الفصل الخامس: أصبحت ممرضة العدو (5)
قال آشلي بابتسامة ساخرة وهو يحرّك طرف شفتيه:
“وجهك يبدو مضحكاً.”
“نعم؟”
أجابته أغات مستغربة وكأنها لم تفهم المقصود، ثم رفعت يدها متتبعةً نظرات الرجل ولمست فمها.
لقد كانت تمسح جسده بالماء، لكنها غفت من غير قصد.
وعندما تحسست رطوبةً عند طرف فمها، أدركت أنها نامت وهي تسيل لعابها.
مسحت بسرعة أطراف فمها بكمّها، ثم قالت وهي محمرة الوجه:
“هل جسدك بخير؟”
“نعم، كما ترين، سليم تماماً.”
ردّ آشلي بنبرة عادية وكأن الأمر لا يعني شيئاً.
قالت الممرضة بصوت متردد:
“سيدي… يسعدني أنك استيقظت.”
“…….”
“عليّ أن أخبر السيد هاوت. سأعود سريعاً.”
أحنَت رأسها باحترام، ثم فتحت الباب وغادرت مسرعةً وكأنها تخشى أن يُمسك بها أحد.
بدا وكأنها كانت على وشك البكاء وهي تتحدث.
لا، ربما كان ذلك مجرد وهم… أيمكن أن تكون فرحت فعلاً بعودته إلى الوعي؟
تملّكه شعور مبهم بالانتعاش، وكأنه نال راحةً عميقة بعد نوم طويل.
لم يكن يعلم أنه غاب عن الوعي ثلاثة أيام كاملة، وأن الممرضة لم تبرح سريره طوال تلك المدة.
أكل آشلي حساء المستشفى حتى آخر قطرة، لا يترك شيئاً في الطبق.
لم يكن يبدو أبداً كمن استيقظ للتو من غيبوبة استمرت ثلاثة أيام.
(تبدو بصحة جيدة، من الجيد أن تأكل هكذا)، فكّرت أغات وهي تحدّق به، فإذا به يرفع عينيه فجأة ويقترح:
“من الآن فصاعداً، لِمَ لا تتناولي الطعام معي يا الآنسة ناتالي؟”
“سأتناول طعامي بعد أن تنتهي أنت يا سيدي.”
“يقلقني أن يؤثر ذلك عليك. أم أنك لا ترغبين في مشاركتي الطعام؟”
“…….”
ترددت أغات وهي تبحث عن كلمات مناسبة.
فهي وإن كانت الممرضة المكلّفة برعايته، إلا أنّ مشاركة المريض الطعام أمر لا يليق.
“أفهم… ربما تجدين الأمر غير مريح.”
خفضت أغات عينيها بصمت.
أجل، لم تستطع إنكار أنها تشعر بالضيق نحوه.
لكنها لم ترَ جدوى من كشف ذلك لمريض بالكاد استعاد وعيه.
“إنها قواعد المستشفى يا سيدي.”
“لم أكن أعلم بوجود مثل هذه القواعد.”
“إن كنت قد أنهيت طعامك فسأرفع الأطباق.”
“نعم، أشكرك.”
وضعت الصحون في الصينية وانحنت برأسها.
“سأذهب لتناول طعامي الآن.”
“حسناً. لتكن وجبة شهية، وسنلتقي بعد قليل.”
“نعم، سيدي.”
خرجت بخطوات هادئة وأغلقت الباب خلفها.
ظل آشلي يحدّق بالباب كأنه يتتبع أثرها بعينيه.
(هل تغيّر سلوكها فجأة؟ لا يمكن… لعلها قررت بين ليلة وضحاها أن تغيّر مشاعرها تجاهي؟ مستحيل. لا بد أنها تخفي مشاعرها الحقيقية. تبدو ألطف وأكثر ودّاً من قبل، لكن في أعماقها ما زال يسكنها الاحتقار والعداء).
عضّ شفته وتجرّع مرارةً داخله، وإذ بصوت طرقاتٍ على الباب يُسمع.
“الممرضة أديل.”
“تفضلي بالدخول.”
