، توقفت.
مسحت يديها بثيابها وخرجت، فرأت زوجة “شي جينغمينغ” تقف عند الباب مع ثلاثة أطفال،
وبنظرة سريعة، رأت على الأطفال آثار التراب والبكاء…
قالت بتظاهر البراءة:
“لماذا تبحثين عن غوغو؟”
ردّت “لين تشوشا” بوجه قاسٍ وغاضب:
“أبحث عن غوغو. ضرب أطفالي الثلاثة وسرق حلوى ابني.
إنه في البيت، أليس كذلك؟”
صرخت الأم في الداخل:
“غوغو! غوغو!”
كان “غوغو” قد عاد منذ قليل، مختبئًا في غرفته، يلعق مصاصة ضخمة سرقها، وهو يتساءل إلى متى يمكنه أن يستمتع بها.
عندما سمع أمه تناديه، انكمش على نفسه وخبّأ الحلوى تحت الغطاء.
وبعد تردد طويل، خرج بخطوات حذرة، خطوة بخطوة، حتى وقف أمامهم، وسأل بخوف
“ماما، لماذا تنادينني؟”
سألته:
“غوغو، هل ضربت أطفال الناس؟”
كان “غوغو” في السادسة أو السابعة، مدلل من جدته، يأكل أكثر من أقرانه، وأقوى منهم جسدًا.
وكان دائمًا متسلطًا، لذلك لا يحبه الأطفال الآخرون.
عندما رأى وجه أمه الجاد، أدرك أن الليلة قد تكون قاسية، وبكى في قلبه: “وداعًا، يا مؤخرّتي!”
لكنه فورًا أنكر وقال بقوة:
“لم أفعل شيئًا.”
فصرخ الكبير:
“كاذب! ضربتنا! ضربت يد أخي الصغير، وضربتني هنا، وهنا…”
وأشار إلى كدماته.
قالت “لين تشوشا” ببرود:
“سيدة، أليس من المفترض أن تشرحوا لنا ما فعل ابنكم؟”
ابتسمت الأم وقالت:
“طبعًا، غوغو، تعال واعتذر لإخوتك.”
لكن “غوغو” رفض:
“قلت لكم، لم أفعل شيئًا!”
فقد أدرك أن الاعتراف يعني إعادة الحلوى.
قالت الأم متشككة:
“هل أنتِ متأكدة أن غوغو هو من فعلها؟”
ردّت “لين تشوشا”:
“لو لم يكن هو، لما أتيت. غوغو! هل سرقت الحلوى من ابني؟ تلك الحلوى التي أرسلها والده من بعيد، ثمنها يوان كامل!”
أرسلت نظراتها الغاضبة نحوه.
صاحت الأم غاضبة:
“ماذا؟ تضربين طفلًا؟”
ردّت “لين تشوشا”:
“أنا أرد على من ضرب أولادي. أنتِ تنحازين لابنك ولا تريدين الاعتراف؟”
اتسعت عينا “لين تشوشا” بنظرة حادة، تقابلت مع نظرة شرسة من أم “غوغو”، التي قالت:
“أنا فقط أوضح لابني، وأنتِ تريدين ضربه؟”
خطت “لين تشوشا” خطوة للأمام، قالت ببرود:
“طفلك اعتدى على أولادي، وأنتِ بلا ذرة اعتذار، التربية تبدأ من الأهل.”
هي لا تضرب الأطفال، بل تؤدب آباءهم.
فما إن أنهت كلامها، حتى هجمت عليها أم “غوغو”، أمسكت بشعرها محاولة ضربها.
لكن “لين تشوشا” تفادت الهجوم، وركلتها مباشرةً، فسقطت على الأرض.
صرخت الأم بصوت حاد، وهجمت من جديد، وجهها الغاضب والمشوه يكشف عن شدة كراهيتها.
أما الأطفال الثلاثة، فكانوا واقفين يراقبون أمهم وهي تضرب أم “غوغو”، مدهوشين من حركتها القوية، لم تكن ضعيفة أبدًا.
“غوغو” رأى والدته تُضرب، فبكى:
“بابا! ماما تُضرب! أحدهم يضربنا!!!”
في الداخل، كان أبوه لا ينوي التدخل، فهذه “شؤون نساء”، لكن صراخ ابنه جعله يخرج غاضبًا.
ما إن خرج، حتى رأى زوجته تتشاجر، وكانت “لين تشوشا” أمامها.
قال:
“ماذا يحدث هنا؟” وتقدّم للتدخل.
أمسك بذراع “لين تشوشا”، لكن زوجته استغلت الفرصة وضربتها على ذراعها عدة مرات، فتكوّنت كدمات.
لكن “لين تشوشا” فجأة رفعت يدها وضربت الرجل أيضًا.
امرأة ضد رجلين؟ كل من رأى ذلك رفع إبهامه بإعجاب وقال:
“رائعة!”
ولم تخفِ “لين تشوشا” الأمر، بل وهي تمشي للبيت كانت تعلن وجهتها، وكل من رآها مع أطفالها القذرين وعيونهم الحمراء،
غضبها المشتعل… علم أنها ذاهبة لتأخذ بثأرها من بيت “غوغو”.
