بعدَ انتهاءِ الصيدِ الفوضويِّ، أطاعَ يوريك كلامَ إديث بإخلاص.
ما إنْ وصلَ القصرَ، جهزَ حقيبتَهُ، وفي صباحِ اليومِ التالي، ركبَ عربةً متجهةً إلى محطةِ القطارِ.
كخطيبةٍ، ودعتهُ حتى النهايةِ، لكن مشاعرَها الداخليةَ كانتْ مختلفةً. على الأقلِّ مؤقتًا، لم تُرد رؤيةَ وجهِهِ الوسيمِ.
كانتْ بحاجةٍ إلى وقتٍ لترتيبِ مشاعرها. أليسَ هذا شائعًا في الرواياتِ؟ عندما يتشاجرُ العشاقُ، يفترقونَ قليلاً لتهدئةِ المشاعرِ. بالطبعِ، يوريك ليسَ حبيبها، لكن على أيِّ حالٍ.
ربما كانت هي أيضًا متحمسةً أكثرَ من اللازمِ. مع الوقتِ، ستهدأُ هذهِ المشاعرُ المضطربةُ.
لكن ما أغفلتهُ هو أنَّ الواقعَ ليسَ روايةً. وكانَ هناكَ أيضًا لعنةُ الجنية الخبيثةُ التي تظهرُ كلما نسياها.
…بدأَ الأمرُ بعدَ ساعاتٍ قليلةٍ من مغادرةِ يوريك.
حاولت تهدئةَ قلبِها بالتطريزِ، لكن لم تتقدم. كانت الإبرةُ تنحرفُ وتدورُ في الهواءِ عبثًا.
“آنستي…..”
لاحظَ أهلُ القصرِ أنَّها تشاجرت مع يوريك، فكانوا يراقبونَها بحذرٍ.
لم تكن جينا استثناءً. طرقتْ خادمتُها البابَ، لكنْ ظلتْ مترددةً دقائقَ دونَ كلامٍ.
أزعجَها ذلكَ، فأخيرًا رفعت إديث رأسَها ببطءٍ.
“جينا، أنا بخيرٍ، فتحدثي. ما الأمرُ؟”
“الأمرُ هو أن… الدوق قد حضرَ.”
كانتْ إديث تمسكُ قماشَ الكتانِ بقوةٍ، ففاجأها الكلامُ، ووخزتْ الإبرةُ يدَها. تشكلت قطرةُ دمٍ على سبابتِها اليسرى. هرعتْ جينا المذهولةُ إليها.
“يا إلهي! هل أنتِ بخير؟”
“…نعم.”
ضغطت إديث على يدِها النازفةِ بمنديلٍ، وأجابتْ بتنهدٍ قصيرٍ.
“ما السبب؟ هل نسيَ شيئًا؟”
“لا، لا…”
بينما كانت جينا تترددُ، رنَّ طرقٌ على البابِ. صوتٌ مهذبٌ لكن قويٌّ. الإيقاعُ المميزُ مألوفٌ، لكنْ لا يُفترضُ سماعُهُ هنا الآنَ.
“هل أنتَ يوريك؟”
“…نعم.”
جاءَ الجوابُ المكبوتُ من خلفِ البابِ. نهضتْ إديث، ورتبتْ شعرَها المبعثرَ بسرعةٍ.
لقد غادرَ بوضوحٍ. فلمَ عادَ؟ يوريك الذي تعرفُهُ ليسَ متقلبًا.
هل حدثَ أمرٌ طارئٌ؟ أم نسيَ شيئًا مهمًّا؟
دونَ ترددٍ، أمسكتْ مقبضَ البابِ وفتحتْهُ. وما رأتهُ-
“……!”
خلفَ البابِ، كانَ يوريك يتنهدُ بعمقٍ، وفي حضنِهِ باقةٌ من زهورِ إبرةِ الراعي البريةِ. بشكلِها العشوائيِّ، لم تكنْ من متجرٍ، بل ربما قطفها من حقلٍ قريبٍ.
زهرة إبرة الراعي :
“ما، ما هذا…؟”
تمتمتْ إديث مذهولةً، عاجزةً عن إغلاقِ فمِها. نظرتْ إليهِ طالبةً تفسيرًا، لكنْهُ أغمضَ عينيهِ بقوةٍ وظلَّ صامتًا. أخيرًا، تحدثَ بعدَ وقتٍ.
