“أنتَ أيضًا لديكَ شيءٌ لتقولَهُ؟”
تتبعت نظرةُ إديث المندهشةُ وجهَهُ بحذرٍ. ترددتْ شفتاها للحظةٍ. راقبَها يوريك بهدوءٍ، مشيرًا بذقنِهِ لتُسرعَ بالحديثِ.
“تحدثي أولاً.”
“هل هذا مناسبٌ؟”
“نعم، أنا أيضًا فضوليٌّ لمعرفةِ ما تريدينَ قولَهُ. في الحقيقةِ، أظنُّ أنني أتوقعُ بعضَهُ.”
ردَّ يوريك بنبرتِهِ الجافةِ المعتادةِ. تنفست إديث بهدوءٍ، ونظمت كلماتِها داخليًّا.
كيفَ تُوصلُ مقصدَها لهذا الرجلِ اللامبالي الباردِ؟
“…ما أريدُ قولَهُ هو ألا تكونَ قاسيًا جدًّا مع داني.”
البشرُ هكذا. حتى لو كانَ شخصًا رائعًا، لا يمكنُ أنْ ينالَ إعجابَ الجميعِ. دانيال ليسَ استثناءً.
لكنْ، مهما كانَ، فقد تجاوزَ يوريك الحدودَ هذهِ المرةَ. لا تعرفُ ما الذي أزعجَهُ، لكنْ…
دانيال كانَ هادئًا، ثمَّ تعرضَ للومِ فجأةً. كانَ مجردَ حضورٍ لحفلِ عيدِ ميلادِ صديقٍ.
لاحقًا، بدا هو أيضًا مترددًا، لكنَّهُ لم يكنْ وقحًا من البدايةِ. بل يوريك هو من بدأ الحدةَ.
“لا أطلبُ منكما أنْ تكونا مقربينِ. لقد تخليتُ عن ذلكَ. فقطْ… أرجوكَ، لا تتشاجرا.”
أومأ يوريك برأسِهِ بسهولةٍ.
“حسنًا.:
“…حقًّا؟”
دهشت إديث من قبولهِ السريعِ، ونظرت إلى وجهِهِ بحيرةٍ. كانت تتوقعُ اعتراضًا من شخصيتِهِ.
لكنْ، كانَ ذلكَ وهمًا مبكرًا.
“لكنْ إديث-“
أخفضَ يوريك نظرَهُ لحظةً، ثمَّ نظرَ إليها وتحدثَ ببطءٍ.
“ابتعدي عن ذلكَ الـ [صديقِ الطفولةِ] المزعجِ. إذا فعلتِ، سأفعلُ كما تريدينَ.”
“ماذا؟ ابتعدُ عنهُ…؟”
دهشتْ إديث من الشرطِ غيرِ المتوقعِ وسألت.
كلُّ ما طلبتهُ هو أنْ يكونَ أقلَّ وقاحةً مع دانيال. لكن أنْ يطالبَها بالابتعادِ عنهُ-
هذا لا معنى لهُ.
“قد قبلتُ طلبَكِ، فمن الأفضلِ أنْ تستجيبي لطلبي أيضًا.”
أضافَ يوريك بوجهٍ خالٍ من التعبيرِ. أغلقت إديث فمَها للحظةٍ، غيرَ قادرةٍ على الكلامِ.
هل يطلبُ قطعَ العلاقةِ؟ طمأنت نفسَها أنَّهُ مستحيلٌ، لكنْ مشاعرَها لم تهدأ.
كانَ يوريك يحذرُ من دانيال بجديةٍ.
لو أمكنَ، كانت تريدُ تلبيةَ طلبهِ. فهذهِ أولُ مرةٍ يطلبُ منها شيئًا.
لكنْ هذا- حتى لو كانَ خطيبَها، فهو تدخلٌ يتجاوزُ الحدودَ.
“قلتَ سابقًا إنَّكَ لن تتدخلَ في علاقاتي الاجتماعيةِ.”
احتجت بحذرٍ بعدَ أن جمعت كلماتِها.
“صحيحٌ. لذلكَ لم أقل شيئًا عندما كنتِ تتسكعينَ مع مارغريت إيلزبري.”
تنهدَ يوريك بخفةٍ، ممسكًا ذراعيهِ، وخفضَ صوتَهُ.
