عندَ كلامِ ميلر، عبسَ يوريكُ بصمتٍ. هل كنتُ بطيئًا؟ استعادَ جدولَ يومِهِ ببطءٍ، لكنْ لم يكنْ هناكَ تأخيرٌ يُذكرُ.
لكنْ-
كانتْ خطيبتُهُ، التي ذهبتْ إلى الفيلا مع مارغريت إيلزبري، تشغلُ بالَهُ قليلاً. فضلاً عن ذلكَ، ابنةُ ماركيز كامبل، ابنةُ خالتها البعيدةِ، كانتْ شخصيةً غيرَ موثوقةٍ بعضَ الشيءِ.
لم يكنْ يوريكُ عادةً هكذا، لكنْ مشكلةَ إديث كانتْ في غموضِ معاييرِها في العلاقاتِ الاجتماعيةِ. ربما كانتْ تلكَ التنهيدةُ التي أفلتتْ منهُ للتوّ قد خرجتْ دونَ قصدٍ أثناءَ التفكيرِ في ذلكَ.
“ربما بسببِ الحرارةِ.”
“نعم، بالطبعِ.”
“ألا يمكنُكَ إظهارُ بعضِ التهذيبِ لصاحبِ عملِكَ؟”
رفعَ يوريكُ حاجبَهُ، فتمتمَ ميلر بنزقٍ، متجهِّمًا:
“فقطْ خذْ إجازةً، سَمُوَّ الدوقِ.”
“اصمتْ.”
“واذهبْ لاصطحابِ السيدةِ هاميلتون. أليسَ استقبالُ الخطيبةِ أمرًا لطيفًا؟”
تبًا.
“ميلر، ألم أقلْ لكَ ألَّا تستخدمَ تلكَ الكلمةَ أمامي؟”
تنهَّدَ يوريكُ بعمقٍ وهو يمسكُ جبهتَهُ. كانَ النمطُ نفسهُ دائمًا. مزعجٌ حقًّا.
لو لم يكنْ ميلر سكرتيرَهُ، لكانَ معدلُ «الأفعالِ الغريبةِ» التي يقومُ بها قد انخفضَ بشكلٍ ملحوظٍ.
بهذا الشكلِ، تخيَّلَ نفسَهُ متجهًا إلى الفيلا قبلَ بزوغِ الفجرِ.
“سأطلبُ تجهيزَ العربةِ صباحَ غدٍ.”
“ها، حسنًا.”
لا شكَّ أنَّ إديث ستقابلُهُ بتعابيرَ متردِّدةٍ. لكنْ، ما العملُ؟ كانَ هذا أمرًا لا مفرَّ منهُ.
على ضفةِ بحيرةٍ تتدفقُ فيها أشعةُ الشمسِ شفافةً، فُرشتْ ملائة نزهةٍ تحتَ ظلِّ شجرةِ صفصافٍ. جلستِ السيداتُ فوقَها، مستمتعاتٍ بنسيمِ الصيفِ.
“هذا المكانُ رائعٌ حقًّا.”
رفعتْ كاساندرا طرفَ فستانِها بخفةٍ واتكأتْ على الملائة كأنَّها تستلقي. أومأتْ مارغريت برأسِها وهي تضعُ حبةَ عنبٍ أخضرَ في فمِها.
“صحيحٌ. أريدُ امتلاكَ فيلا صغيرةٍ كهذهِ.”
“أليسَ لديكِ فيلا في الجنوبِ؟”
“تلكَ ليست فيلا، بل مكانُ حبسٍ.”
ضحكتْ كاساندرا بخفةٍ على تمتمةِ مارغريت، التي لم يكنْ واضحًا إنْ كانتْ تمزحُ أم جادةً.
بعيدًا عن ثرثرتِهما، فتحتْ إديث دفترَ رسمِها بهدوءٍ، وجلستْ في مواجهةِ الشمسِ، ترسمُ خطوطًا بحذرٍ بقلمِها الرصاصِ.
“إيدي، كيفَ تسيرُ الرسوماتُ؟”
“حسنًا…”
لم تجدْ بعدُ إلهامًا واضحًا. ما الشخصيةُ التي تناسبُ أنْ تكونَ صديقةَ «جينجي»؟ كانتْ لديها بعضُ الأفكارِ.
مثلاً، بذورُ الهندباءِ التي لا تستطيعُ الطيرانَ لثقلِها، أو قنفذٌ بلا أشواكٍ-
لكنْ، من تجربتِها، كانتْ النتائجُ أفضلَ عندما ترسمُ دونَ جهدٍ كبيرٍ. لذا، حرَّكتْ قلمَها بعفويةٍ.
