اليوم الثاني في تربية الصغار
بعد الانتهاء من تناول العصيدة، شعرت بأن معدتها أصبحت دافئة ولم تعد تعاني من الألم الناتج عن الجوع الشديد.
ولكن… حين رفع ثلاثتهم رؤوسهم في نفس الوقت ونظروا إليها بنظرات مشتاقة،
بوجوههم الكبيرة الهزيلة كلاجئين أفارقة، لم يستطع ضميرها أن يرتاح.
“كأنني مدينة لكم حقًا…” لم تكن تعرف كم من الإثم ارتكبته المالكة السابقة لهذا الجسد، حتى أذاقت هؤلاء الثلاثة هذا البؤس.
مظهرهم الهزيل والباهت جعل “لين تشوشيا” تشعر بالذنب مجددا، رغم أنها لم تكن من قام بكل هذه الأفعال في الأساس.
بعد أن تمتمت بذلك، نهضت وأخذت أوعية العصيدة الخاصة بالأطفال لتملأها من جديد. كانوا يحبون عصيدة البطاطا الحلوة بنكهتها السكرية؛ كانت لذيذة ودافئة، تشعرهم بالراحة.
حين رأت “لين تشوشيا” تنهض لتسكب المزيد، نظر إليها الأطفال الثلاثة بأعينهم المستديرة المندهشة، وكأنهم لا يفهمون ما تنوي فعله.
لكنهم ما إن رأوا وعاء العصيدة يوضع أمامهم، حتى أمسكوا بالملاعق، ونفخوا في الطعام “هوهو” ثم واصلوا الأكل… العصيدة. أما بقية علامات الاستفهام، فلتُؤجل.
وفي تلك اللحظة، ملأ صوت ارتشاف العصيدة أجواء الطاولة الصغيرة، يتخلله أحيانا صوت النفخ.
بعد الانتهاء، نظرت إلى “الولد الثالث” الذي كان أصغرهم، وكان قد لطخ ملابسه كلها بالعصيدة،
وبما أن ملابسه كانت متسخة مسبقًا، فقد بدا قذرًا أكثر من أي وقت مضى. لم تستطع “لين تشوشيا” النظر إليه.
“يا ولد، الثالث…” لم تكن تعرف أسماءهم. المالكة السابقة للجسد لم تحتفظ بها، وكانت تناديهم بألفاظ مهينة مثل “أشبال برية” ونحو ذلك.
ما إن سمع الصغير صوتها الناعم، حتى انكمش بخوف، كأنه خشي أن تضربه.
وعندما رأى الأخ الأكبر هذا المشهد، أسرع بخطواته القصيرة، ووقف حاجزًا بين “لين تشوشيا” وبين أخيه الصغير،
وقطّب وجهه البريء الصغير وسأل بصوته الطفولي الجاد:
“ما الذي تنوين فعله به؟”
“يا كبير، أريد أن أغسلكم. أنظر لنفسك، أنت متسخ تمامًا، ويجب أن تبدل ملابسك.”
لم تستطع “لين تشوشيا” تحمُّل رؤية قذارتهم أكثر من ذلك، وكانت تتمنى لو بإمكانها سكب دلو ماء عليهم وغسلهم جيدًا.
عندما سمع الأخ الأكبر ذلك، اتسعت عيناه بالرعب، كأنها كانت تخطط لفعل شيء مرعب به.
نصف ثانية من التردد، ثم التفت لينظر إلى أخيه الصغير المتوتر، وبعدها نفخ صدره الصغير وقال بصوت طفولي يرتجف رغم محاولته للتظاهر بالقوة:.
“إ-إن كنتِ تريدين الغسل، فاغسليني أنا…”
رغم محاولته لإظهار القوة، لم يفُت على “لين تشوشيا” ملاحظة مدى خوفه من نبرة صوته المرتجفة.
بحثت في ذاكرة الجسد عن تفاصيل عن تعامل المالكة السابقة مع الأطفال، ففهمت فجأة لماذا كانوا خائفين منها لهذا الحد.
فهي كانت قد أجبرتهم على الغسل بالعنف، وحتى أغرقت رؤوسهم في الماء!
“آه، حسنًا، تعال أيها الكبير…”
تظاهرت بالسعال لتخفي اضطراب تعبيرها، ثم تحدثت بلطف. أخذت دلو ماء ساخن كانت قد أعدّته أثناء تحضير العصيدة،
وحملته إلى غرفة الاستحمام. كانت المناشف هناك بالية، وفوق الكرسي الصغير، أشارت إليه ليقترب.
كان الأخوان الآخران قد أمسكا بثيابه متوسلين:
“أخي، لا… لا تذهب…”
لكنه، بوجه متجهم، تحرك بخطى صغيرة نحو غرفة الاستحمام. بدا كأنه ذاهب إلى معركة. ما إن سمع صوتها تناديه، حتى عضّ على شفته، وقال في نفسه:
“إن لم أمت هذه المرة، سأغرقها في الدلو لاحقًا!”
تعرّى من ملابسه المتسخة وجلس على الكرسي الصغير. وما إن قالت “أغمض عينيك”، حتى أغلقهما فورًا.
لكنه ما إن أدرك أنه استجاب لأمرها، حتى غضب من نفسه.
لكنه قبل أن يفتح عينيه، صبّت عليه الماء الدافئ، وبدأت تفركه بلطف بالصابون.
كانت حركاتها هادئة وخفيفة، لدرجة أن الصغير بدأ ينسى أن هذه “المرأة الشريرة” كانت مصدر خوفه.
عندما أنهت غسله:
“أحسنت، بعد الاستحمام أصبحت عطِرًا! آه… نسيت إحضار ملابس! انتظر قليلاً، سأجلبها الآن!”