كانتْ عيناهُ الزرقاوانِ أغمقَ من المعتادِ، تحملانِ سخريةً غامضةً. شعرتْ بعاطفةٍ هادئةٍ وثقيلةٍ كالبحرِ العميقِ.
“لا أريدُ أنْ أكونَ رجلاً تافهًا يتذمرُ من أصدقاءِ خطيبتهِ. لكن-“
تحركَ خطُّ فكِّهِ المشدودُ ببطءٍ. اهتزتْ عظمةُ الحلقِ المرتفعةُ قليلاً كأنَّها مكبوتةٌ.
“هذهِ حالةٌ مختلفةٌ عن تلكَ الفتاة.”
“ما الفرقُ؟”
عندما سألتْ إيديسُ بعيونٍ ضيقةٍ، نفضَ يوريكُ شعرَهُ الأماميَّ بعنفٍ، وتحدثَ كأنَّهُ يكرهُ الكلامَ.
“…لأنَّ دانيال تشيسترفيلد رجل.”
فرفرة-
صوتُ أجنحةِ طيورٍ طارت من مكانٍ ما هزَّ الغابةَ الهادئةَ.
دهشتْ إديث من الجوابِ غيرِ المتوقعِ، وتوقفَ لسانُها. شعرتْ بالإحباطِ وكأنْ قلبَها سقطَ.
:ماذا يعني هذا…؟”
بالطبعِ، دانيال رجل. بيولوجيًّا، ليسَ خطأً.
لكن داني هو… مجردُ داني. صديقٌ قديمٌ نشأتْ معهُ، يضحكانِ ويتحدثانِ. أما كونه رجلًا أو امرأة كانَ دائمًا مسألةً ثانويةً بينَهما.
لذا، لم تُفكرْ بهِ بهذهِ الطريقةِ يومًا. كلامُ يوريك الآنَ-
كانَ سخيفًا، مذهلاً، ومؤلمًا بشكلٍ غريبٍ.
“…أنتَ لن تسيء الفهم، أليس كذلك؟”
“أيُّ سوءِ فهمٍ؟”
“أن يكونَ بيني وبينَ داني أيُّ مشاعرَ عاطفيةٍ.”
نظرَ يوريك بعيدًا قليلاً إلى الفراغِ. صمتٌ قصيرٌ، وتعبيرٌ متصلبٌ. كانَ ذلكَ كافيًا. حتى دونَ كلامٍ، كانَ تأكيدًا واضحًا.
“ما الذي تفكرُ فيهِ! نحنُ مجردُ أصدقاء!”
ارتجفت زاويةُ فمِ إديث وهي تبتسمُ بحرجٍ. يا للسخافةِ! كانَ تصرفُهُ الغريبُ مؤخرًا بسببِ سوء الفهمِ السخيفِ.
لم تتخيلْ أنْ يوريك يفكرُ في هذهِ الاحتماليةِ الغبيةِ. لو عرفَ دانيال؟ مجردُ التفكيرِ محرجٌ ووقحٌ. كانَ كمن يُتهمُ ظلمًا.
بل، الأهمُ من ذلكَ-
لم تشعرْ يومًا بأيِّ ‘مشاعرَ’ من هذا النوعِ تجاهَ دانيال.
الإثارةُ العاطفيةُ، أو لحظاتُ خفقانِ القلبِ، كانت مع… ليسَ هو، بل-
“إديث، لا يوجدُ شيءٌ اسمهُ صداقةٌ بينَ رجلٍ وامرأةٍ.”
قطعَ صوتُ يوريك الحازمُ أفكارَها. عبسَ بتعبٍ، وتنهدَ بخفةٍ، وهو يعقدُ ذراعيهِ، ينقرُ ذراعَهُ بسبابتِهِ بنغمةٍ منتظمةٍ.
كأنَّهُ إشارةٌ لتهدئةِ نفسه. فركَ عنقَهُ مرةً، وتحدثَ بوجهٍ خالٍ من العاطفةِ.
“بالطبعِ أثقُ بكِ، لكن هذهِ ليستْ النقطةُ المهمةُ هنا.”
“إذن؟”
لم يُجب يوريك على سؤالِها الحذرِ. طالَ الصمتُ، وبينما كانتْ تراقبُهُ، هزتْ رأسَها ببطءٍ.
