ثم مدّ يده بهدوء وأحاط كفها البيضاء بين راحتيه الدافئتين.
رفعت عينيها الخضراوين نحوه، كانت متوترة كأن جسدها كله مشدود، ثم تمتمت بصوت خافت يكاد لا يُسمع:
“أعتقد أنه من الأفضل أن ننام في غرف منفصلة.”
تجمدت أنفاس آشلي للحظة، ولم يستوعب ما سمعه على الفور.
كان قد قرر بالفعل أن يصحبها إلى المقر، لكنه لم يفكر أبدًا في مسألة النوم أو في ما يمكن أن تعنيه لها.
هل يعني هذا أن ترددها بالأمس كان بسبب فكرة المبيت تحت سقف واحد؟
عندها فقط بدأ يفهم تصرفاتها السابقة.
لقد كانت قلقة منذ البداية من مسألة الفراش، أما القيل والقال فكان مجرد أمر ثانوي بالنسبة لها.
ورغم أنه كان يستطيع أن يوضح لها ببساطة أن لكلٍّ منهما غرفته الخاصة، وأنها ما تزال بحاجة إلى الراحة والعلاج، إلا أنه لم يقل شيئًا من ذلك.
بل قال بلهجة هادئة، وكأنه لا يرى في كلامها سببًا واضحًا:
“لا أفهم لماذا يجب أن يكون الأمر كذلك.”
كانت كلماته خالية من أي نية لإحراجها أو مفاجأتها، بل كانت نابعة من قلب رجل لا يريد سوى أن يطمئنها.
فتمتمت أغات، وقد احمرّ وجهها قليلًا:
“الأمر فقط لأننا… ما زلنا لم…”
فقاطعها بابتسامة خفيفة وصوت هادئ فيه دفء وصدق:
“إن كان الأمر يتعلق بذلك، فلا تقلقي. لست من أولئك الرجال الذين يقتربون من امرأة مريضة دون خجل.”
ثم أضاف بنبرة عملية:
“غدًا صباحًا ستصل السيارة العسكرية، وسنغادر معًا إلى المقر. هذا هو كل ما في الأمر.”
كانت لا تزال متوترة، وجسدها مشدود كما لو أنها تخشى أن تسيء فهم كلامها ثانية، لكنه أنهى الحديث بهدوء، ووقف من مكانه.
“يمكنكِ تجهيز أغراضك بعد الإفطار، لا داعي للاستعجال.”
قالت بسرعة:
“سأرتب حقائبي بنفسي.”
ابتسم آشلي وقال بنبرة حنونة فيها شيء من الحزم:
“أنتِ لم تُشفَي تمامًا بعد، والطبيب أوصاكِ بعدم بذل مجهود. لا تتعبي نفسك.”
ثم انحنى قليلًا، وأمسك يدها برقة، وطبع على ظهرها قبلة خفيفة كلمسة نسيم دافئ.
“سأعود بعد قليل، فقط انتظريني، ولا تفعلي شيئًا حتى أعود.”
ترك كلماته تلك خلفه، وخرج ببطء وأغلق الباب خلفه.
سمعت أغات وقع خطواته يبتعد شيئًا فشيئًا، حتى لم تعد تسمع سوى دقات قلبها المتسارعة.
تنفست بعمق وهي تضع يدها على صدرها وقالت بصوت مبحوح:
“هاه…”
منذ لحظة دخوله إلى الغرفة حتى مغادرته، لم تستطع أن تتنفس بارتياح.
لماذا يحدث لي هذا؟
لم يكن متسرعًا، ولا خشنًا في كلماته، بل كان دافئًا ورقيقًا إلى حدٍّ يربك القلب.
لكن عندما لامس يدها، شعرت بأن نبضها قد اختلّ، ولم تستطع التحكم في ملامح وجهها.
ثم زاد ارتباكها حين قبّل ظهر يدها قبل أن يغادر، وكأن تلك القبلة تركت أثرًا ساخنًا لا يزول.
أمسكت وجنتيها بكلتا يديها، تحاول أن تخفف حرارة وجهها الذي اشتعل خجلًا.
كانت تعلم أن أكثر ما أقلقها منذ اقتراحه الإقامة في المقر لم يكن المكان ذاته، بل فكرة النوم تحت سقف واحد معه.
فهي تحبه، ولا تستطيع إنكار ما يثيره قربه في قلبها، لكنها في الوقت نفسه لم تكن مستعدة لتجاوز تلك الحدود بعد.
أخذت نفسًا عميقًا، تحاول تهدئة خفقانها، وهي تعيد في ذهنها حديثهما قبل قليل.
