الفصل 4
“أَوَمَرَّةً أُخرى…؟”
انفرجت شفتا إديث تلقائيًا، فاغتنم هو الفرصة ليدسَّ قطعة بسكويت في فمها.
“أُفـ…”
“انظري، حتى الآن يتحرَّك جسدي من تلقاء نفسه.”
تحت قبضته المشدودة، التي تنبض عروقها بقوة، تفتَّت البسكويت إلى فتات.
“اشربي الشاي أيضًا.”
حتى في تلك اللحظة، لم ينسَ أن يُقرِّب كوب الشاي إلى شفتيها لئلا تختنق.
“هل تظنين يا آنسة أن هذا الموقف طبيعيٌّ؟”
“أُفـ… أُفـ…”
حدَّق يوريك في جبهتها البيضاء الناصعة بنظرة نارية.
“تبًّا.”
ما هذا الوضع الذي لا يُفهم؟ لحسن الحظ، كان الشاي قد برد، وإلا لاحترق سقف فمها بالكامل.
“كَحَ… كَحَ…”
سعلت إديث بخفة بعد أن أُجبرت على ارتشاف الشاي بنهم. في تلك اللحظة، انفتح باب غرفة الاستقبال بعنف، واندفعت البارونة هاميلتون إلى الداخل.
“إديث! ما الذي يحدث؟”
تزلزلت حدقتا البارونة بشدة وهي ترى المشهد داخل الغرفة.
“يا إلهي.”
غطَّت البارونة فمها بكلتا يديها. وبينما كان يوريك يمسح زاوية فم إديث بإبهامه، أغمض عينيه بقوة.
“عندما أنظر إليكِ، لا أستطيع التحكُّم بنفسي.”
“كَحَ….”
ربت يوريك على ظهر إديث المتعثر بالسعال بلطف.
“لا أشعر إلا برغبة عارمة في معاملتكِ بلطف أكثر من أي شخص آخر في هذا العالم.”
قال يوريك وكأنه يمضغ كلماته بنبرة مريرة.
“أعني أنني لا أستطيع السيطرة على جسدي على الإطلاق.”
“…يا إلهي.”
بدت كلماته، التي قد تبدو للغريب كاعترافٍ عاطفيٍّ ملتهب، فاحمرَّ وجه البارونة هاميلتون خجلًا.
***
عاد يوريك إلى قصر الدوق، وجذب ربطة عنقه بعنف. في اللحظة التي ألقى بنفسه على الأريكة، دوَّى صوت رعدٍ مدوٍّ من النافذة.
“يا لسوء الطقس.”
كانت السماء المظلمة الماطرة تعكس مزاجه تمامًا. قبض على الأريكة الجلدية بقوة لا إرادية.
نظرات البارونة هاميلتون الموحية لا تزال عالقة في ذهنه. بدت وكأنها تظنُّه شابًّا يغازل ابنتها.
— لم أكن أعلم أن سموكَ بهذا الحماس. لكن، بين رجل وامرأة لم يرتبطا بخطوبة بعد… ألا يبدو ذلك متسرعًا بعض الشيء؟
كيف له أن يُسيء فهمها إلى هذا الحد؟ شعر بصداعٍ ينبض في رأسه، لكنه لم يستطع تصحيح سوء الفهم.
— …أتركني.
— ……
كان جسده يحتضن كتفي إديث هاميلتون ويُطعمها الطعام.
“تبًّا، تبًّا!”
لم يكن يرغب أن يُصبح وغدًا يرتكب فعلًا وقحًا بحق سيدة، خاصة أمام والدتها. قد يتسامح مع سمعة اللامبالاة تجاه النساء، لكن…
منحرف؟
لم يكن ليتحمَّل أن يُلصق به لقبٌ مشين كهذا.
— …أعتذر يا آنسة هاميلتون. لقد تجاوزت حدودي.
في النهاية، اضطر ليقدِّم اعتذارًا وهو يعضُّ أسنانه. عندما رأى إديث تتجنب عينيه بحرج، شعر بغضب يتأجج داخله.