الجميع كان يعرف أن “لين تشوشا” امرأة ضعيفة، تُضرب من “العمة غو” منذ أشهر… لكن من لا يحب أن يرى شجارًا؟
القرية مملة، لا تسلية فيها، يحب الناس الشجارات والدراما أكثر من أي شيء.
ولو ضُربت زوجة “شي جينغمينغ” المسكينة، يمكنهم أن يساعدوها لاحقًا…
لكن…
ما رأوه كان مختلفًا، رأوا “لين تشوشا” تضرب والدي “غوغو”، فُوجئوا:
“متى أصبحت زوجة شي جينغمينغ بهذه القوة؟”
تسف، انظر إلى تلك القوة، وتلك الحركات الجريئة، وهي تضرب والدي غوغو حتى صرخا من الألم.
في الحقيقة، “لين تشوشا” في حياتها السابقة كانت تجرؤ على اللعب والهوس في كل مكان، جربت جميع أنواع الرياضات الخطرة،
فلا بد أن تكون لديها القدرة على حماية نفسها. امرأة تتنقل وحدها في الخارج، عرضة للأذى،
لذلك خاضت تدريبات في التايكوندو، والساندا، والمواي تاي وغير ذلك.
أما الأشقياء الصغار الثلاثة، فلم يعلموا يومًا أن “المرأة الشريرة” بهذه القوة! قادرة على الضرب؟
وتضرب اثنين معًا، بل حتى تضرب والد غوغو القوي؟
إذا كانت قوية هكذا، فلماذا كانت تُضطهد سابقًا من قِبل “العمّة الكبرى”؟
لكن هذا السؤال لم يدم سوى لحظة، فقد كانوا جميعًا يحدّقون فيها بعيون تتلألأ، منبهرين بشجاعتها وهي تضرب من يعتدي عليهم.
يا لها من… مذهلة! أوه، أوه، أوه…
في تلك اللحظة، بدا أن الأشقياء الثلاثة قد سُحروا، فكل نظراتهم كانت مصوّبة نحو “لين تشوشا”،
ولم يبقَ في أذهانهم شيء من صورتها القديمة كامرأة شريرة، فقد حلّت محلها هذه المرأة التي تدافع عنهم بكل جرأة.
وبينما كانت الأنباء تنتشر بأن “لين تشوشا” قد تعرّضت للأذى، جاء كثير من الناس لرؤية ما حدث،
وحين رأوا هذا المشهد، أدركوا أن “لين تشوشا” هذه ليست امرأة يمكن العبث معها.
وخاصة أولئك الشبان الطائشين الذين تم تحريضهم سابقًا من قبل “لين تشيوشوانغ” للزواج من امرأة،
في هذا الزمان، الزواج بحاجة إلى مهر، وإن لم يكن لدى الرجل مهر، فلن توافق الفتاة.
ولكن الأمر ليس مقصورًا على المهر فقط، ففي بعض الحالات، إذا كان الرجل مجتهدًا، مستقيمًا، حسن الأخلاق… فقد يُغضّ الطرف عن بعض الشروط.
غير أن أولئك الطائشين الذين كانوا برفقة “سون شيانغشيوي” لم يكونوا من هذا الصنف.
فقد كان “سون شيانغشيوي” يحاول إخفاء حقيقة أنه يرتاد السوق السوداء، فكان يجتمع برجال سيئي السمعة لا يجيدون سوى تبديد الوقت.
منذ عدة أيام، جاء بعض أصدقاء “سون شيانغشيوي” لتناول الطعام معه،
وكانوا يغارون بشدة من كونه نال امرأة رغم كونه من الفئة نفسها التي ينتمون إليها. لماذا هو؟
ولما عرفوا أن “لين تشيوشوانغ” كانت من عرضت نفسها عليه، ازدادوا حقدًا، وقال أحدهم:
“سون، حياتك أصبحت رائعة الآن، امرأة وأولاد ودفء في البيت، أما نحن فمسكينون…”
أما “سون شيانغشيوي”، فادعى أنه يعمل في السوق السوداء كنوع من التجارة، لكنه لم يكن إلا تابعًا صغيرًا،
وكان قد تسبب بخسارة شحنة سابقة، واضطر لتعويضها بمبلغ كبير.
قال بفخر، رافعًا ذقنه:
“ما المشكلة؟ فقط امضِ أمام الفتيات الجميلات كثيرًا، وانظر إلى زوجتي، وقعت في غرامي بسبب وسامتي.”
ردّ عليه أحدهم:
“حقًا؟ أنا لا أعتقد ذلك يا سون، انظر إلى وجهي، بهذا الشكل، ولا أحب العمل أيضًا، أن أجد لقمة أسدّ بها رمقي فحسب، فهذا كافٍ.”
“لين تشيوشوانغ”، التي كانت تحضّر الطعام لهم، بدت منزعجة. هي في الحقيقة لم تكن تحب أصدقاء زوجها، بلا نفع ولا قيمة.
لكن ما إن أحضرت الطعام وسمعت كلامهم، حتى شحذت أذنيها باهتمام، وبدأت تفكر في موضوع الزواج.
فجأة، تذكرت أرملة ما، ونظرت حولها، تفكر مَن الأنسب لــ “لين تشوشا”.
سألها أحدهم عندما لمح اهتمامها:
“سيدة، هل لديكِ من تزوّجنا بها؟”
فمن لا يرغب في حياة أسرية دافئة؟ عندما يعود في المساء ويجد نفسه وحيدًا، تبدأ الأفكار بالانهمار.