لقد كانت مخطئة في ظنها، بالتأكيد هو لم يقصد أي شيء يتجاوز حدود العناية والراحة.
فبالنسبة له، ما تزال مجرد مريضة تحتاج إلى رعاية، لا أكثر.
ومع ذلك، لم تستطع إلا أن تشعر بالحرج من كلامها عن النوم المنفصل، وكأنها أساءت الظن في نواياه الطيبة.
في تلك اللحظة، دوى صوت مألوف من عند الباب:
“إنها أنا، إيلي.”
ودخلت صديقتها “إليانا” وهي تحمل صينية عليها إفطار الصباح.
“أحضرت لكِ طعامك.”
ابتسمت أغات بخجل وقالت:
“شكرًا لكِ، إيلي.”
قدّمت لها إليانا طبق الحساء وجلست تراقبها وهي تأكل ببطء.
كانت أغات تبدو مختلفة اليوم — وجهها أكثر إشراقًا، وعيناها فيهما بريق غريب لم تره من قبل.
قالت إليانا وهي تحدق فيها متفحصة:
“ناتالي… أو بالأحرى، أغات. هل حصل شيء جيد؟ وجهك متورد، وعيناك تلمعان.”
ضحكت أغات محاولة إخفاء ارتباكها:
“ما الذي يمكن أن يكون جيدًا؟ لم أستعد ذاكرتي بعد.”
لكن صديقتها لم تقتنع، كانت تراقبها بفضولٍ عميق.
منذ استيقاظها قبل عشرة أيام بعد إصابتها، كان وجهها شاحبًا ومرهقًا، أما الآن فقد عاد إليه اللون، وعادت إليها أنوثتها المشرقة.
حتى شعرها الذهبي صار يلمع من جديد، وعيناها تشعّان كضوء الماء تحت الشمس.
رغم بساطة المكان، كانت تبدو كأنها أميرة تجلس وسط ضوء ناعم لا يراها غير من يحبها.
قالت إليانا بلهجة تحمل مزيجًا من الدهشة والريبة:
“أقول هذا لأن وجهك عاد إليه النضارة فجأة.”
فأجابت أغات بهدوء مصطنع:
“ربما لأن صحتي بدأت تتحسن، ولهذا أبدو هكذا.”
لكن إليانا لم تُخدع.
كانت الشائعات قد سبقتها — شائعات عن علاقة أغات بضابط يُدعى الكابتن غلوستر.
رفعت حاجبها وقالت بنبرة مازحة تخفي الغيرة:
“سمعت أنك على علاقة بالكابتن غلوستر… هل هذا صحيح إذن؟”
تلعثمت أغات قليلًا:
“آه… بخصوص ذلك…”
قاطعتها إليانا بنبرة عتاب فيها دفء الصداقة القديمة:
“كنتِ تستطيعين أن تخبريني على الأقل، ألسنا صديقتين؟”
كانت كلماتها صادقة، فهي شعرت بالخذلان قليلًا.
فمنذ أيام فقط، قالت لها أغات إنها سعيدة لأن لديها أخيرًا صديقة يمكنها أن تفتح لها قلبها، والآن تكتشف أن أغات بدأت علاقة عاطفية ولم تخبرها بشيء.
خفضت أغات رأسها وقالت بصوت خافت مليء بالندم:
“أنا آسفة… إيلي.”
وضعت أغات الملعقة جانبًا، ثم قالت بصوتٍ هادئٍ مليءٍ بالصدق:
“أنا آسفة يا إيلي، لم أقصد أن أخفي عنك شيئًا.”
كانت كلماتها نابعة من قلبها، فهي لم تكن تتعمد إخفاء الأمر، وكل ما كانت ترجوه هو ألا تشعر صديقتها الوحيدة بالخذلان أو الاستياء منها.
اقتربت إليانا منها قليلًا، ثم همست بصوتٍ منخفض يحمل نبرة فضول:
“لكن، ثمة أمر غريب يا أغات…”
رفعت أغات عينيها نحوها متسائلة، فأكملت إليانا:
“ما الذي كنتِ تعنينه حين تحدثتِ في الحمّام ذلك اليوم؟”
“في الحمّام؟ ماذا قلت بالضبط؟”
تذكّرت إليانا تلك الفترة جيدًا، حين كانت أغات قد كُلّفت بالعمل كممرضة خاصة للكابتن.
في البداية، كانت أغات تتصرف بانفعالٍ شديدٍ كلما ذُكر اسمه، وكأنها تحاول أن تخفي شيئًا خلف تصرفاتها المبالغ فيها.