“ذوقُكِ غريبٌ حقًّا.”
علَّقتْ مارغريت، التي ألقتْ نظرةً على دفترِ الرسمِ، مائلةً رأسَها، لكنْ إديث لم تبالِ.
“إديث دائمًا ترسمُ جيدًا. إنَّها ترسمُ هكذا عمدًا.”
ضحكتْ كاساندرا وهي تدافعُ عن صديقتِها، مما سمحَ لإديث بالتركيزِ على رسمِها مجددًا.
“بالمناسبةِ، الجوُّ حارٌ جدًّا.”
نظرتْ مارغريت إلى السماءِ وقالتْ. كانتْ أشعةُ الشمسِ تزدادُ قوةً، والهواءُ حولَ البحيرةِ يحملُ رطوبةً خانقةً.
“هل نذهبُ للسباحةِ؟”
“فكرةٌ رائعةٌ!”
“…الآنَ؟”
رفعتْ إديث رأسَها من دفترِها. سباحةٌ فجأةً؟ لكنْ الاثنتينِ المندفعتينِ نهضتا دونَ تردُّدٍ، كأنَّ الأمرَ كانَ مخططًا منذُ زمنٍ.
كانتْ ضفةُ البحيرةِ هادئةً، ولم يكنْ هناكَ سواهنَّ. بفساتينَ خفيفةٍ، لم يكنْ هناكَ حاجةٌ لتحضيراتٍ كبيرةٍ.
“إنَّهُ يدغدغُ!”
ضحكتْ مارغريت عندما لامسَ الماءُ أصابعَ قدميها، ثمَّ قفزتْ إلى البحيرةِ دونَ تردُّدٍ.
“ما رأيكِ؟”
«فاترة قليلاً، لكنها أبردُ بكثيرٍ من الخارجِ!”
عندَ ذلكَ، دخلتْ كاساندرا الماءَ بخطوةٍ واثقةٍ. انعكستْ الشمسُ على التموجات، وضحكاتُهما انتشرتْ في سماءِ الصيفِ الصافيةِ.
“إيدي، ادخلي معنا!”
“نعم، هيا!”
لوَّحتا بيديهما وهما تصرخانِ نحوَ إديث، بل و قاما برش الماءَ عليها. هزَّتْ إديث رأسَها ببطءٍ وهي تنظرُ إليهما.
“أنا بخيرٍ، استمتعا أنتما.”
كانتِ البحيرةُ الضحلةُ مثاليةً للسباحةِ. في طفولتِها، كانتْ إديث تقفزُ إلى الماءِ ضاحكةً، لكنْ بعدَ المراهقةِ، قلَّتْ هذهِ الذكرياتِ. كانَ ذلكَ «غيرَ لائقٍ لسيدةٍ نبيلةٍ».
حتى في هذهِ الضفةِ الهادئةِ، لم تتلاشَ الآدابُ والوقارُ المتأصِّلانِ فيها. ربما بسببِ عيشِها تحتَ أعينِ المجتمعِ الدائمةِ.
“لا تكوني كذلكَ، العبي معنا!”
ابتسمتْ إديث بحرجٍ عندَ كلامِ مارغريت.
“ماذا لو رآنا أحدٌ؟”
أجابتْ كاساندرا، مرتفعةً كتفَيْها:
“من هناكَ غيرُنا هنا؟”
كانَ ذلكَ صحيحًا. السماءُ عاليةٌ وزرقاءُ، وأغصانُ الصفصافِ تتمايلُ مع النَّسيمِ. كانتْ ضفةُ البحيرةِ هادئةً، ولم يكنْ هناكَ سواهنَّ.
“……”
تردَّدتْ إديث لفترةٍ، ثمَّ نظرتْ إلى صديقتَيْها وهما تضحكانِ وتلعبانِ في الماءِ.
تألقُ الأمواجِ تحتَ الشمسِ، وأطرافُ الفساتينِ البيضاءِ تتطايرُ في الماءِ، كانَ المشهدُ كلوحةٍ من قصةٍ خياليةٍ.
“ألن تدخلي؟”
هزَّ صوتُ كاساندرا إديث بلطفٍ مرةً أخرى.
…حسنًا، ما الذي قد يحدثُ؟ إنَّها إجازةٌ صيفيةٌ نادرةٌ. لا داعي لأنْ أكونَ شديدةَ التحفُّظِ بعدَ كلِّ هذا.
