الفصل 6
وقف يوريك عند النافذة يرتشف الويسكي بنظراتٍ شاردة. مؤخرًا، شعر بضيقٍ جعله يشتهي الخمر، وهو الذي نادرًا ما يشرب.
لم تكن هذه اللعنة مجرد معاملة إديث هاميلتون بلطف عندما تكون أمامه. كانت لعنةً تُثير الفوضى حتى عندما تكون بعيدة عن عينيه.
ظنَّ أن تجنُّب لقائها سيكفي، لكن ما الفائدة من العودة إلى إقليم الدوق إذا كانت الأمور هكذا؟
“سيدي.”
من خلفه، أصدر الخادم أندرسون صوتًا خافتًا بينما كان يوريك يحدّق في أغصان شجرةٍ يابسة.
“لقد أنجزتُ ما أمرت به. هل هناك شيء آخر تريد مني أن أفعله؟”
انحنى أندرسون بأدبٍ لا تشوبه شائبة. كان الرجل العجوز دائمًا هادئ التعابير، مهذبًا… لكن، لمَ ترتجف زاوية فمه الآن؟
“ماذا أمرتُ؟”
سأل يوريك بحذر، ينتابه شعورٌ سيء. لم يسبق له أن نسي أمرًا أصدره، فما الخطب؟
“لقد أمرت بإرسال باقة زهور إلى منزل البارون هاميلتون. قلت إن إرسال دعوة فقط ليس تصرفًا لطيفًا…”
‘يالي من مجنون!’
كان يتذكر معظم تصرفاته المحرجة بوضوح، لكن… أحيانًا، كان يُظهر هذا “اللطف التلقائي” دون وعي.
‘لقد جننتُ تمامًا.’
كان متشككًا في البداية، لكنه الآن مقتنع. هذا عمل الجنيات. كيف يُفسَّر هذا الوضع الخارق للطبيعة إن لم يكن كذلك؟
“أرسلنا باقة من زهور الأنيمون الصفراء، كما أمرت، لتتناسب مع شعر الآنسة هاميلتون الذهبي.”
‘حتى لون شعرها أخذته في الاعتبار؟ يا له من تصرفٍ مُبالغ!’
كان لطيفًا إلى درجة الجنون. هزَّ يوريك رأسه وعبس.
“زهور في الشتاء؟ من أين حصلتَ عليها؟ ليس من السهل العثور عليها في العاصمة.”
ابتسم أندرسون بلطف، متجاهلاً سؤاله.
“هاها، لقد تعب ميلر كثيرًا. استورد الزهور الطازجة من الجنوب وأرسلها بالقطار السريع. يقول إنه استخدم التلغراف.”
“…هاه! ذلك الفتى المفرط في الجدية.”
لو كان بهذا الحماس في أمورٍ أخرى! لمَ يبذل كل هذا الجهد في تنفيذ أوامر سخيفة؟ أصبح فجأة سيدًا قاسيًا. تنهد يوريك ورفع رأسه فجأة.
“لحظة، أنيمون؟”
“نعم، هل هناك مشكلة؟”
“معنى زهرة الأنيمون هو الخيانة والحب البائس. أليس معناها سيئًا؟ قد تسيء الآنسة هاميلتون فهمها. أرسل زهورًا ذات معنى إيجابي.”
دهش أندرسون، ناسيًا آدابه، وفتح عينيه على وسعهما.
“يا إلهي!”
انحنى معتذرًا.
“يا لها من خطيئة! يبدو أن وقت تقاعدي قد حان.”
حدَّق في الفراغ بنظرةٍ حالمة وأكمل.
“بالمناسبة، سيصاب ميلر بخيبة أمل. يجب أن أطلب من المطبخ إعداد طبق يحبه اليوم.”
“…”
شعر يوريك بقشعريرة. عاش حياته دون اهتمام بمعاني الزهور. فلمَ يعرف معنى الأنيمون هكذا؟
“يبدو أن يوري الصغير جادٌ حقًا. أنا، أندرسون، أتطلع إلى يومٍ أخدم فيه دوقة المستقبل.”
كان متحمسًا لدرجة أنه استخدم لقب طفولته. مسح عينيه بقفازٍ أبيض.
“…أندرسون، أنا لست جادًا. لا علاقة لي بها. فكِّر، هل أنا من يرسل الزهور؟”
تحدث يوريك بجدية، آملاً أن يلاحظ الخادم، الذي عرفه منذ الطفولة، غرابة الوضع.
“هاها، سيدي ليس فتًا مراهقًا. عليكَ قبول مشاعركَ أولاً حتى يزدهر الحب. خذها كحكمة من رجلٍ عجوز.”
“هااه.”
لا فائدة من الحديث. ضحك يوريك بحسرة ولوَّح بيده.
“كفى، اذهب.”
“حسنًا، إذن.”
نظر يوريك بحزن إلى ظهر الخادم وهو يغادر بحماس.
“تبًّا!”
ضرب المكتب بقبضته. هكذا، سيظن الجميع أنه مغرمٌ بإديث هاميلتون.
لكن الاعتراف بلعنة جنية سيجلب العار، ولن يصدقه أحد على أي حال. جنيات؟ أليست من القصص الخيالية؟ سيرون أنه ينكر حبه كأحمق.
“إديث هاميلتون…”
لمَ اكتشفتِ تلك اللعنة؟ عضَّ على أسنانه ووضع كأس الويسكي على المكتب.
***
رجال ونساء يرقصون رقصة الفالس.
