الفصل الثالث: أصبحتُ ممرضة لعدوي (3)
بسبب النسيم العليل، انسلت خصلات ذهبية من شعر المرأة من تحت الشبكة التي كانت تثبت شعرها. رفعت أغات عينيها تنظر إليه بارتباك وكأنها لا تفهم السبب.
“لنجرب أن نمشي حتى هناك.”
أشار آشلي بيده نحو شجرة ضخمة ارتفعت فروعها نحو السماء، فيما كانت أغصانها المتهدلة ترسم ظلالاً باردة على الأرض. لم تفهم أغات سبب رغبته في ذلك، فحالته الصحية لم تتحسن بعد لدرجة القيام بجولة مشي، أما رغبتها في السير إلى جانبه فلم تكن موجودة على الإطلاق، ولذلك ترددت.
لكن عندما التفت إليها وهو يخطو أمامها، ثم ابتسم في عينيه وأشار لها بيده أن تتبعه، ترددت أكثر. شعرت بالحرج، لكن السماء كانت صافية حين رفعت رأسها، فقررت أن تمشي بجانبه.
انتظر آشلي حتى اقتربت بخطوات بطيئة. وعندما تعمدت أن تبطئ حركتها، ابتسم باهتاً قبل أن يتابع سيره، فيما سارت خلفه بصمت. فكرت أنه ربما كان عليها أن تجلب معه كرسيه المتحرك، وألقت نظرة إلى الوراء، لكن صوته سبقها:
“اتركي الكرسي هناك.”
“ألا تجد صعوبة في المشي؟”
“كما ترين، أنا بخير.”
كان كلامه صحيحاً إلى حد ما، فمع أنه كان يمشي أبطأ من المعتاد، إلا أن خطواته لم تكن متعثرة. وصل آشلي أولاً إلى ظل الشجرة، والتفت يراقبها وهي تقترب.
انقبض صدر أغات وهي تشعر بنظراته مثبتة على جسدها. قد يبدو بمظهر رجل نبيل أنيق، لكنها تعلم أن وراء ذلك قسوة حاكم متوحش. رفعت رأسها أخيراً، لا تهرب من نظرته، وسارت حتى صارت تقف على بعد خطوات قليلة منه، ثم عضت شفتها السفلى.
“يبدو أن المتعب ليس أنا، بل الممرضة ناتالي.”
“الأفضل أن نعود.”
تمنت أن تنتهي هذه النزهة وتعود بسرعة إلى المستشفى الميداني. أن تبقى معه وحدهما، وأن تغرق في عينيه الداكنتين، كان كفيلاً بجعل قلبها يضطرب.
“فلنجلس قليلاً ثم نرجع.”
لم يكترث لكلامها، بل جلس آشلي مباشرة على الأرض مسنداً ظهره إلى جذع الشجرة. نظرت إليه أغات صامتة، تراقبه وهو يجلس بكل بساطة.
“لا تبقي واقفة، اجلسي.”
طرق بأطراف أصابعه المكان بجانبه وهو يرفع رأسه نحوها. لم تكن أغات ترغب في الجلوس إلى جواره. لقد خرجت بهذه الحجة لتتفادى أعين الجرحى الآخرين.
قالت ببرود:
“أنا أرتاح أكثر بالوقوف.”
“لكن ساقيك تؤلمانك.”
أمال رأسه قليلاً وأشار ثانية إلى جانبه. أدارت أغات وجهها بعناد، فتفجرت ضحكة صغيرة من صدره. وضع يده على فمه ليكتم الضحك، لكن ابتسامته لم تنطفئ. لم تفهم أغات ما المضحك في رفضها، وتساءلت في سرها إن كان القائد غلوستر مجنوناً أكثر مما كانت تظن.
