كانتْ محطةُ إيلممير هادئةً. كانتْ عربةٌ من عائلةِ البارونِ هاميلتون بانتظارِهِ أمامَ المحطةِ.
مشهدٌ ريفيٌّ هادئٌ. ليسَ سيئًا لقضاءِ إجازةٍ. تمتمَ يوريك وهو ينظرُ إلى المناظرِ الطبيعيةِ من النافذةِ.
لكنْ، حالةُ الطريقِ لم تكنْ مرضيةً. كانَ الطريقُ مليئًا بالحفرِ، والعجلاتُ تنزلقُ على الطينِ.
بالنسبةِ لهُ، المعتادُ على طرقِ دوقيةٍ ناعمةٍ ومُعبدةٍ، كانَ هذا الطريقُ الخشنُ مزعجًا.
فجأةً-
توقفتِ العربةُ بعنفٍ معَ صوتٍ عالٍ.
“عذرًا، سيدي الدوقُ.”
“ما الأمرُ؟”
ألقى نظرةً خارجَ النافذةِ، فرأى السائقَ راكعًا يفحصُ عجلةَ العربةِ بحيرةٍ.
“العجلةُ خرجتْ من مكانِها.”
تنفَّسَ يوريك بهدوءٍ وهو يستندُ بمرفقِهِ إلى النافذةِ، متكئًا على المقعدِ.
“هل هناكَ عجلةٌ احتياطيةٌ؟”
“نعم، جاهزةٌ. سنستبدلُها فورًا.”
أومأ يوريك بدلاً من الردِّ. سيصلُ متأخرًا عما توقَّعَ. أغلقَ ساعةَ جيبِهِ ووضعَها في صدرِهِ.
بسببِ الحادثِ غيرِ المتوقعِ، وصلَ يوريك إلى قصرِ هاميلتون بعدَ الظهرِ قليلاً.
كانَ البيتُ الريفيُّ للبارونِ يقعُ في مشهدٍ هادئٍ وريفيٍّ يتناسبُ مع حجمِ الأراضي.
“إديث.”
وقعتْ عينا يوريك على خطيبتِهِ وهي تتحدثُ مع خادمةٍ. عندما رأتهُ إديث، اتسعتْ عيناها، ثمَّ اقتربتْ بخفةٍ كالعصفورِ.
“لقد وصلتَ؟ لم يحدثْ شيءٌ في الطريقِ، أليسَ كذلكَ؟”
“نعم، كانَ كلُّ شيءٍ على ما يرام.”
على الرغمِ من تأخيرِ الطريقِ، لم يذكرْ يوريك ذلكَ.
“ألم أقلْ إنَّكَ ستأتي؟”
“لم أترددْ أبدًا.”
تبعَ يوريك إديث التي تسيرُ بخطواتٍ سريعةٍ.
بفستانِها الأخضرِ الزيتونيِّ الخفيفِ وشعرِها الأشقرِ المنسدلِ، بدى ظهرُها مفعمًا بالحيويةِ.
“هل عيدُ الميلادِ مبهجٌ إلى هذا الحدِّ؟ تبدينَ أكثرَ سعادةً اليومَ. ضحكتِكِ لا تتوقفُ.”
“حقًّا؟”
وضعتْ إديث يدَها على خدِّها، وومضتْ عيناها وهي تسألُ.
“ربما لأنني رأيتُ صديقَ طفولتي بعدَ زمنٍ.”
“…صديق طفولة؟”
تباطأتْ خطواتُ يوريك. كانتْ هناكَ كلمةٌ مزعجةٌ في حديثِها. تلكَ الكلمةُ التي كثيرًا ما سمعَها مؤخرًا.
“عادَ من رحلةٍ عبرَ القارةِ. حضرَ الحفلَ اليومَ. سأعرِّفُكَ عليهِ.”
…لحظةً. رحلةٌ عبرَ القارةِ؟ أينَ سمعتُ هذا من قبلُ؟ هل يمكنُ؟ ضاقتْ عينا يوريك تدريجيًّا.
“لم أكنْ أعلمُ أنَّ لديكِ صديقَ طفولةٍ.”
“لأنَّكَ لم تسأل؟”
لم تكن مخطئةً. لكن، بشكلٍ غريبٍ، خدشتْ كلماتُها قلبَهُ. شعرَ كأنَّ شوكةً صغيرةً اخترقتْ ظفرَهُ، وصعدَ إحساسٌ غريبٌ في ظهرِهِ.
“ها هو هناكَ.”
عندَ طاولةِ شايٍ في نهايةِ الحديقةِ، توقَّفَ يوريك فجأةً عندَ رؤيةِ شاب جالسٍ.
كما توقعتُ. ابنُ الكونت تشيسترفيلد من القطارِ. ديفيد؟ أم جبريل؟
لم يتذكرِ الاسمَ، لكن المهمُّ أنَّ هذا الرجل هو «صديقُ طفولةِ» إديث.
ابتسمَ الشاب بحرارةٍ وهو يخاطبُ خطيبتَه.
“عدتِ؟ كيفَ يتركُ بطلُ الحفلِ مكانَهُ؟”
…ما هذا؟
ارتجفَ حاجبا يوريك قليلاً.
كنتَ محقًّا، فرانك.
صديقُ الطفولةِ وجودٌ مزعجٌ جدًّا. أخذَ يوريك رشفةً من النبيذِ وهو يفكرُ. ظهرت سخريةٌ مفاجئةٌ على شفتيه وهو يتذكر.
— يوريكُ، هذا دانيال تشيسترفيلد.
— سعيدٌ بلقائكَ مجددًا، سيدي. هذا شرفٌ لي.