“هذا ما حدث.”
كلمةٌ واحدةٌ كانتْ كافيةً بينَهما. آه، لعنةُ الجنية!
كيفَ تظهرُ هذهِ اللعنةُ الخبيثةُ في مثلِ هذهِ اللحظاتِ بلا توقيتٍ؟ وبشكلٍ غبيٍّ.
أرادت قولَ آلافِ الأشياءِ، لكنْ إديث كبتتْ كلَّ الكلامِ. كانتْ تعلمُ أنَّهُ لم يأتِ باختيارِهِ.
“حسنًا، أفهمُ الوضعَ. سأقبلُ الزهورَ بشكرٍ.”
صراحةً، لم تكن ممتنةً. لكنْ مع وجودِ جينا، لم تستطعْ توبيخَهُ.
كما توقعت، تنفست جينا الصعداءَ ظنًّا أنَّهما تصالحا.
“إذنْ، سأذهبُ الآنَ.”
استدارَ يوريك بخطواتٍ واسعةٍ. راقبت إديث ظهرَهُ العريضَ بصمتٍ، ومررتْ لسانَها على شفتيها الجافتينِ.
وأدركت غريزيًّا.
هذهِ مجردُ بدايةٍ. كانَ ذلكَ إحساسًا محفورًا في العظامِ، يعرفُهُ من عانى من لعنةِ الجنية.
***
بعدَ ذلكَ، ظهرَ يوريك فجأةً أمامَها. أينما ذهبتْ، ومهما فعلتْ-
بدقةٍ متناهيةٍ. بالطبعِ، كانَ ذلكَ متوقعًا. لعنةُ الجنية مزودةٌ بوظيفةِ تتبعٍ.
“إديث.”
“آه! لقد أفزعتني!”
…لكنْ هذا مبالغٌ فيهِ.
“هذا جنونٌ حقًّا.”
“هذا كلامي أنا!”
في البدايةِ، حاولَ يوريك مغادرةَ إقليمِ هاميلتون مراتٍ. لكن، بشكلٍ غريبٍ، لم يصل إلى المحطةِ. كانَ يُعادُ إلى إديث دائمًا.
كانتْ اللعنةُ هادئةً مؤخرًا، لكنْها عادتْ بقوةٍ كما في البدايةِ.
هل بسببِ شجارِهما؟ أم لأنَّ إديث استاءتْ من يوريك؟ ربما لأنَّهُ لم يكن لطيفًا كما ينبغي.
لم تعرف السببَ، لكن الوضعُ كانَ يتكررُ يوميًّا. وأصبحَ يوريك أكثرَ اتساخًا.
بالطبعِ، كانَ يقضي ساعاتٍ في الطرقاتِ.
رغمَ استيائِها، رؤيتُهُ هكذا جعلتْ قلبَها يتحركُ بالشفقةِ.
“…تعالَ هنا.”
“هااه، أعتذر.”
أخيرًا، كلما ظهرَ يوريك في القصرِ- أو بالأحرى، كلما أُعيدَ بسببِ اللعنةِ- أطعمتْهُ طعامًا لذيذًا وأراحتْهُ في غرفةٍ دافئةٍ.
اقترضت ملابسَ من خزانةِ إيفريت. كانت قصيرةً على يوريك الأطولِ، لكن أفضلَ من الملابسِ المتسخةِ.
في هذهِ المرحلةِ، أصبحَ كضيفٍ في قصرِ هاميلتون.
في البدايةِ، أخذَ أهلُ القصرِ شجارَهما بجديةٍ، لكنْ الآنَ بدأوا يرونَهُ عاديًّا، كما لو كانَ شجارَ عشاقٍ.
راقبَهما دانيال بوجهٍ مترددٍ، لكنْ، للأسفِ، لم يكن لديها وقتٌ للاهتمامِ بهِ.
“لمَ تنظرُين هكذا؟”
“لا شيءَ. كُلْ بهدوءٍ.”
استعادَ يوريك مظهرَهُ الأنيقَ، يغمسُ الخبزَ في الحساءِ برشاقةٍ. أجابتْ إديث بقلقٍ.