أجابت:
“طبعًا، هناك فتاة شابة وجميلة، فقط أن…”
وتوقفت عمداً، لتثير فضولهم.
“فقط ماذا؟”
كان الجميع متلهفًا لمعرفة من تكون تلك الشابة الجميلة، فهم في سن مليء بالطاقة والرغبة
ردّت مبتسمة:
“ما رأيكم بابنة عمي، لين تشوشا؟ كيف تبدو لكم؟”
ما إن نطقت باسمها، حتى اتجهت الأنظار إليها بدهشة، وكأن الجميع يقول: “هل تمزحين؟”
قال أحدهم:
“سيدة، ابنة عمك أصبحت زوجة عسكري، هي متزوجة الآن.
لو عاد زوجها ‘شي جينغمينغ’ فجأة، فنحن من سيدفع الثمن.”
وأضاف آخر:
“صحيح، لا يجب أن تجرينا إلى الهلاك.”
“سون، هل تحاول زوجتك التخلّص منا؟”
فجأة شعر الجميع بأن “لين تشيوشوانغ” تحاول إيقاعهم في ورطة،
فاستداروا إلى “سون شيانغشيوي” منتظرين أن يؤدبها.
قال “سون شيانغشيوي” وهو يحدّق بها:
“كفى هراءً يا تشيوشوانغ، ابنة عمك متزوجة!”
لو كانت أرملة، لأمكن الحديث، لكن زوجها في الجيش، وإن انتشرت الأقاويل، فالأمر قد يكون له عواقب وخيمة.
لكن “لين تشيوشوانغ” تمادت وقالت بغموض:
“أنتم لا تعرفون، مؤخرًا جاء بعض أفراد الجيش للتحقيق في وضع لين تشوشا،
أعتقد أن شي جينغمينغ ربما… حدث له شيء.”
سكت الجميع، وتذكّروا صورة “لين تشوشا” السابقة، حين كانت تتعرض للإهانة، وكان وجهها دائمًا عابسًا.
لكن بعد أن “عادت”، بدأت تهتم بأولادها، وأصبح وجهها مشرقًا وجميلًا، واختفى العبوس، فأصبحت أكثر جاذبية.
بعضهم تحرّكت مشاعره، لكنه خاف، فإن عاد زوجها، وهو عسكري شرس، فالضرب سيكون موجعًا.
لكن بعد ما رأوا اليوم من “لين تشوشا”، وهي تضرب رجلين معًا، لم يعد الأمر يتعلق بزوجها،
بل صارت هي نفسها مصدر الرهبة!
بعض الرجال الذين بدؤوا يفكرون بأفكار غير لائقة، تراجعوا فجأة، بل وانكمشوا خوفًا من أن يكونوا الضحية التالية.
أما غوغو، فقد انهار من الخوف وأجهش بالبكاء، فوالداه يُضربان أمامه على الأرض.
وفي تلك اللحظة، كانت الجدة “لي دانيانغ” في الحديقة تسقي الخضار، فسمعت أحدهم يصرخ:
“خالة لي! هناك شجار في بيتكم! أسرعي!”
ظنّت أن ابنها ضرب أحدًا مجددًا، فما الجديد؟ فردّت ببرود:
“آه، حسنًا.”
لكن عندما أنهت عملها وعادت، وجدت مشهدًا فوضويًا:
والد غوغو وأمه مطروحان على الأرض، بينما كانت “لين تشوشا” تقف شامخة وكأنها عملاقة،
وبجانبها أولادها الثلاثة يمسكون بدجاجة من بيت آل لي.
فما إن رأت أن الدجاجة أُخذت منهم، حتى صرخت واندفعت لتتشاجر.
قالت “لين تشوشا” وهي تشير لأطفالها:
“أطفالنا ضُربوا وسُرقت منهم حلوى قيمتها يوانان، ألا تنوون التعويض؟”
وأضافت مبتسمة:
“ثم إنكما ضربتماني، فأنا بحاجة إلى لحم دجاج لأتغذى جيدًا!”
سخر البعض من كلامها، معتبرين ما فعلته وقولها وقاحة لا حدود لها.
لكن “لين تشوشا” لم تهتم، فحين صاحت “لي دانيانغ”:
“أيتها الـ…! أتيتِ إلى بيت آل لي لفرض قوتك؟!”
ردّت “لين تشوشا” بهدوء بارد، وابتسامة جامدة، وقد أمسكت بالجدة بقبضة شرطة، وقالت:
“أيتها العجوز الحقيرة، ابنك وزوجته ضرباني معًا، وحفيدك اعتدى على أبنائي، هل تظنين أني لن آتي لأخذ حقي؟”
احتقرت الجدة أولادها العاجزين:
امرأة ضعيفة لم يستطيعوا السيطرة عليها؟
قالت:
“اتركي دجاجتي وسأتجاهل ما حصل.”
لكن “لين تشوشا” أجابتها بهدوء قاتل:
“نعم، نأخذ الدجاجة كتعويض ولا نحاسب حفيدك على ضرب أولادي وسرقة حلوى ثمينة.”
وتجاهلتها تمامًا، ما جعل الجدة تغلي من الغضب، وحاولت استرداد الدجاجة.