“أفهمُ ما تقصدُ. لكنْ لا داعي للقلقِ. أنا وداني لسنا كذلكَ.”
كلماتُهُ وتصرفاتُهُ الطفوليةُ غيرُ المعتادةِ. إذا كانَ سوءُ الفهمِ هذا هو السببُ- فقد حُلت كلُّ الألغازِ.
“كيفَ أقطعُ صداقتي بسببِ سوءِ فهمٍ؟”
“من قالَ قطعَ العلاقةِ؟ فقط ابتعدي قليلاً.”
:…سيذهبُ إلى الجامعةِ قريبًا. لن يكونَ هناكَ وقتٌ للقاءِ، وسيبتعدُ الجميعُ طبيعيًّا بعدَ الزواجِ.”
حاولتْ إديث الحفاظَ على نبرةٍ هادئةٍ. لكنْ وجهَ يوريك ظلَّ جامدًا.
“حاولتُ تجاهلَ الأمرِ، لكن لم يكنْ سهلاً كما ظننتُ.”
“فقطْ تجاهلْهُ. سأضمنُ ألا تلتقي بداني مرةً أخرى.”
“ذلكَ الداني المزعجُ-“
ضغطَ يوريك على صدغِهِ، وتمتمَ كأنَّهُ يكبحُ صبرَهُ.
“أضيفي شيئًا آخرَ. توقفي عن ذلكَ اللقبِ المزعجِ فورًا.”
ارتجفتْ إديث من نبرتِهِ الحادةِ، ونظرتْ إليهِ. أمسكت طرفَ شالِها بقوةٍ، ثمَّ أفلتتهُ بلا قوةٍ. عضتْ شفتَها بخفةٍ، وترددتْ، ثمَّ تحدثتْ بحذرٍ.
“يوريكُ، هل…”
“ماذا.”
“هل أنتَ غيور؟”
كانَ سؤالاً عفويًّا بسببِ ما سمعتهُ من إيفريت، لكنْها اعتبرتْهُ سخيفًا.
يوريك يغارُ؟
كانت تعلمُ أنَّهُ لا يحبُّها.
يومَ الخطوبةِ عندَ البحيرةِ، قالَ بوضوحٍ إنَّهُ لا يستطيعُ أن يعدها بالحبِّ، ولا يعرفُ الحبَّ أصلاً.
إذنْ، هذهِ ليستْ غيرةً عاطفيةً. لكن، قد يشعرُ البعضُ بعدمِ الراحةِ إذا اقتربَ صديقٌ من آخرَ. ربما شعرَ يوريك بشيءٍ مشابهٍ.
لكنْ تخمينَها الحذرَ أثارَ ردًّا أقوى مما توقعتْ.
“ها! غيرةٌ؟”
أطلقَ يوريك ضحكةً ساخرةً.
“ما هذا الكلامُ السخيفُ فجأةً؟”
“لا، أقصدُ… أنتَ تتفاعلُ بحساسيةٍ مفرطةٍ.”
أضافتْ إديث بحذرٍ. لكن يوريك تابعَ بحزمٍ دونَ ترددٍ.
:مستحيل. تصرفاتُكِ تُهينُ سمعتي.”
“…سمعتُكَ؟:
حدقتْ إليهِ بحيرةٍ، وسألت بهدوءٍ. كانَ صوتُها هادئًا، لكنْ نسمةً باردةً مرتْ بقلبِها.
“امرأةٌ ستصبحُ دوقةً تتآلفُ بحميميةٍ مع رجلٍ غريبٍ، وهذا ليسَ جيدًا لسمعةِ العائلةِ.”
في تلكَ اللحظةِ، شعرتْ كأنَّ شيئًا ينزلقُ بعيدًا. كانَ الأمرُ يتعلقُ فقطْ بالسمعةِ.
بالطبعِ، كانَ يوريك دائمًا يتحدثُ عن سمعةِ العائلةِ وهيبتِها. ومعَ ذلكَ، كانَ الرجلَ الوحيدَ الذي تثقُ بهِ وتعتمدُ عليهِ. لكنْ.
بل، ربما لهذا السببِ. اليومَ-
كانَ كلامُهُ يطعنُ قلبَها بعمقٍ وألمٍ غيرِ معتادٍ.
— ترجمة إسراء
التعليقات لهذا الفصل " 91"