…هل هذا صحيحٌ؟ ألم أتشاجرْ مع يوريك؟ في الرواياتِ التي قرأتْها، لم تظهرْ مثلُ هذهِ التطوراتِ السخيفةِ.
“يجبُ أنْ أذهبَ الآنَ.”
مسحَ يوريك فمَهُ بالمنديلِ بعدَ الطعامِ. كانتْ هذهِ محاولتُهُ الخامسةَ عشرةَ للهروبِ.
في البدايةِ، لم يهتم، لكنْ مع الوقتِ، تصلبَ وجهُهُ. ولمَ لا؟ في منتصفِ أكتوبرِ، تبدأُ جلسةُ البرلمانِ.
سمعَ أنَّ هناكَ قانونًا مهمًّا يجبُ تمريرُهُ.
كانَ الآنَ أواخرَ سبتمبرَ. لم يكنْ وقتًا لإضاعةِ الوقتِ.
“نعم، اذهب بسرعةٍ.”
أومأتْ إديث.
***
كانت ليلةُ مطرٍ خريفيٍّ. غادرَ يوريكُ القصرَ صباحًا ولم يظهرْ بعدها.
لا تعرفُ كيفَ، لكنْ يبدو أنَّهُ عادَ إلى العاصمةِ بنجاحٍ هذهِ المرةَ.
تنفستْ إديث الصعداءَ بهدوءٍ. الآنَ، يمكنُها أخيرًا النظرُ إلى قلبِها بهدوءٍ. كانت الأيامُ مضطربةً.
جلست عندَ نافذةِ الطابقِ الأولِ، تحدقُ إلى الخارجِ.
في مثلِ هذهِ الأيامِ الممطرةِ، كانت تتذكرُ أسطورةً محليةً.
الرجلُ الأسودُ.
شبحٌ يتجولُ ليلاً بحثًا عن حبيبتِهِ. في ليالي المطرِ الخريفيِّ، يظهرُ دائمًا.
في تلكَ اللحظةِ.
في الغسقِ خارجَ النافذةِ، لمحتْ شيئًا. قشعريرةٌ سرتْ في ظهرِها. الظلُّ الخارجيُّ شبيهٌ بذلكَ الشبحِ الأسطوريِّ.
ثمَّ-
عبرَ شقِّ النافذةِ المفتوحةِ، تحدثَ ‘الرجلُ الأسودُ’ بصوتٍ منخفضٍ هادئٍ.
“إديث.”
“آه!”
صرختْ، ورفعت وسادةً غريزيًّا. فتحتْ النافذةَ وهزتْها بقوةٍ.
لكن أُمسكتْ بسهولةٍ بيدٍ مألوفةٍ. تراجعتْ، ورأتْ يوريك مبللاً بالمطرِ.
“إنه أنا. اهدئي.”
“…يوريك؟!”
اتسعتْ عيناها. خفقَ قلبُها بجنونٍ، وسالَ العرقُ الباردُ على ظهرِها.
“يا إلهي!”
أمسكتْ صدرَها المرتجفَ وصرختْ.
“ظننتُكَ الرجلَ الأسود!”
“الرجلُ الأسود؟”
“أسطورةٌ محليةٌ. نوعٌ من الأرواحِ الأرضيةِ.”
نظرت إلى مظهرِهِ، وتمتمتْ داخليًّا. في الحقيقةِ، بعدمِ قدرتهِ على مغادرةِ هاميلتون، كانَ كروحٍ أرضيةٍ.
رغبتُها في اختفائِهِ، والواقعُ الذي لا يزولُ.
التناقضُ بينَهما لم يُحلَّ، بل اندمجَ بهدوءٍ في حياتِها.
“اذهب الآنَ من فضلكَ.”
“تبًا، أريدُ ذلكَ.”
“إن لم تستطعْ، اربط نفسَكَ واذهب! هذا ليسَ لطيفًا على الإطلاقِ.”
سخرَ يوريك من كلامِها القاسي. تنهدتْ إديث، وقادته إلى غرفةِ الضيوفِ بعادةٍ.
“…اليومَ، استرحْ قليلاً. أنتَ مبللٌ بالمطرِ.”
وفي اليومِ التالي.
لم يعد يوريك إلى قصرِ هاميلتون أخيرًا.
— ترجمة إسراء
التعليقات لهذا الفصل " 93"