شعرت أن مرارة تتصاعد في حلقها، فغطت فمها بيدها وحاولت ضبط تنفسها. قبل قليل فقط كانت قد عزمت أن تكون ممرضة صادقة واجبة الاحترام، حتى إن لم تحظَ بمحبة الجميع، وذلك كي تكسب ثقته قبل أن تتحرك بخطتها.
لكنها بالكاد مرت ساعة على ذلك العزم حتى بدا من الصعب الحفاظ عليه. كررت في داخلها أنها لا يجب أن تضعف. أخيراً، جلست بجانبه كما أراد.
“قلتِ إن الوقوف مريح.”
“ساقاي تؤلماني.”
“كنت أتوقع ذلك. من الآن فصاعداً لا تعاندي، وافعلي ما أقول.”
مال رأسه وهمس بجانبه، فشعرت أغات بوخز في أذنها، لكنها لم تستطع أن تبتعد بجسدها، وظلت جالسة مستقيمة تحدق إلى الأمام.
“شعرك…”
مد يده الكبيرة نحوها. ارتجفت أغات وأبعدت جسدها بسرعة، متسعة العينين وهي تنظر إلى يده المعلقة في الهواء.
“لقد أفلتت خصلة.”
أشار إلى خصلة صغيرة من شعرها انزلقت بجانب أذنها. رمشت بعينيها ثم أعادت الخصلة خلف أذنها. مع ذلك لم تستطع أن تخفي ارتباكها، وصدرها يعلو ويهبط باضطراب.
أما آشلي، فقد سجل كل تلك اللحظات بعينيه: الوجه الأبيض الذي ازداد شحوباً، التنفس السريع بين شفتيها الممتلئتين، وكل ارتعاشة صغيرة في ملامحها.
عادا بعدها إلى المستشفى الميداني دون أن يتبادلا كلمة واحدة. كانت يداها تدفعان الكرسي المتحرك بخشونة وعناد، لكنه لم يطلب منها أن تسير ببطء. كان يعلم جيداً أن حتى لو انقلب الكرسي، فلن يترك ذلك أي أثر على جسده القوي.
ـــــــــــــــــ
خفضت أغات عينيها واقتربت من آشلي.
“سأقيس حرارتك.”
رفعت قميصه وأدخلت مقياس الحرارة الزئبقي الزجاجي تحت إبطه. بعد أن انتظرت قليلاً، أخرجته وحدقت فيه بتركيز، ثم عادت لترفع بصرها نحوه مترددة الشفاه.
“المعذرة.”
لمست جبينه بيدها الصغيرة الناعمة، وسرعان ما سحبتها وهي تتنفس باضطراب.
“أه… ذاك…”
“الممرضة ناتالي؟”
“لديك حُمّى.”
بدت الممرضة شاردة كفتى صغير يركض مذعورًا هربًا من القصف. كان على وشك أن يقول لها إن إصابة المريض بالحمى أمر وارد، لكنها فتحت باب الغرفة بسرعة وخرجت مسرعة.
لديك حُمّى.
حين قالتها، كانت عيناها الخضراوان تضطربان بقلق. إنها قلقة لأنها ممرضة، فكر آشلي وهو يبلل شفتيه اليابستين بلسانه. لم يكن يدرك مطلقًا أنه بعد بضع ساعات سيتأرجح بين الحياة والموت.
مع تزايد المصابين الذين جرى نقلهم، صار من الصعب طلب معاينة من السيد هاوت. فإلى أن يصل طبيب عسكري جديد، كان عليه وحده أن يعتني بجميع الجرحى، لذلك لم يكن أمام أغات سوى أن تنقل إليه حالة المريض بالكلام.
“أعطه خافضًا للحرارة وضعي منشفة مبللة على جبينه.”
“نعم، فهمت.”
أرادت أن تقول إنه لا بد أن يفحص المريض بنفسه، لكنها أطبقت شفتيها واستدارت مسرعة.
وأثناء صعودها إلى الطابق الثاني، لمحت بعينيها باب المدخل المفتوح. كان هناك طفل صغير، لا يتجاوز السادسة، يركض في الساحة الأمامية وذراعاه ممدودتان.