رفعتْ طرفَ فستانِها بحذرٍ، أخذتْ نفسًا خفيفًا، ثمَّ خطتْ خطوةً، ثمَّ أخرى. عندما بللَ الماءُ فستانَها وأحاطَت الأمواجُ ساقَيْها-
ابتسمتْ أخيرًا.
“إنَّهُ باردٌ.”
كانتْ في تلكَ الابتسامةِ نسمةٌ من الحريةِ التي نسيتْها لفترةٍ. نظرتِ الثلاثُ إلى بعضِهنَّ، وضحكنَ في وقتٍ واحدٍ دونَ مقدماتٍ.
أصبحتْ إديث كسمكةٍ تلتقي الماءَ، تسبحُ في البحيرةِ، تطفو على السطحِ، وتلمسُ زهورَ الكوبيةِ الورديةِ المتفتحةِ على الضفةِ. كانتْ أسعدَ لحظاتِها منذُ وصولِها إلى الفيلا.
“حسنًا، لنخرجْ الآنَ.”
بعدَ ضحكٍ ولعبٍ في الماءِ، شعرتِ الثلاثُ بالجوعِ.
كانتْ أطرافُ فساتينِهنَّ مبللةً وفوضويةً، وشعرُهنَّ المبللُ ملتصقٌ بجباههنَّ.
“صحيحٌ، قد نصابُ بنزلةِ بردٍ هكذا.”
تمتمتْ مارغريت وخرجتْ من الماءِ أولاً. جفَّفنَ الماءَ بمناشفَ من سلةِ النزهةِ.
على الرغمِ من التصاقِ الفساتينِ المبللةِ بأرجلِهنَّ، شعرنَ بإحساسٍ منعشٍ مع نسيمِ الهواءِ الباردِ.
“آه، أنا جائعةٌ.”
تمتمتْ كاساندرا وهي تنفضُ شعرَها. على طريقِ العودةِ إلى الفيلا، كانَ صوتُ خطواتِهنَّ هو الصوتُ الوحيدُ في الغابةِ الهادئةِ.
حملنَ أحذيتَهنَّ وسِرنَ حافياتٍ على العشبِ.
“هل نسبحُ غدًا أيضًا؟”
“رائعٌ! آه، أريدُ العيشَ هنا إلى الأبدِ.”
“حانَ وقتُ العودةِ قريبًا.”
على الرغمِ من قولِها ذلكَ، لم تستطعْ إديث إخفاءَ رغبتِها في البقاءِ أكثرَ في هذهِ الإجازةِ الحالمةِ.
ربما أبقى قليلاً؟ لا يوجدُ شيءٌ عاجلٌ على أيِّ حالٍ.
بينما كانتْ غارقةً في أفكارِها، ظهرتِ الفيلا الصغيرةُ في الأفقِ. مشهدٌ مألوفٌ وودودٌ.
لكنْ، وسطَ هذا الهدوءِ، كانَ هناكَ وجودٌ غريبٌ.
“ماذا؟”
أمامَ الفيلا، وقفتْ عربةٌ تحملُ شعارًا مألوفًا: نسرٌ فضيٌّ على درعٍ أزرقَ.
كانَ شعارًا ليسَ فقطْ مألوفًا، بل مألوفًا جدًّا. توقَّفتْ إديث.
“…ما هذا؟”
بعدَ أنْ طاردتْ صاحبَهُ لفترةٍ، عرفتْ مارغريت مالكَ العربةِ بنظرةٍ، فعبستْ قليلاً ورفعتْ كتفَيْها.
“يبدو أنَّ خطيبَكِ قد جاءَ.”
تجمَّدتْ إديث في مكانِها. هل أخبرتْ يوريك بموقعِ الفيلا بالضبطِ؟
لكنْ، عندما تفعَّلتْ اللعنةُ، كانَ قادرًا على تتبُّعِ موقعِها بشكلٍ طبيعيٍّ. ربما هذهِ إحدى تلكَ الحالاتِ.
لكنْ، لمَ في هذا التوقيتِ… عضَّتْ شفتَها بخفةٍ.
فستانٌ مبللٌ، شعرٌ فوضويٌّ، وقدمانِ حافيتانِ. مهما نظرتْ، لم تكنْ هيئتُها لائقةً.
في تلكَ اللحظةِ، فُتحَ بابُ الفيلا، وظهرَ ظلٌّ مألوفٌ. رجلٌ طويلٌ يرتدي بدلةً أنيقةً. التفتَ ببطءٍ ونظرَ إليها.
“إديث.”
كانَ يوريك.
— ترجمة إسراء
التعليقات لهذا الفصل " 79"