ركضت خارجًا لتُحضِر ملابسه، بينما ظل هو جالسًا بوجهه الجاد يتمتم:
“اسمي ليس كبير، أنا اسمي شيه هونغ تشو…”
لكن صوته الطفولي الغاضب بدا وكأنه يتدلل، فحتى الآن، لا يزال في سن يسهل إرضاؤه.
كان الأخوان الآخران قلقين للغاية، يخشيان أن تؤذي أخاهما،
بل حتى الأخ الثاني تجهز ليعضّها إن فعلت. لكن لم يصدر عن أخيهما أي صرخة.
بعد مرور بعض الوقت، خرجت “لين تشوشيا” مسرعة ثم دخلت الغرفة، فسارعا إليها بخطوات صغيرة.
كان الأخ الأكبر نظيفًا بالكامل، تفوح منه رائحة الصابون. وجهه ما زال شاحبًا وهزيلاً، لكن على الأقل نظيف.
بينما كان الطفلان يحدقان بدهشة، كانت “لين تشوشيا” تبحث بين الملابس القديمة حتى وجدت واحدة بحالة جيدة نسبياً، و ألبّسته إياها.
أدركت حينها أن لديها الكثير لتقوم به: الاعتناء بالأطفال، تنظيف المنزل، تأمين السلامة من حوله…
وكل هذا وهي في جسد ضعيف، تخشى أن تفقد وعيها من فرط التعب.
ولأنها أحضرت الملابس للأخ الكبير، قررت أنها يجب أن تغسل الأخوين الآخرين أيضًا. وضعت ملابسهما على الكرسي، ثم قالت محذرة:
“لا تقتربوا من النار! إن اشتعلت، لن يبقى لدينا منزل!”
كانت تود أن تضيف: “وإلا سأضربكم!”، لكنها خشيت أن يأخذوا كلامها على محمل الجد، فيتذكّروا ماضي المالكة السابقة ويسيئون الظن بها مجددًا.
ملأت الدلو بماء ساخن، لكن مياه البئر لم تكن كافية. فركت جبينها من التعب، ثم نظرت إلى أذرع الأطفال القصيرة. لم يستطيعوا مساعدتها.
“أيها الثاني، دورك الآن.”
نادته ومدت يدها، لكنه لم يتحرك. فاقتربت وأمسكت به برفق وسحبته معها، كانت حركتها ناعمة، تخشى أن تؤذيه.
وغسلته كما فعلت مع أخيه. أما “الثالث”، فكان خائفًا جدًا، حتى أنها اضطرت لملاطفته كثيرًا:
“أنت متّسخ، وأخوك نظيف. إن لم تستحم، فلن تنام الليلة!”
مزجت بين اللطف والتهديد، فبكى الطفل، لكن عندما شعر بأنه أصبح نظيفًا كأخيه، مسح دموعه ورضى.
سكبت الماء المستخدم في موقد الماء، ثم غسلت الأواني، واستخدمت الماء كله.
“سأذهب لجلب الماء. اجلسوا هنا ولا تتحركوا، مفهوم؟”
خشيت أن يعودوا للعب بالتراب ويتسخوا مجددًا.
قبل خروجها، أضافت:
“ولا تلمسوا النار!”
…
حملت الدلو، وسارت باتجاه البئر بحسب ذاكرة صاحبة الجسد. كان القرية مختلفة عن تصوراتها عن القرى الحديثة—بيوت طينية، طرق ترابية، وأشخاص يتنقلون.
حين رأوها، خاصة بجبهتها المصابة، بدا أنهم فهموا ما حدث.
“أوه، زوجة جينغمينغ، ذاهبة لجلب الماء؟”
سألتها امرأة باسمة دون الخوض في التفاصيل.
“نعم.” ردّت “لين تشوشيا” بابتسامة خفيفة، ترافقها شحوب وجهها والدم الجاف على جبينها.
قالت المرأة بأسف:
“هل جاءت زوجة عمك مجددًا لتثير المشاكل؟ يا إلهي، مسكينة.
عليك أن تكوني قوية لتحمي الأطفال الثلاثة. لا يجوز أن تفرغي غضبك عليهم.”
“أعلم، يا خالة.” أجابت بهدوء، لكنها لم تعطِ وعوداً. فالأفعال أثبت من الكلام.
عند البئر، كانت تحاول معرفة كيف تستخدم الدلو المعلّق، فرأت رجلاً يسحب دلوين من الماء بقوة ومهارة.
أسرعت لتتحدث إليه:
“أيها الأخ، هل يمكنك مساعدتي بدلو واحد من فضلك؟”
تفاجأ الرجل من طيبتها—زوجة جينغ مينغ أصبحت لطيفة فجأة؟ لكنه لم يرفض، وسكب لها دلوًا من الماء.
“أه… نصف دلو فقط، لا أستطيع حمله كله…”
قالت وهي محرجة. يبدو أنها أهدرت قوته.
فنظر إلى جسدها النحيف، وفهم، ثم سكب نصف الدلو لها.
عادت متمايلة نحو المنزل، فرأى الرجل ذلك وهزّ رأسه ولم يقل شيئاً.
عند عودتها، أدركت أن قوتها ليست ضعيفة جدًا، ربما تستطيع حمل الدلو مستقبلاً.
نظرت إلى الأطفال الثلاثة الجالسين على الكراسي الصغيرة، فتنهدت بارتياح، ثم مدت يدها الحمراء وقالت:
“أمكم تعبت كثيرًا اليوم، جلبت الماء، ويدي احمرّت…”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يـــــــــــــتبع
لا تنسوا الضغط على النجمة أسفل الفصل
وترك تعليق لطيف
..
انستا: mary.kimi01
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التعليقات لهذا الفصل " 2"