دخلت رئيسة الممرضات في المستشفى الميداني، وأحنَت رأسها احتراماً.
“بلغني أنك استيقظت. كيف تشعر الآن؟”
“كأني نمت طويلاً ونهضت نشيطاً.”
“الحمد لله على سلامتك. لقد كان الأمر صعباً عليك، فحرارتك لم تهبط طيلة ثلاثة أيام. لو كان عدد الجرحى أقل لتوليتُ رعايتك بنفسي. أرجو المعذرة.”
قالت أديل بأسى وهي تنحني.
ثم أضافت:
“السيد هاوت سيزورك بعد الظهر. الفحص سيكون على يده.”
في الأيام الثلاثة التي ظل فيها فاقداً للوعي لم يزره هاوت مرةً واحدة.
كان المستشفى مكتظاً بالجرحى، والموتى يتساقطون بالعشرات، فلم يكن لديه وقت ليهتم حتى بضابط برتبة كابتن.
أمّا أديل، فكانت تمرّ أحياناً لتطمئن، لكنها لم تملك وسيلة خاصة لخفض حرارته.
الذي اعتنى به حقاً كان الممرضة ناتالي، التي أطعمتْه الدواء في الماء، ومسحت جبينه بالمنشفة الرطبة بلا توقف.
خشيت أديل أن يثير هذا الأمر غضبه، لكن صوته البارد قطع أفكارها:
“هل ظللتُ طريح الفراش ثلاثة أيام كاملة؟”
“ن… نعم. لم تكن تدري؟ للأسف كنتَ في حالة حرجة جداً طوال تلك المدة.”
“هكذا إذن.”
قالها وهو يقطّب حاجبيه غارقاً في التفكير.
“لم تقل لي ناتالي شيئاً عن ذلك. لم أعلم مطلقاً.”
“ربما أرادت أن تخبرك بعد أن تتحسن حالتك.”
“لستُ واثقاً من ذلك. إنها ممرضة قليلة الكلام بطبعها.”
كان صوته بين الثناء واللوم، غامضاً لا يُفهم مقصده.
وجهه بلا تعابير، جامداً وبارداً.
“سأنصرف الآن. أرجو أن ترتاح جيداً.”
غادرت أديل وأُغلق الباب.
أخذ آشلي نفساً عميقاً محاولاً تهدئة مشاعره.
✦✦✦
عندما عادت أغات إلى الغرفة، كان آشلي يقرأ الجريدة.
وكان مساعده، الرقيب ميلر، واقفاً أمام السرير.
ابتسم لها بحرارة وهو يحيّيها:
“أهلاً بكِ أيتها الممرضة.”
“مرحباً بك يا سيد ميلر.”
أجابت أغات بوجه مشرق، فاحمرّ وجه ميلر خجلاً.
لم يكن يتوقع أن سيدة جميلة كهذه ستتذكر اسمه وتناديه به.
وبينما كان ميلر مذهولاً، فُتح باب الغرفة ودخل شخص آخر.
إنه الطبيب هاوت، الذي لم يكن يجد وقتاً لنفسه من كثرة اعتنائه بالجرحى، فلا يأكل ولا يستريح كما ينبغي.
كان قد اقتطع بجهد وقتاً قصيراً لزيارة القبطان.
اقترب بخطوات سريعة وسأل:
“سيدي القبطان، كيف حال جسدك؟”
“بخير.”
أجاب آشلي بلهجة جافة على غير عادته.
ثم طوى الصحيفة وسلّمها إلى ميلر، الذي أخذها وتنحّى بعيداً.
بدأ هاوت يفك الضماد عن بطن آشلي، يتفقد بعناية أثر الإصابة ويتأكد من أن الجرح التأم جيداً.
كان القبطان الشاب يبدو متماسكاً وقد تغلّب بشجاعة على إصابته بالرصاص.
“يمكن نقلكم إلى نُويل.”
“نُويل؟ تعني المستشفى العسكري؟”
“نعم، إنه في القطاع الغربي. هناك ستتلقى علاجاً مستقراً حتى تعود إلى وحدتك.”