لكن “لين تشوشا” منعتها وقالت:
“ابنك بنفسه قال إنها تعويض لنا، اذهبي تحدثي معه، أو علّمي حفيدك كيف يتصرف.”
فاندفعت الجدة نحوها غاضبة، لكن “لين تشوشا” أمسكت بها بيد واحدة، وأوقعتها أرضًا، وقالت:
“احترمتك لأنك كبيرة في السن، فلا تجبريني على تغيير رأيي.”
صاحت الجدة بغضب:
“أيتها الـ… اللعينة، أطلقي سراحي! لن أسامحك! أيتها العاهرة، تجرؤين على ضربي؟!”
ولم تصدق أنها وقعت في قبضة “لين تشوشا”.
وفي تلك اللحظة، وصل قائد الفريق، وقد سمع أن هناك شجارًا، وكان غاضبًا جدًا، فهم على وشك موسم الحصاد، والناس ما زالوا يتشاجرون؟
وحين دخل، رأى الجميع واقفين، وحين اقترب ورأى المشهد، صُدم.
كان يظن أن عائلة لي هي التي تهاجم “لين تشوشا”، فإذا به يراها هي… تضرب عائلة لي.
“يا زوجة جينغمينغ، ما الذي تفعلينه؟!”
القرية كانت تتكوّن في معظمها من لاجئين هاربين من الكوارث،
لذا كانت معظم الألقاب مختلفة. عبس قائد الفريق أمام المشهد، وأظهر دهشة، لكنه،
بما أنه رجل مخضرم، لم يكن من الصعب عليه أن يفهم ما يجري.
زوجة شيه جينغمينغ الصغيرة لم تكن ضعيفة لدرجة أنها لا تستطيع فعل شيء.
كما أنها لن تسمح للآخرين بأن يظلموها.
“قائد الفريق، نحن مظلومون حقًا. جينغمينغ ليس في البيت، وكل من هبّ ودبّ يريد أن يدوس علينا.
جينغمينغ أرسل إلينا أخيرًا بعض الأشياء من الجيش، وما إن أعطينا أولادنا القليل منها حتى جاء ‘غوغو’
ابن عائلة لي وسرقها، بل وضرب أولادي! أخبرني، أليس هذا ظلمًا فادحًا؟!”
بدأت تروي مظلوميتها وهي تعض على شفتيها، بينما تحوّلت أنظار الجميع إلى الأولاد الثلاثة الذين كانوا يمسكون بدجاجة كبيرة. كانوا متّسخين،
وحقًا بدوا وكأنهم قد تعرّضوا للضرب.
“أخذت أولادي الثلاثة معي إلى بيت عائلة لي لأطلب تفسيرا، لكن ما إن طلبت من غوغو أن يعتذر لأولادي حتى ثارت والدته كالمجنونة محاولةً ضربي،
ثم انضم والد جودان أيضًا! رجل بالغ، يضرب فتاة! لقد شعرت بالخزي من أجلهم!”
تحدثت لين تشوشيا بطلاقة وجرأة، لم تكن تشوّه الحقائق بالضبط، لكنها أيضًا تخطّت بعض التفاصيل،
“لقد ضربوني بهذه القسوة، وبما أنهم لا يستطيعون تعويض حتى حلوى سعرها يوان واحد، لم يكن أمامي سوى أن آخذ دجاجتهم تعويضًا.”
“تبا لك! من الذي قال إن حبة سكر تساوي يوانًا؟!”
صرخت لي العجوز وهي تُقيّد، لم تكن تصدق، واعتقدت أن لين تشوشيا جاءت للسرقة.
يجب أن تعلم، في تلك الأيام، كان لحم الخنزير يُباع بخمسين فَنغًا للكيلو غرام، وكان بالإمكان شراء دجاجة كاملة بيَوان واحد.
“كيف لا تساوي؟ الحلوى التي أرسلها جينغ مينغ من الجيش كانت بحجم قبضة اليد! في جمعية التوريد والتسويق،
السكر يُباع بيَوان واحد للكيلوغرام، وحبتنا تلك لا تقل عن سبعين أو ثمانين فَنغ.”
في السبعينيات، كان السكر لا يزال مرتفع الثمن بسبب قلّة المصانع وصعوبة إنتاج المواد الخام.
فبدلًا من زراعة محاصيل غذائية، كانت الأراضي تُزرع بقصب السكر وما شابه.
“أنتم ضربتمونا، فعلى الأقل عليكم تعويضنا ببعض القروش. لذا، أخذتُ دجاجتكم تعويضًا، وهذا أمر منطقي تمامًا.”
أنهت لين تشوشيا حديثها وهي تهز رأسها بجدية.
قائد الفريق عبس وهو يستمع إليها:
“زوجة جينغ مينغ، الآن أهل عائلة لي لم يضربوك، بل أُصيبوا على يديك!”
كان يظن أن لين تشوشيا تلفق الأمور. كان موسم الحصاد يقترب، وعائلة لي كانت من الأسر النشيطة في العمل.
