الفصل السادس: أصبحتُ ممرضة عدوي (6)
خلال الأيام الثلاثة التي ظلّ فيها آشلي فاقدًا للوعي، كانت مشاعر متناقضة تضجّ في داخل أغات حتى كادت تفقد صوابها. الممرضة ناتالي التي أرادت إنقاذه بأي ثمن، وأغات التي سبقت ناتالي والتي كانت تشتعل رغبة في الانتقام، كانتا تتصارعان بعنف داخلها.
ثم بدأت الكفّة تميل داخل قلب أغات. كما قال هو من قبل، موت مريض في حالة حرجة داخل مستشفى ميداني أمر شائع. لن يشك أحد بها. وبهذا الشكل يمكنها أن تنتقم دون أن تُزَجّ في السجن.
تردّدها لم يدم طويلًا.
ربما كان في اليوم الثاني من تلك الأيام الثلاثة.
بينما كانت تعبث بزجاجة صغيرة في جيبها الأيمن، ارتجف جسد القائد كما لو كان في نوبة. كانت حُمّى شديدة سببها.
عندما قاست أغات حرارة آشلي، لم تصدق عينيها. نادر جدًا أن يستعيد وعيه مريضٌ فقده بسبب الحُمّى. ومعظم المصابين بالرصاص يتأرجحون على حافة الموت وينتهون بالهلاك. ومع ذلك، بقي لديها بصيص أمل، لأن مكان إصابته بالرصاص لم يمس الأعضاء الحيوية. لكن القائد كان قد أغمي عليه فجأة، ومنذ ذلك الحين لم يستفق.
سواء كان حظًا حسنًا أم سيئًا، لم يكن في المستشفى الميداني تجهيزات أو طاقم طبي يراقب حالته بدقة. وكما قال السيد هاوت، ما يحتاجه آشلي الآن هو إرادة البقاء، لكنه كان يذوي ببطء بلا مقاومة.
شعرت أغات أن ثمة خطبًا ما. فكرة أنها حاولت قتل مريض يقف عند مفترق الموت والحياة، جعلتها تغرق في عار وخجل شديدين.
لم تدرك حتى أنها تبكي، لكنها انخرطت في بكاء مرير. أمسكت بيده، والدموع تنهمر على وجنتيها وهي تصلي لله أن يرحمه، أن لا يدعه يموت، وأن يغفر حماقتها. طوال الليل، كانت ابتهالاتها ملحّة.
عند بزوغ الفجر، استطاعت أغات أن تنظر إلى قلبها بعمق. ما كانت تريده حقًا لم يكن موت القائد. لا، بل أن يفتح عينيه وينهض من جديد. حتى وإن كان لا يعرف ما ارتكبته، كان عليه أن يعود إلى حياته. هكذا كانت ترى الأمر حينها.
(مستحيل… هل يمكن أن يكون قد رآني وأنا أبكي؟)
لكن وقتها كان القائد يصارع الموت، فلا بد أنه لم ير دموعها. ومع ذلك، رمق آشلي أغات بنظرة وكأنه لا يفهم شيئًا مما تقوله.
“الممرضة ناتالي أمسكت بيدي وبكت، أليس كذلك؟”
“لا، لم أفعل. لماذا أفعل ذلك أصلًا؟ لابد أنك تخيلت الأمر يا سيدي.”
“كنت أظن ذلك أيضًا… حتى ظننت أنني كنت أحلم.”
احمرّت وجنتا أغات وحاولت جاهدة إخفاء انفعالها. لكن آشلي، وقد رأى وجهها الصادق الذي لا يعرف الكذب، صار واثقًا الآن: التي لم تستطع تركه وهو يحتضر وبقيت بجواره ثلاثة أيام كانت فعلًا ناتالي. ومع ذلك، كانت تتظاهر بالبرود وكأن شيئًا لم يحدث.
“إذن، لماذا أنقذتني؟ لو تركتني لأموت وقتها، لما كان عليّ أن أمر بكل هذا العناء.”
قال آشلي بنبرة باردة تقشعر لها الأبدان، وهو يثبت عينيه عليها بتوبيخ.
“مهما تخيلت يا سيدي، فهذا لا يمت للحقيقة بصلة.”
لم ترد أغات الدخول في جدال آخر معه. تقدمت ببرود وجلست على الأريكة. كان وقت القيلولة، لكنه أصرّ على عدم النوم. أما هي فقررت أن تدخر طاقتها لمواجهة طول النهار، لا لمجادلته.