ولأن عليه أن يهتم ببقية الجرحى، ترك أمر تبديل الضماد للممرضة.
“سأنصرف الآن. النقل إلى نُويل سيكون بعد يومين، وقد أبلغت بذلك.”
انحنى بخفة وغادر الغرفة.
لم يمضِ على دخوله عشر دقائق حتى أنهى الفحص وغادر.
وقفت أغات أمام السرير لتعيد لفّ الضماد.
“سأعقم الجرح وأعيد ربطه بضماد جديد.”
وبينما كانت تدهن المطهّر على موضع الإصابة وتربط الضماد، خيّم صمت ثقيل على المكان.
كان آشلي يراقبها بوجه خالٍ من التعابير.
وعندما أنهت ربط الضماد بإحكام، أنزلت قميصه.
أطراف أصابعها الناعمة مرّت على بشرته مروراً عابراً.
فكّر آشلي: كأنها تدهن الدواء بلمسات تحكّ جسده وتثيره.
“انتهيت.”
قالت وهي تبتعد حاملة الضماد القديم كمن تخلص من عبء.
“يبدو أن الممرضة ناتالي غير مكترثة بنقلي إلى نُويل.”
كان يتحدث بنبرة ظاهرها ابتسامة، لكن في عيني أغات بدا غاضباً.
“المستشفى العسكري في نُويل مليء بالأطباء ومجهز جيداً.”
“أنا لم أسألك عن نُويل. سألت عن الممرضة ناتالي.”
في زاوية الغرفة، ابتلع ميلر ريقه بصعوبة.
ورغم وجوده، واصل آشلي الحديث بإصرار:
“لا تقصدين أن تتركيني أذهب وحدي، أليس كذلك؟”
“ماذا تعني بذلك…؟”
ابتسم آشلي ورفع كتفيه باستخفاف.
لكن في عينيه كان يلمع حدّ بارد كسيف.
ظنّت أغات أنه رجل يخفي مشاعره، لكنه الآن أظهر حقيقته: رجل متغطرس يريد أن يجعل الممرضة أداة في يده.
ابتسمت أغات بسخرية، وأزالت عن وجهها قناع “الممرضة الطيبة” ونظرت إليه بعينين باردتين.
أدرك ميلر التوتر، فانحنى معتذراً وكأنه تذكّر أمراً عاجلاً، وغادر الغرفة.
لم يبقَ سوى آشلي وأغات.
تجنبت نظرته الملاحقة وسارت نحو النافذة، شدّت الستائر بإحكام.
“سيدي القبطان، حان وقت قيلولتك.”
قالت ببرود كما كانت تفعل قبل أيام.
“لا أريد أن أنام.”
تنهدت أغات، مسنِدة ظهرها إلى النافذة.
ظل آشلي يحدّق بها بعناد.
استدارت لتواجهه.
إن لم يكن يرغب في النوم، فلن تجبره.
مدّت يدها لتفتح الستائر من جديد، فإذا بصوته المنخفض يأتي من خلفها:
“اتركيها كما هي.”
“لكنّك قلت إنك لن تنام؟”
“أنا أفضل العتمة على الضوء.”
رضخت لرغبته وأبقت الستائر مسدلة، مع أنها ستعيد فتحها بعد الظهر.
وبينما كانت تتحرك مبتعدة، جذب أحدهم كمّها.
“سيدي القبطان؟”
“قيل لي إن من أنقذ حياتي كانت الممرضة ناتالي. هكذا قالت أديل، إنك سهرتِ عليّ ثلاثة أيام.”
“كنت الممرضة المسؤولة عنك… لقد قمت بواجبي لا أكثر.”
أرادت أن تقول إنها لم تفعل شيئاً عظيماً.
“كنت أظن أنني كنت أحلم.”
قالها آشلي وعيناه شاردتان، يسترجع ذكرى غامضة.
“في أحد تلك الأيام الثلاثة حين كنت فاقد الوعي… رأيتك، الممرضة ناتالي.”
ارتبكت أغات، إذ كانت تدرك تماماً ما يعنيه.
فلم تستطع أن تواجه عينيه مباشرة.
الانستغرام: zh_hima14
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 5"