كانتْ تحيةً مثاليةً. حدَّقَ يوريك بهِ. مدَّ يدَهُ بناءً على إشارةِ إديث، لكنَّ المصافحةَ لم تكنْ مريحةً.
“دانيال، كيفَ كانتِ الرحلة؟”
عادَ انتباهُ يوريك إلى الواقعِ عندَ سؤالِ البارونِ هاميلتون. دانيال تشيسترفيلد، وليسَ ديفيد. نظرَ يوريك إلى الشابِّ بعنايةٍ.
لم يهتمْ به في القطارِ، لكن الآنَ، بدا لطيفًا وهادئًا.
ومعَ ذلكَ، كانَ وجهُهُ لامعًا بشكلٍ غريبٍ.
“تعلمتُ الكثيرَ.”
“هاها، اجتهد في الجامعةِ. كانَ جدُّكَ يتوقعُ الكثيرَ منكَ.”
“شكرًا على التشجيعِ.”
ابتسمَ دانيال بلطفٍ وأخفضَ رأسَهُ. صديقُ طفولةٍ، يبدو أنَّهما كانا مقربينَ منذُ الصغرِ.
سمعَ أنَّ العائلتينِ قريبتانِ جدًّا. لذا، بدا البارونُ وزوجته مرتاحين معهُ.
لو لم يكونا مقربينَ، لما دُعيَ إلى حفلٍ عائليٍّ خاصٍّ.
“هل سافرتَ عبرَ القارةِ، سيدي؟”
تحدَّثَ دانيال بلطفٍ إلى يوريك وهو يواصل طعامهُ. بدا سؤالاً عاديًّا، لكنْ توجهتْ أنظارُ الجميعِ إليهِ.
وضعَ يوريك الشوكةَ ومسحَ فمَهُ بمنديلٍ ببطءٍ.
“لا. ورثتُ لقبَ الدوقِ فورَ بلوغي. لم يكنْ لديَّ وقتٌ.”
في فترةِ الجمعِ بينَ الجامعةِ وأعمالِ الدوقيةِ، كانَ كلُّ يومٍ كمعركةٍ. لم يتخلَّ عن الدراسةِ بسببِ كبريائِهِ.
حتى لو لم يكنْ دوقًا، لما فكرَ في رحلةٍ عبرَ القارةِ. هذهِ الأسفارُ لا تتناسبُ مع طباعِهِ.
“شخصٌ رائعٌ. تخرجَ بتفوقٍ.”
رفعَ إيفريت إبهامَهُ وغمز ليوريك. ضحكَ يوريك بخفةٍ وأدارَ رأسَهُ، بينما صفقتْ إديث بيدَيها.
“آه، بالمناسبةِ، داني التحقَ بكينجسهالريج. أنتما زميلانِ!”
شدَّت أصابعُ يوريك على كأسِ النبيذِ. داني؟ أليسَ هذا لقبًا حميمًا جدًّا بينَ رجلٍ وامرأةٍ بالغينَ؟
“يوريك؟”
عندما لم يجب، أمالتْ إديث رأسَها بتعجُّبٍ، وعيناها الخضراوانِ تنظرانِ إليهِ ببراءةٍ.
“حقًّا؟ أرجو مساعدتَكَ، سونبي.”
…سونبي؟ مضحك. هذا لقاءٌ واحدٌ فقط.
كانتْ جامعتُهُ تقليديةً، لكنْ القبول للنبلاءِ لم يكن صعبًا. التحدي كانَ التخرج.
لكنْ يوريك لم يكن ليُظهرَ سخريةً هنا. كلمةٌ خاطئةٌ ستُحرجُ الجوَّ.
“أيُّ كليةٍ؟:
“جريبفورد.”
مزعج، نفسُ الكليةِ. عادةً، كانتْ الكليةُ أهمَّ من الجامعةِ. لكن، لم يكن ليتوددَ لهُ كزميلٍ.
“التخصص؟”
سألَ يوريك ببطءٍ. لا يمكنُ أنْ يكونَ التخصصُ نفسهُ.
“الدراساتُ الكلاسيكيةُ.”
“إديث، سألتُ صديقَكِ.”
كأنه قطٌّ صغير مدللٌ. عندَ توبيخِهِ، رفعَ دانيال زاويةَ فمِهِ.
“عذرًا، الدراساتُ الكلاسيكيةُ، سيدي.”
“آه.”
الدراساتُ الكلاسيكيةُ؟ بعيدةٌ عن العمليةِ. لغاتٌ ميتةٌ وقصصٌ بطوليةٌ قديمةٌ. كما قالَ فرانك، من الأفضلِ قراءةُ قانونٍ.
“داني جيدٌ في اللغاتِ القديمةِ. عندما كتبَ رسائلَ سابقًا”
“لحظة.”
قاطعها يوريك ببطء. رفعَ شال إديث المنزلقَ ووضعَهُ بعنايةٍ.
كان دانيال يهمُّ بالنهوضِ، لكن توقفتْ يدُهُ في الهواءِ بشكلٍ محرجٍ.
“شكرًا.”
ابتسمتْ إديث ببراءةٍ. أومأ يوريكُ باختصار، لكن نظرَهُ بقى على صديقِ الطفولةِ المزعجِ.
لمعت عيون دانيال، ثم جلسَ وهو يبتسمُ بحرجٍ.
“هاها، كنتَ أسرعَ، سونبي.”
رفعَ شوكتَهُ كأنَّ شيئًا لم يكن، لكن عينيهِ غاصتا قليلاً.
لم يفوت يوريك هذا الاهتزازَ اللحظيَّ.
— ترجمة إسراء
التعليقات لهذا الفصل " 86"