✦✦✦
في مساء اليوم التالي، وبعد أن أنهت عملها وعادت إلى مسكنها، استدعتها الممرضة المشرفة أديل.
“غدًا صباحًا سيتم نقل القائد غلوستر وثلاثة مصابين آخرين إلى مستشفى الجيش في نويل.”
“أعلم ذلك.”
“ولهذا السبب، يجب أن ترافقهم الممرضة ناتالي في عربة الجيش.”
“ألا يمكن تكليف ممرضة أخرى بمرافقة القائد بدلًا مني؟”
بدت ناتالي وكأنها تخلّت تمامًا عن مسؤولياتها كممرضة مسؤولة، وهو أمر لم تعهده أديل منها من قبل.
“الإجراءات تقتضي أن يرافق الممرضة المسؤولة مرضاها.”
“لكني لا أعرف الكثير عن المصابين الآخرين.”
“سجلاتهم الطبية موجودة. يمكنك مراجعتها بعناية.”
“…….”
عضّت أغات على شفتها السفلى بقوة. مرة أخرى، بدا أن أديل تُلزِمها بمرافقة القائد وحده مهما كان.
“وماذا أفعل بعد أن نصل إلى مستشفى نويل؟”
“تشرحين للممرضة هناك حالة القائد غلوستر بالتفصيل. ولا تنسي أن تسلّميها سجله الطبي.”
في النهاية، قررت أغات أن تتراجع خطوة. فلا مجال لمخالفة أوامر الممرضة المشرفة، وهي بمثابة الرقيب الأعلى.
كان من المقرر أن يغادروا المستشفى الميداني في التاسعة صباحًا. الرحلة إلى مستشفى الجيش في نويل، الموجود في الخطوط الخلفية، ستستغرق يومين. وهذا يعني أنه بعد ثلاثة ليالٍ فقط لن تضطر لرؤية القائد ثانية. وبما أن هناك جرحى آخرين سيرافقونهم، فلن تكون مضطرة للبقاء معه وحده كما في الغرفة نفسها. فكرت أغات أن الأمر سيكون أهون بكثير.
✦✦✦
في الغرفة، كانت عقارب الساعة تشير إلى السابعة.
“طَق”.
انفتح باب الغرفة ودخلت الممرضة. كانت امرأة دقيقة في مواعيدها إلى أبعد حد. لقد خرجت معه في نزهة، وشاهد كيف تعتني بمرضاه، لذا كان يعرف ذلك جيدًا.
“لقد جئتِ إذن.”
كانت آشلي بانتظارها، وما إن دخلت أغات إلى غرفة المريض حتى التقت عيناها بعينيه.
“هل نمت جيدًا؟”
“نعم، بفضل الممرضة ناتالي نمتُ نومًا عميقًا.”
أخفضت أغات رأسها واقتربت من مقدمة السرير. كان زيّ الممرضة الأبيض النظيف يليق بها اليوم على نحو خاص، غير أنّ الهالات الداكنة تحت عينيها دلّت على أنها لم تذق النوم طوال الليل. لم يكن يفهم إن كان انتقالها معه إلى المستشفى العسكري أمرًا مرهقًا لهذه الدرجة.
فمع أنها أمضت وقتًا طويلاً إلى جانبه كممرضة مكلّفة به، إلا أنها لم تُبدِ أي رغبة في أن تترك في قلبها ذرة من مودة تجاهه.
لقد استدعى الممرضة المسؤولة عن الجناح إلى الغرفة ليجد جوابًا لمقاومتها. كيف لإنسانة تحتقره وتبغضه بهذا الشكل أن تكون هي نفسها من أنقذت حياته؟
ثم ها هي الآن تقطع كل صلة به كما لو كانت سكينًا حادة. لم يفهمها قط. لقد منحها فرصة، لكنها لم تُحسن استغلالها، وذلك ما جعله يراها تافهة وجريئة في آنٍ معًا.
وكان يعتقد أنّ رؤية يأسها وعذابها كفيل بأن يطفئ تلك المشاعر التي لا يعرف كيف يسميها، وأن يضع نهايةً لها تلقائيًا.
“سأجلب لك ماءً لتغسل وجهك.”
فرد بسرعة:
“لا داعي لذلك.”
“عفوًا؟”
“لقد أحضرتُ الماء بنفسي.”