تذكُّر وجهها المشتت أثار ضيقًا في صدره، ففرك يوريك وجهه بيديه.
“هاه…”
كل ما يريده الآن هو التخلِّي عن كل شيء والعودة إلى إقليم الدوق. دفن نفسه في أريكة مكتبه، مغطيًا عينيه بذراعه.
طق طق، دوى طرقٌ مهذب على الباب، فأطلق يوريك تأوهًا.
“ادخل.”
“سموك.”
كان الداخل هو ميلر، سكرتيره. نظر ميلر إلى وجه يوريك وتحركت شفتاه بحذر.
“…هل أنت بخير؟”
“هل أبدو بخير؟”
“لا.”
على عكس وقفته المشدودة المعتادة، كان يوريك مستلقيًا بإهمال. ضيَّق ميلر عينيه وهو يتفحصه.
“هل وقعتَ في الحب حقًا؟”
“ما هذا الهراء؟”
“الآن، تنتشر الشائعات في أوساط المجتمع الراقي بالعاصمة، تقول إن سموكَ مغرمٌ بشدة بالآنسة هاميلتون.”
أطلق يوريك ضحكة ساخرة. يقولون إن الإنسان إذا صُدم بشدة، لا يملك إلا الضحك.
“يومٌ واحد فقط، وانتشرت مثل هذه الشائعات؟ يبدو أن الجميع عاطل عن العمل.”
لكن، بسبب تلك اللعنة البغيضة، نسيَ ما فعله في حفل رأس السنة. لقد رآه كل النبلاء بعيونهم.
“ليس لدي أي مشاعر تجاه تلك الفتاة. بل يجب أن أعود إلى إقليم الدوق فورًا. سأتلقى تقارير العمل هناك.”
ضغط على عينيه المرهقتين وقال. الشائعات ستهدأ إذا عاش بهدوء، لكن من يدري متى ستنتهي هذه اللعنة؟
بل هل من الممكن كسرها أصلًا؟ كيف يجد جنيةً تُعامل كأسطورة حتى في الأوساط الإمبراطورية؟
للآن، عليه أن يبتعد عن إديث هاميلتون قبل أن يرتكب حماقةً أخرى.
“لا توجد مواعيد يجب أن تحضرها بالضرورة، سموك…”
قال ميلر وهو يفحص دفتر ملاحظاته الدائم. أضاء وجه يوريك فجأة عند سماع هذا.
“هذا رائع.”
“ستُعرض أوبرا جديدة في المسرح الإمبراطوري قريبًا. إنها لكاتب مسرحي دعمته عائلتك سابقًا.”
“آه، ذلك.”
تذكَّر شيئًا كان قد نسيه.
“بما أنه أول عرض له، قد يكون من الجيد أن تحضر العرض كراعٍ.”
تناول يوريك الرسالة التي قدَّمها ميلر. كانت مغلفة بختم المسرح الإمبراطوري، تحتوي على رسالة شكر على الرعاية وتذكرتي دعوة.
“هل ستحضر؟”
“لا.”
لم يكن يهتم، فكل ما يريده هو العودة إلى إقليم الدوق.
“سموك؟ ماذا تفعل الآن، إن سمحت لي بالسؤال؟”
…كما توقَّع.
“أكتب دعوة للآنسة هاميلتون لمشاهدة الأوبرا معًا.”
“آه، حقًا…؟”
كيف ينكر وهو غارقٌ هكذا؟ استفاق يوريك فجأة من تعبير ميلر الواضح.
“ماذا…!”
ألقى يوريك بالقلم الذي في يده بعنف. حدَّق بعينين متسعتين في الورقة على مكتب الماهوغاني.
الماهوغاني : مصطلح يُستخدم بشكل عام للإشارة إلى عدة أنواع من الأخشاب المدارية الصلبة التي يغلب عليها اللون البني المائل إلى الحمرة
[إلى الآنسة هاميلتون العزيزة.]