“قائد الفريق، هم من بدأوا بضربي أولًا، وهذا يُعد أذىً عمدًا. حسب المادة العشرين من قانون العقوبات في جمهورية الصين الشعبية،
يُعد الدفاع المشروع عن النفس في وجه اعتداء غير قانوني لحماية النفس أو ممتلكات الغير أو المصلحة العامة تصرفًا مشروعًا،
حتى لو ألحق ضررًا بالمعتدي، ولا يتحمل المُدافع مسؤولية جنائية.”
“قائد الفريق، أعتقد أنك تفهم هذا دون أن أشرحه، أليس كذلك؟ لقد دافعتُ عن نفسي، والأدهى أن ابنهم سرق ممتلكات أولادي وضربني.
يمكنني رفع دعوى ضدهم في مركز الشرطة.”
ابتسمت لين تشوشيا ونظرت بثقة إلى القائد، وكأنها متمكنة من كل خطوة، مستخدمة إصابتها لتبرير تصرفها وانتزاع حقها.
تغيرت ملامح وجه القائد قليلاً بعد سماعها:
“تشوشيا، أمور القرية تُحل داخل القرية، لا حاجة لإزعاج مركز الشرطة.”
“قائد الفريق، أنا لا أريد الإزعاج، فقط أريد تفسيرًا. انظر إلى أطفالي، كيف ضُربوا. الآن، غوغو يسرق الحلوى من فم أولادي،
وإن لم يحصل عليها يضربهم. في هذه القرية، هناك الكثير من الأطفال، ألن يأكلوا الحلوى أو البيض من حين لآخر؟”
أدخلت لين تشوشيا الأطفال الآخرين في الموضوع، وعندما قالت ذلك، تحول نظر الجميع إلى غوغو الذي كان يبكي وهو ما زال ينتحب.
في الواقع، لم تكن عائلة جودان غنية، لكنهم كانوا يعطون أطفالهم بيضة أحيانًا أو حبة حلوى في الأعياد…
“عائلة لي تجاوزت الحدود. جاءت تشوشيا تطلب تفسيرًا، فإذا بهم يضربونها مباشرة.”
في الواقع،
وقتها كان الناس بعيدين ولم يسمعوا سوى صراخ أم جودان وهي تبدأ بالضرب.
ثم جاء رد لين تشوشيا الساحق، التي قاومت وحدها ثلاثتهم. والآن، بدت ضعيفة تشكو وتلوم،
ملامحها الرقيقة تحمل حزنًا، وعيونها تتلألأ بالعبرة. الناس، رغم ذاكرتهم الطويلة، إلا أنهم يُستمالون بسهولة. وهكذا، نسي الجميع ما فعلته تشوشيا قبل قليل.
“أجل، عائلة جودان بالغت فعلًا.”
بالطبع، لم يُخدع الجميع، فبعضهم لا يزال يرى أن أخذ الدجاجة كان مبالغة.
“أولادنا تعِبوا، وسُرقت منهم الحلوى الوحيدة التي لديهم، وما زلتم تريدون إذلالهم. جينغمينغ… لماذا لا يعود؟!”
عادت لين تشوشيا إلى مشهد البكاء المؤثر، وبدت كمسكينة تتعرض للظلم.
“جودان، أخرج الحلوى!” قال القائد بعبوس.
أدرك غوغو أنه ارتكب خطأ فادحًا. لم يجرؤ على مخالفة أوامر القائد، فأسرع إلى الداخل، وتردد ثلاث ثوانٍ، ثم عاد وهو يحمل الحلوى المسروقة.
كانت الحلوى كبيرة مثل قبضة اليد، لكن مغبرة بعدما أخفاها في الفراش، ما زاد من تأكيد قيمتها في أعين الناس.
“قال جينغمينغ إنها لأطفالنا الثلاثة، هو يعرف كم يحب الأطفال هذه الحلوى… يا لي من أم عاجزة، وجينغمينغ كذلك، لا يستطيع حتى حماية أطفاله…”
قالت لين تشوشيا وهي تبكي مجددًا.
لم يستطع جودان إلا إعادة الحلوى إلى الطفل الثالث. فقد عرف أنه ارتكب جرمًا فادحًا، ولم يعد يريدها.
“قائد الفريق، هل رأيت؟ هذه الحلوى وحدها تعادل كيلو سكر، وهي من مدينة ساحلية!”
كلما كانت المدينة أبعد وأكثر ازدهارًا،
زادت قيمة الشيء. لم تكن من العاصمة، لكن من مدينة بحرية، وهذا وحده كان كافيًا.
نظر الناس مجددًا إلى الحلوى الضخمة، فحتى في مركز التوريد القريب لم تُر مثلها.
“لكنّك ضربتنا!”
قال أحد أفراد عائلة لي بغضب.
“يا دَاي لِي، نحن تشاجرنا، وهذا دفاع مشروع، لا أطالب بشيء. لكنّ ابنكم سرق الحلوى، يجب أن يعوضنا!
بما أن الحلوى تلوّثت ولن نأكلها، فنحن لا نريدها.”
قالت لين تشوشيا ببساطة، ثم أمسكت رجل الدجاجة ورفعتها.
“ضرب غوغو ابني حتى كاد يُغمى عليه، دَاي لِي، هذه الدجاجة هي تعويضكم لنا!”
عائلة جودان كانت غاضبة حدّ الجنون. من كان يتصور أن قطعة سكر قد تكلّفهم دجاجة كاملة!