على الطاولة كان هناك طَسْت مملوء بالماء.
“لابد أنّ حمل الطست يوميًا إلى الطابق الثاني كان مرهقًا.”
ثبتت الممرضة عينيها على الطست بصمت، كأنها تلتقط أنفاسها. لم يكن السبب امتنانًا له، بل لأنها كانت تتوق للخروج من الغرفة ولو للحظات لتلتقط أنفاسها بعيدًا عنه، وهو قد سلبها حتى تلك الفرصة.
أما هو، فقد احتفظ بقناعه الصارم وابتسامته الهادئة، لا يتزحزح عنها.
“هذا عملٌ كان عليّ القيام به.”
“استيقظتُ باكرًا ولم أجد ما أفعله. ويداي لم تبتلّا، فلا داعي لأن تقلقي، يا ممرضة ناتالي.”
ورفع أمامها يديه الملفوفتين بالضمادات ليطمئنها. كان يعرف أنها لم تقل ذلك بدافع القلق عليه، لكنّه شعر أنه مضطر لطمأنتها على كل حال.
كانت حياته اليومية تبدأ في الخامسة فجرًا، حتى أثناء خدمته العسكرية. ومنذ بلوغه، لم يحدث أن تأخر عن مواعيده إلا حين نُقل إلى المستشفى الميداني.
واليوم، استيقظ تمامًا عند الرابعة والنصف صباحًا. كان يفترض أن يشعر بالراحة لعودة جسده إلى طبيعته، لكن آشلي لم يستطع.
فالغرفة الفارغة الخالية من أي دفء بدت موحشة على نحو لا يُطاق، مما أثقل قلبه بجمود بارد. عندها أطبق عينيه لبرهة وكتم أنفاسه، يحاول السيطرة على نفسه. هذه المشاعر كانت خطيرة.
لم يسمح يومًا لشيء، لا لحدث ولا لشخص، أن يزعزع توازنه. وبعد أن التقط أنفاسه بعمق واستعاد هدوءه، فتح عينيه أخيرًا.
“سأساعدك على غسل وجهك.”
“شكرًا، تفضلي.”
نهض آشلي من السرير، فتقدمت الممرضة معه إلى حيث الطست. انحنى قليلًا، فوضعت منشفة حول عنقه وبدأت تغسل وجهه بالماء.
ظلّ آشلي مغمض العينين طوال ذلك الوقت، كما اعتاد أن يفعل. لكن بينما كانت هي تشطف وجهه من الصابون، فتح جفونه قليلًا ليتأملها.
الممرضة تفادت نظراته، تركز فقط على عملها وهي تجفف وجهه بالمنشفة.
ثم قالت بهدوء:
“سأقوم بحلاقتك، اجلس على الكرسي.”
جلس آشلي مطيعًا كما لو كان طفلًا حسن السلوك، وأرجع رأسه إلى الوراء. فردّت هي كريمًا أبيض باردًا على ذقنه بحذر شديد، ثم بدأت بتمرير شفرة الحلاقة بلطف، تحلق شعر ذقنه بخطوط دقيقة.
ربما كان السبب برودة تعاملها، لكن آشلي لم يرمش، ظلّ يتأمل وجهها كما لو كان يستمتع بمشهدٍ فريد. أما هي فخفضت رموشها الطويلة الكثيفة متجنبة نظرته، إلا أن ملامحها فضحتها؛ فارتجاف رموشها كان كجناح فراشة مثبّت بمشبك، يرفرف بيأس. حتى شفتاها الممتلئتان، وقد اكتسبتا حمرة خفيفة، كانتا ترتعشان في نظره.
وعندما اضطربت حنجرتها وكادت يدها أن تفقد اتجاهها، ارتسمت على شفتيه ابتسامة ملتوية. فهي لا ترى فيه سوى مخلوق تافه مثير للاشمئزاز.
أنهت عملها وقالت ببرود:
“انتهيت.”
“أحسنتِ يا ممرضة ناتالي.”
انحنت قليلًا وتراجعت إلى الوراء، وكأنها تتمنى أن تخرج من الغرفة راكضة. كانت متصلبة القامة، واضحة النفور.
أما آشلي، فبما أنه كان يتطلع إلى اليومين القادمين، قرر أن يمنحها بعض المساحة. وما إن عاد إلى سريره، حتى أمسكت هي بالطست وغادرت الغرفة بخطوات سريعة.
الانستغرام: zh_hima14
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 6"