كلما دارت السيدات، تمايلت ذيول فساتينهن كأذناب السمك. كانوا يعانقون بعضهم ويتبادلون الضحكات الحلوة. مشهدٌ وديٌّ للغاية، لكن…
“ما هذا؟”
كانت إديث تجلس وحيدةً على كرسي قرب الحائط، متظاهرةً بالهدوء تحت أنظار الناس المتسللة. أبقت ظهرها مستقيمًا وذقنها مرتفعًا.
منذ ظهورها الأول، لم تكن بطاقة رقصها خالية قط. حتى لو كان المهتمون بها يطمعون بمهرها فقط، كانت دائمًا مليئة بأسماء الرجال الذين يطلبون رقصة.
لكن الشائعات عن مغازلة الدوق لها غيَّرت كل شيء. توقفت طلبات الرقص فجأة. هرب الرجال خوفًا من إغضاب الدوق.
غطت إديث وجهها بمروحتها، ملقيةً نظرةً حادة على أحد المتقدمين السابقين. عندما التقت عيناهما، تنحنح وأشاح بنظره.
“هاه…”
تنهدت. لو كان الدوق معجبًا بها حقًا، لكان الأمر مختلفًا. لكن الواقع عكس ذلك، ومع ذلك يظن الجميع غير ذلك، مما يجعلها مُصابة بالجنون.
لو كانوا بهذه الخفة، لِمَ تقدموا أصلًا؟ بل رؤيتهم يغازلون غيرها ربما كان للأفضل.
“آنسة هاميلتون.”
فجأة، اقترب رجلٌ بشجاعة.
“هل تسمحين لي برقصتكِ القادمة؟”
يا إلهي! أي مفاجأة سارة؟ استدارت متظاهرةً باللامبالاة.
“آه.”
كان ابن فيسكونت، شخصٌ تعرفه. رقصت معه عدة مرات من قبل.
“مشاعري ليست خفيفة.”
بينما انسحب المتقدمون الآخرون، بدا هذا الرجل مختلفًا، لم يتخلَّ عنها بعد. حدَّق بها بعيونٍ شغوفة.
“أنتِ الوحيدة بالنسبة لي. لن أستسلم مهما كانت التحديات.”
“…إلى هذا الحد؟”
تحت وهج عينيه، أنزلت إديث بصرها. لم تكن تعتقد أن مشاعره عميقة لهذا الحد. هذا بحد ذاته عبءٌ آخر.
“أنا معجب-“
“يا إلهي، هذا…”
“لا يُصدق، لقد أتى مرة أخرى!”
“حضوره للحفلات أصبح متكررًا مؤخرًا. هاها، الشائعات صحيحة إذن.”
غُطيت كلمات الرجل بضجيج الحاضرين فجأة.
شائعات؟ استدارت إديث تلقائيًا.
…أيعقل أن يكون الدوق مرة أخرى؟
بالفعل، اقترب رجلٌ طويل القامة بخطواتٍ واثقة. تحت ضوء الشمعدان، لمعت خصلاته الفضية كخيوط القمر.
“آه…”
“…هكذا إذن.”
نظر يوريك إليها بلا تعبير. لم يعد يقدم تفسيراتٍ مفصلة.
“هل ترقصين الرقصة القادمة معي؟”
مدَّ يده بأدبٍ تام، كأنه فارسٌ من لوحة. انحنى ببطء.
“امسكي يدي بسرعة. إلى متى سأظل واقفًا؟ يجب أن أرقص معكِ لأتمكن من الحركة.”
لكن الواقع كان مختلفًا. تحت أنظار الناس، تمنت إديث أن تختفي في جحرٍ صغير.
“…لقد سبقكَ شخصٌ آخر.”
بنظرةٍ منها، التفت يوريك إلى الرجل المتردد بجانبها، مفحصًا إياه بعيونٍ زرقاء باردة.
“ومن أنت؟”
“آه! لا تهتم بي.”
الشاب الذي طلب الرقصة لم يكن مفيدًا. مع ظهور الدوق، اكتفى بنظرةٍ شوقية إليها.
“إذا كنتِ سعيدة، سأستسلم.”
“لا-“
انسحب بهدوء! ألم يقل إنه لن يستسلم؟ يا له من رجلٍ خفيف القلب.
“هل كان حبيبكِ؟”
“…لا.”
لم ترغب بإخبار الدوق أنه كان أحد المتقدمين لها، شعرت بالحرج. حركت أصابعها بنزق وحاولت تغيير الموضوع.
“ما الذي جاء بكَ هذه المرة؟”
“كنتُ أراجع أوراقًا. لنرقص أولًا. أنظار الناس تزعجني.”
لم تجد إديث خيارًا سوى الإمساك بيده. أوقفها بقوة وساقها إلى حلبة الرقص.
“لنرقص ونغادر بسرعة. يجب أن أعود.”
همس يوريك وهو يمسك خصرها. سخرت إديث بخفة ووضعت يدها على كتفه العريض.
“عد وحدكَ. سأبقى هنا.”
“ألا تفهمين؟ أراهن أنني سأُصر على إيصالكِ وسأُثير ضجة. هل تريدين رؤية ذلك؟”
“…سأذهب معكَ.”
“قرارٌ صائب.”
“مزعج!” بينما كانت تشيح بشفتيها وتحدّق في صدره، هتف الناس بدهشة.
“يا إلهي! دوقٌ لطيفٌ هكذا!”
هذه المرة، لم تستطع إديث إلا أن تتبع عادة الدوق في القول.
“تبًّا.”
التعليقات لهذا الفصل " 6"