“صحيح، قائد الفريق، صديق جينغمينغ العسكري جاء اليوم لزيارتنا، قال إنه جاء لرؤية الأولاد…”
قالت ذلك وكأنها تهمس، لكنها في الواقع كانت تحذر القائد: “جينغمينغ قد يعود قريبًا.”
“أجل، تعتنين بالأطفال جيدًا.”
كان القائد يعلم أن جينغمينغ أصبح الآن نائب قائد كتيبة، وهو منصب رفيع. عندها عبس ونظر إلى عائلة لي بغضب:
“أنتم حقًا تماديتم! كيف يمكن لكم أن تستقووا على امرأة وأولادها بينما زوجها غائب
يجب أن تعوضوا، وعليكم تربية أولادكم جيدًا، لا تتركوا أولادكم يضربون الآخرين!”
بعد أن أنهى القائد كلامه، خيم الصمت على عائلة لي، ولم يجرؤ أحد على الرد.
في تلك الليلة، سمع الجيران صوت بكاء وضرب في بيت لي.
…
أما لين تشوشيا، فعادت إلى المنزل ومعها ثلاثة أولادها ودجاجة كبيرة، وقد شكرت القائد على عدله.
لم يكن الأولاد يصدقون أن أمهم يمكن أن تكون بهذه القوة، وقد أحضرت فعلاً دجاجة! لم يكونوا يربّون دجاجًا في الأصل!
كانت عينا الابن الأكبر تتلألآن بالإعجاب، وارتفعت مشاعر الحب لأمه لدرجة الانفجار.
الابن الثاني ابتسم بخجل، وأمسك بطرف ثوبها: “ماما رائعة…”
أما الابن الثالث، فما زال يشعر بالحزن على الحلوى…
“هيا، تعالوا، اغْلوا الماء! الليلة سنطبخ شوربة دجاج لذيذة جدًا!”
نادَت لين تشوشيا على أولادها للمساعدة، وسرعان ما نسي الابن الثالث أمر الحلوى، فقد كانت رائحة الحساء لا تُقاوَم.
أوه… كانت ألذ من حساء عظام الخنزير، والأهم من ذلك، أن بها لحم دجاج!
مشهد لين تشوشيا وهي مهيبة وقوية بقي في أذهان أهل القرية الذين كانوا يتفرجون، حتى بعدما غادرت، وبدأوا يتفرقون استعدادًا لتحضير عشاءهم.
لكن، لم تتوقف الأحاديث عن لين تشوشيا:
“ما كنت أتخيل أن زوجة جينغمينغ بهذه القوة والحدة!”
“كنت أظنها ضعيفة وهشة، ربما كانت تتحمل من زوجة عمها غو لأنها تعتبر من كبار العائلة، ولم يكن من اللائق ضرب الكبار…”
حتى عائلة شيه جاءت، وكانت زوجة العم (غو) تأمل أن تضرب عائلة لي لين تشوشيا ضربا مبرحا، لتُنفّس عن غضبها، لكن النتيجة كانت…
زوجة العم اختبأت وسط الناس، وبلعت ريقها بخوف، وحمدت الله أن لين تشوشيا لم تضربها كما فعلت مع عائلة لي، وإلا…
لمست جبهتها لا إراديًا، حيث ما زال هناك جرح قد تقشّر، وقالت في نفسها:
“لم يكن حلمًا آنذاك، لين تشوشيا حقًا بهذه القسوة!”
“كفى الآن، عودوا إلى منازلكم، كلوا وناموا مبكرًا! غدًا علينا العمل، وبعد أيام يبدأ الحصاد،
ويجب أن يحضر الجميع، خصوصًا أنتم!”
صرخ القائد بصرامة، ليوقف الأحاديث.
ثم نظر إلى مجموعة من المتكاسلين في القرية، مشيرًا بوضوح إلى أنهم سيكونون ضمن من سيُستدعى للحصاد.
أولئك الكسالى ندموا على مجيئهم لمشاهدة المشهد، لأنه لولا مجيئهم لما استغلهم القائد ليزجّ بهم في العمل.
كانوا يأملون التملّص والتظاهر بالجهل خلال موسم الحصاد.
أما الآن…
هاها… لم يكن أمامهم إلا الانصياع تحت نظرات القائد الحادة، وهم يرتجفون، ويؤكدون قائلين:
“أكيد، أكيد، سنعمل بجد!”
بعدما انتهت من تحضير حساء الدجاج، سكبت لين تشوشيا وعاءً كبيرًا وأخذته إلى “العجوزة”
التي تساعدها في خياطة الملابس، خاصةً أنها لا تجيد التطريز والخياطة بنفسها،
وتحتاج لمن يُخيط لها ملابسها الداخلية.
كانت قد اشترت خصيصًا قماشًا بلون فاتح. وعندما خرجت وهي تحمل الوعاء الكبير المليء بلحم الدجاج والحساء، نظر إليها أولادها الثلاثة بتلهف.
“يجب أن نتعلّم الامتنان. هل تذكرون الجدة التي تخيط لنا الملابس؟”
اغتنمت لين تشوشيا الفرصة لتعليمهم قيمة الشكر.
وما إن ذكرت الجدة التي تخيط لهم، حتى تذكّروا القماش الذي لم يُخاط بعد، ثلاث قطع،
بالإضافة إلى قطعة لين تشوشيا، فيصبح المجموع أربع. عندها أومأوا برؤوسهم مطيعين،
“نعم.”