خطت أغات من دون أن تشعر خارج الباب نحو الحديقة. ركض الطفل نحوها، لاهثًا.
“أختي، هل أنتِ ممرضة؟”
وجهه اللامع الذكي أيقظ في داخلها ذكرى قديمة، فشعرت بوخزة في صدرها وهي تجثو على ركبتيها لتكون في مستوى نظره.
“نعم، أنا ممرضة. ماذا جاء بك إلى هنا؟ هل أنت مجروح؟”
“لا، أنا بخير جدًا!”
ابتسم الطفل ببراءة وهو يجيب، ثم لمع بريق في عينيه وقال بحماس:
“أبي مزارع!”
“أوه، حقًا؟”
تذكرت أنهم يحصلون على مؤن من المزارع القريبة، فلابد أنه ابن أحد هؤلاء.
“أنتِ جميلة يا أختي!”
قالها ببراءة جعلت وجه أغات يحمر وهي تبتسم بخجل.
“وأنت شجاع ووسيم!”
“حقًا؟”
“نعم، حقًا.”
“واو! هذا رائع!”
حدّقت فيه بعينيها الخضراوين الدافئتين وهي تفتش في جيبها، فوجدت أخيرًا حلوى مستديرة واحدة.
“هل تريد هذه؟”
“واو! حلوى الفراولة!”
قفز الطفل من فرط الفرح، فأعطته أغات الحلوى الصغيرة في كفه.
“شكرًا لكِ يا ممرضة!”
قالها بأدب بالغ وهو يقشر الغلاف بسرعة ويضع الحلوى في فمه، فانتفخ أحد وجنتيه. ابتسمت أغات بحنان وهي تراه يمضغ، يملأها شعور بالدفء.
من الطابق الثاني، كان هناك شخص يقف عند النافذة، ملامحه متجهمة وعيناه خافضتان وهو يراقب المشهد.
كانت عينا الممرضة تتلألآن كالموج، وابتسامتها لا تنقطع. تذكر آشلي مرة أخرى أنها امرأة لطيفة، حتى مع طفل تراه لأول مرة. فأخمد ابتسامة مرة في صدره.
عادت أغات مسرعة إلى غرفة التمريض، أخذت خافض الحرارة وعادت إلى غرفة آشلي.
لقد كانت هي من أصر على جره بعيدًا رغم أنه لم يتعافَ بعد. صحيح أنه بدأ يستعيد صحته، لكنه كان منذ وقت قريب جريحًا كاد أن يفقد حياته في ساحة المعركة.
كان الرجل متكئًا على النافذة المفتوحة، يواجه الهواء البارد.
“الهواء البارد لا يناسبك.”
وضعت يدها على ذراعه وسحبته إلى الداخل قبل أن تغلق النافذة بسرعة.
“سيدي القائد، رجاءً تناول الدواء.”
“لن أموت حالًا، لا بأس إن تأخرت قليلًا.”
قالها بلهجة تحمل ابتسامة، لكن أغات لم تمازحه، بل سارعت إلى إحضار كأس ماء. وعندما ناولته الكأس، رد بصوت مهذب:
“شكرًا لكِ، الممرضة ناتالي.”
رغم أن الحمى كانت تشتعل في جسده، إلا أنه لم يتخلَّ عن قناع الرجل النبيل. كان من المفترض أن يسارع بابتلاع الدواء، لكنه بدا هادئًا ومتمهلًا على نحو غريب.
نظرت إليه أغات بقلق بالغ، فيما هو أعاد النظر إليها بثبات. أخذ حبة خافض الحرارة ووضعها في فمه ببطء، ثم رفع الكأس ليبلل شفتيه، وعيناه الزرقاوان لم تفارق وجهها، تلتقطان كل تفاصيل ملامحها.
الانستغرام: zh_hima14
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 3"