“تبًّا، هل وصلتُ إلى هذا الحد؟”
عضَّ على أسنانه وهو يراقب قطرات المطر على النافذة. بعدما بلَّل شفتيه بلسانه للحظات، التفت أخيرًا إلى ميلر.
“ميلر، أطلب منك شيئًا… إذا أمرتكَ بإرسال شيء لإديث هاميلتون، لا تفعل مهما كان.”
“…ما نوع الأوامر بالضبط؟”
“لا أعرف. فقط تجاهل أي تصرف يبدو لطيفًا بعقلانية. دعوات عشاء، إرسال هدايا، أو مثل هذه الرسائل العابرة…”
بينما كان لسانه يتحدث، كانت يده تكتب الرسالة بجد. بعد ختمها بالشمع، ناولها لسكرتيره بسلاسة.
“…”
بدت الدهشة على ميلر وهو ينظر إلى هذا المشهد الغريب. رفع الرسالة وهو يحك رأسه.
“إذن، تقصد ألا أرسل هذه إلى الآنسة هاميلتون؟”
“بالضبط. لا ترسلها.”
“حسنًا، سأحرق الرسالة إذن.”
هزَّ ميلر رأسه وتوجه إلى المدفأة المشتعلة. تنفَّس يوريك الصعداء، لكن في تلك اللحظة…
“انتظر!”
تحرك لسانه فجأة. توقف ميلر عند صراخه الحازم.
“نعم؟”
سال العرق البارد على ظهر يوريك. كيف يحدث هذا؟ تجمد جسده بالكامل، كأنه ينتظر أمره بإرسال الرسالة.
“…أرسل الرسالة.”
لم يستطع يوريك، المقيد بكرسيه، إلا أن ينطق. ارتعش فكه من شدة الضغط.
“حسنًا.”
نظر إليه ميلر كأنه يرى شخصًا غريبًا، ثم اختفى بسرعة إلى الخارج.
“تبًّا لتلك الجنية…”
تمتم يوريك وحيدًا في الغرفة الفارغة.
***
“لقد فقد سموه عقله تمامًا.”
تذكَّر ميلر ما حدث وهو يسير في الرواق. لم يعرف كيف يواكب هذا الإيقاع.
إذا كنتَ معجبًا بها، قل ذلك فقط! لمَ كل هذه الجلبة؟ أهكذا يقع الرجال الوسيمون في الحب؟
“آه، سيد أندرسون.”
رأى ميلر خادم عائلة غلاسهارت في نهاية الرواق وغمز بعينه.
“أوه، أين سيدك؟”
“الشائعات صحيحة. هل تعرف ماذا أحمل في يدي؟”
لاحظ أندرسون الرسالة التي ترفرف بيد ميلر، فأضاءت عيناه.
“هل هذه…؟”
“نعم، هذا صحيح. رسالة للآنسة هاميلتون، يدعوها لمشاهدة الأوبرا معًا!”
“يا إلهي.”
برقت عينا الرجل العجوز بالدموع. أخرج منديلًا من جيبه ومسح الدموع التي انسابت على خده.
“لم يكن من ذلك النوع…”
“وإلا لمَ يفعل ذلك؟ لقد وقع في غرامها بشدة. لكنه لا يزال يخجل من الاعتراف بمشاعره.”
ابتسم أندرسون بحنان وهو يعدِّل نظارته.
“هاها، كان هكذا منذ صباه. يحب أو يكره، دائمًا متجهم. ستتعب قليلًا يا ميلر، فسيدكَ حساس جدًا.”
“أنا؟ لا بأس.”
كان واضحًا أن يوريك سيتصرف بنزق، لكن…
قرر ميلر تحمل هذا العناء بكل سرور. فهذه أول مرة يهتم فيها سيده بامرأة.
“عليَّ على الأقل أن أدعمه من الجانب.”
“نثق بك يا ميلر. إذا احتجت لمساعدة، قل ذلك متى شئت.”
“هاها.”
بالنسبة للمتفرج، لا شيء أكثر متعة من هذا.
التعليقات لهذا الفصل " 4"