خرجت وهي تحمل وعاء الحساء، لكن كي لا يُنظر إليها على أنها تتباهى، غطّته جيدًا ووضعته في سلة خضروات،
إلا أن الرائحة اللذيذة كانت لا تزال تتسرّب منها.
وعندما وصلت إلى بيت العجوزة، دخلت مبتسمة:
“يا خالة، لقد أتيت. اليوم في السوق اشتريت بعض القماش، وأحتاج مساعدتك.”
وأثناء حديثها، أخرجت الوعاء من السلة، وما إن فُتح الغطاء حتى انتشرت رائحة الحساء.
العجوز لم تكن بعد قد فقدت بصرها، ورأت بعينها مقدار ما في الوعاء من اللحم،
“لم يكن عليك إحضار هذا القدر،
وأنتم عندكم ثلاثة أطفال صغار، يحتاجون للتغذية لينموا بصحة.”
لكن حين قالت ذلك، تذكّرت طفلها الذي مات صغيرًا بسبب الجوع. لو كان هناك ما يُؤكل وقتها…
“خالة، لا تقلقي، لا يزال هناك الكثير في البيت. لكن القماش لم أحضره اليوم، سأحضره غدًا،
الحساء الآن ساخن، ولو تُرك حتى الغد، سيفسد ولن يكون لذيذًا.”
لم تترك لها مجالًا للرفض، وضعت الوعاء، ورفعت سلتها وغادرت،
“خالة، ارتاحي مبكرًا، أولادي الثلاثة الأشقياء بانتظاري.”
وعندما عادت إلى البيت، كان أولادها الثلاثة قد ركضوا نحوها على أقدامهم الصغيرة، خائفين من أن تكون قد تعرّضت للأذى بالخارج،
ربما من عائلة لي.
“في المرة القادمة، سأرافقك عند الخروج.”
قال الابن الأكب
ر، رغم أنه كان يعلم أنها قوية، لكنه شعر بالقلق، وعندما قال ذلك، نظر هنا وهناك، ولم يجرؤ على النظر إليها مباشرة.
أما الابن الثاني، فرأى أنها عادت كما خرجت، فتنفس الصعداء، وأمسك بطرف ثوبها ليعودوا إلى البيت.
والابن الثالث، رغم حزنه على الحلوى، لم يكن مستعدًا للتفريط بلحم الدجاج هذه المرة.
الأطفال يدركون بقلبهم من يحبهم ويهتم بهم.
“ماما، لنأكل… لنأكل الدجاج…”
قالها بصوت ناعم خجول، وكأنه يذكرها بألا تتوقف كثيرًا في التفكير.
“نعم نعم، لنتناول الطعام.”
قالت لين تشوشيا، وهي تتأمل أولادها الثلاثة. كان هناك فخذان فقط، فقطعت كل فخذ إلى قسمين،
ومعهما جناحا الدجاجة إلى قطع صغيرة أيضًا.
كانت ليلة دافئة ومليئة بالشبع. في نهايتها، طلبت منهم دفع العربة الصغيرة لجلب الماء، وإلا فلن يستطيعوا الاستحمام.
كان الأولاد الثلاثة يعرفون أن هذا الماء مخصص ليستحموا به، فساعدوا بجهد رغم التعب والحر، واغتسلوا في هدوء الليل، ثم غطّوا في النوم.
وفي اليوم التالي، بعد أن جزّوا العشب للخنازير، ذهبوا ليجمعوا بعض الحطب من الجبل، وإلا فلن يكون هناك وقود لغلي الماء.
وعلى الطريق، سألها أحدهم بفضول:
“تشوشيا، لماذا باب بيتكم دائمًا مغلق؟”
كان من يمر بجوار بيتهم أحيانًا يظن أنه لا أحد فيه.
“هذا بسبب عمتي من جهة أبي. من يدري، قد يهاجمونا يومًا ما فجأة! في بيتهم عدة رجال أقوياء!”
قالت ذلك وهي تهز رأسها، مظهرة الخوف الحقيقي.
“آه…”
قال الشخص الآخر، فالجميع في القرية لم يكن يحب تلك العمة، فقد كانت مشهورة بحبها للغش وأخذ ما لا يخصها،
وكأنها تعتبر بيتها الأهم في القرية، تعتمد على المكر والغضب لتحقيق مآربها.
في تلك اللحظة، كان شيه جينغ مينغ قد أنهى مهمة على الحدود، فرفع أولًا تقريرًا إلى قيادته طالبًا فيه تخصيص سكن عائلي.
فالأطفال، مهما كان الأمر، لا بد من إحضارهم إلى مبنى سكن العسكريين في الوحدة.
في السابق، لم تكن هناك سوى غرف فردية، ولم تكن هناك غرف شاغرة، ولم يكن من المعقول أن يُطرد رفاقه العسكريون مع عائلاتهم من أجل إخلاء مكان له.
لكن بعد ذلك، تم بناء مبنى سكني جديد، وهذه المرة، لا بد من التقدّم بطلب للحصول على شقة من نوع غرفتين وصالة، أو حتى ثلاث غرف وصالة، فالأطفال سيكبرون مع الوقت…
وبعد حصوله على الموافقة، بالإضافة إلى إجازة طويلة تزيد عن شهر، أخيرًا، اشترى ملابس جديدة،
وحلويات كالكعك، واللحم المقدد، والحلوى، وحليب (مكمل غذائي شهير آنذاك)، وحمل كل هذه الأغراض بأكياس كبيرة وصغيرة، واستقل القطار عائدًا إلى قريته.
كانت القرية قد دخلت مرحلة الانشغال بجني المحصول، وكان القطار الذي استقله شيه جينغمينغ قطارًا ليليًا،
فحين وصل إلى المحافظة، كان قد طلع النهار. ثم انتقل من المحافظة إلى السوق البلدي، ومن هناك إلى القرية،
وكان ذلك وقت الظهيرة.
الشمس كانت حارقة تُلهب الأرض، وكان القرويون المتعبون من العمل في الحقول لا يفكرون إلا في العودة سريعًا إلى بيوتهم،
لشرب ماء (ماء البئر البارد)، ونقع أقدامهم في الماء، ثم تناول وجبة طعام.
في هذا الوقت، كانت أكثر الأماكن المرغوبة هي تلك الواقعة تحت الأشجار الكبيرة بجانب الجدول،
حيث الظل والماء والناس مجتمعون. بعضهم حتى أحضر أطباقه ليأكل هناك. وفجأة، رأوا شخصًا قادمًا من بعيد، يحمل أكياسًا كثيرة.
نظر أحدهم بتمعّن، وقال:
“أوه، أليس ذاك من عائلة شيه… إنه شيه جينغمينغ، أليس كذلك؟”
“حقًا؟ لم أرَ خطأ؟ لماذا عاد في هذا الوقت؟”
“هيه، ربما حصل على إجازة، وجاء ليساعد في الحصاد، من يدري!”
“لقد مر وقت طويل منذ عاد جينغمينغ للبيت، ما الغريب في ذلك؟”
وبالصدفة، كان الابن الأكبر في تلك اللحظة عند منزل العم وانغ ليُصلح قبعة القش الخاصة به.
لم يكن لديه خيار، فالأغصان في الصباح كانت كثيرة وفوضوية، وقد مزّقت قبعته.
وما إن سمع الناس يناقشون الموضوع، حتى استدار ليرى من يقصدون.
فرأى رجلاً طويل القامة ومستقيم القوام، يحمل أكياسًا كبيرة وصغيرة.
اتسعت عينا الابن الأكبر فجأة، وفي اللحظة التالية، استدار وركض بأقصى ما لديه باتجاه البيت.
أما أولئك الذين كانوا جالسين على الأحجار بجانب الجدول، وما إن لمحوا ظل الابن الأكبر حتى همّوا بالقول شيئًا، لكنه انطلق كالبرق بعيدًا عنهم.
في تلك اللحظة، كان قلب الابن الأكبر ينبض بارتباك وقلق، وأرجله الصغيرة تتحرك بسرعة كبيرة،
حتى وصل إلى باب البيت، وهو يلهث من التعب، وصرخ في وجه لين تشوشيا:
“بابا راجع! هناك، عند الجدول، قريب من البيت!”
بسرعة! أخفوا كل الأشياء!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الابن الأكبر (بصوت داخلي):
لا يمكن أن نُري أبي الأشياء التي في البيت بهذه السهولة!
شيه جينغمينغ (في نفسه):
إذًا، أنا… “واحد من الآخرين”؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــ ملاحظات: ــــــــــــــــــــــــــ
1. (مبنى السكن العائلي للعسكريين):
في الصين، خاصة خلال فترات مثل السبعينيات والثمانينيات، كان للجنود العاملين في الجيش أماكن مخصصة لسكن عائلاتهم ضمن المجمعات العسكرية.وتعني حرفيًا “مبنى مخصص لأسر العسكريين”.
لم يكن يُسمح لعائلات الجنود بالإقامة في هذه المباني ما لم يحصلوا على موافقة رسمية من القيادة.
2. أهمية “العودة أثناء موسم الحصاد”:
موسم يعني وقت “الحصاد العاجل”، حين يكون الجميع مشغولًا بجني المحاصيل بسرعة قبل أن تتلف أو يتغير الطقس.
عودة شيه جينغمينغ أثناء هذا الوقت قد يُفسّر بأنه جاء ليساعد، وهو ما يعطيه صورة إيجابية في نظر أهل القرية.
3 – الخوف من رؤية الأب للأشياء:
في الثقافة الصينية التقليدية، كان للأب مكانة سلطوية ومحترمة داخل الأسرة.
الجملة التي قالها الابن الأكبر تعكس مزيجًا من الخوف والحذر، ربما لأنهم خالفوا تعليماته، أو لأنهم يشعرون أن ما يفعلونه (مثل أخذ الدجاجة في القسم السابق) قد لا يُرضيه.
4. – الجملة الساخرة من الأب:
حين قال شيه جينغمينغ في النهاية: “إذًا، أنا… واحد من الآخرين؟”، كان يعبر بسخرية عن شعوره بالإقصاء.
تُشير الجملة إلى أن عائلته تُخفي الأشياء عنه وكأنه غريب، ما يعكس خفة دم ضمن علاقة عائلية دافئة.
ــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التعليقات لهذا الفصل " 26"