وبصراحة، بدت لإليانا وقتها وكأنها تبالغ في التظاهر، لا أكثر.
لكن في أحد الأيام، التقت بها في الحمّام بالصدفة.
في ذلك الوقت، كانت أغات قد وصلت لتوها إلى المستشفى العسكري، وقالت حينها بأنها ستعود قريبًا، وأن عليها فقط أن تتحمل يومين أو ثلاثة.
لم تكن إليانا قد صدّقت كلامها تمامًا، لكنها بدت ذلك الصباح وكأنها تبوح بما في قلبها حقًا، ولذلك ظلّت إليانا تتساءل منذ ذلك الحين:
هل يُعقل أن تكون أغات، بعد أن فقدت ذاكرتها، قد أصبحت قريبة إلى هذا الحد من الكابتن؟
ثم لمَ لا؟ فمن الطبيعي أن تتأثر امرأة مثلها برجلٍ أنيقٍ وجذاب مثله، لا سيما وهي تقضي أيامها إلى جانبه.
سألت أغات بارتباكٍ خفيف:
“ماذا قلتُ في الحمّام بالضبط؟”
ابتسمت إليانا بخبثٍ لطيف وقالت:
“آه، ذلك يعني أنكِ لا تتذكرين؟ حسنًا، في الحقيقة…”
لكن قبل أن تكمل حديثها، قاطعها صوت طرقٍ خفيفٍ على الباب.
ثم تلاه صوتٌ مألوف:
“أنا… آشلي.”
تجمّدت إليانا مكانها للحظة، ثم همست بسرعة وهي ترتب الأشياء أمامها بتوتر:
“آه، أغات… لاحقًا سأخبركِ… لا، في الواقع، لا تهتمي، لا شيء مهم!”
ثم أمسكت بسرعةٍ بصحن الحساء ونهضت، وانحنت احترامًا عندما فتح آشلي الباب ودخل.
وبعد أن حيّته بخجلٍ بسيط، غادرت الغرفة بخطواتٍ مسرعة.
بقيت أغات تحدق في الباب لحظة، ثم التفتت إلى آشلي الذي كان يقترب منها بخطواتٍ هادئةٍ واثقة.
كان يحمل في يده صندوقًا كبيرًا بدا أنه مغلف بعناية.
لم تستطع أغات إخفاء فضولها، فبادرت بسؤاله:
“ما هذا، سيدي؟”
لم يُجبها على الفور، بل وضع الصندوق بهدوءٍ على الطاولة أمامها.
كان شكله يوحي بأنه هدية، ولهذا ازدادت دهشة أغات وحيرتها.
وقبل أن تنطق مجددًا، قال بصوتٍ منخفضٍ عميقٍ دافئ:
“لا تتوقعي الكثير… ليس بالأمر الكبير.”
كانت كلماته بسيطة، لكنها جعلت قلبها يخفق بخفة.
مدّت يدها بحذر، وفتحت الغطاء ببطء.
وفجأة، اتسعت عيناها من الدهشة.
“آه…”
كان داخل الصندوق فستانٌ أخضر فاتح، ناعم اللون، مصنوع من قماشٍ راقٍ يتلألأ بخفة تحت الضوء.
حتى من نظرةٍ واحدة، بدا واضحًا أنه فستانٌ فاخر، خيط بعنايةٍ من قماشٍ ثمين.
نظرت إلى آشلي وقد ارتسمت على وجهها ملامح الحيرة والارتباك، ثم همست:
“سيدي الكابتن؟”
كانت عيناها تسألان — لماذا يقدّم لي مثل هذه الهدية؟
ابتسم قليلًا وقال بهدوء:
“صحتك لم تتعافَ تمامًا بعد، لكنكِ اجتزتِ المرحلة الأولى من العلاج بنجاح. ففكرت أن أقدّم لكِ هذا بمناسبة ذلك… ربما يمكنكِ ارتداؤه عندما نذهب إلى المقر.”
قالت أغات وقد بدت عليها علامات الارتباك:
“لكن… سيدي الكابتن، أنت من سيغادر المستشفى، أما أنا فلم أجهز لك شيئًا.”
لقد كانت منشغلة تمامًا بمخاوفها من مسألة الإقامة في المقر، ولم يخطر ببالها حتى ما تعنيه هذه الخطوة فعليًا.
ابتسم آشلي قليلًا وقال بصوتٍ منخفضٍ يحمل شيئًا من السخرية اللطيفة:
“في الحقيقة… أنا تلقيت هديتي بالفعل.”
“ماذا؟”
رفعت أغات رأسها بسرعة، وعيناها اتسعتا دهشة.
ضحك آشلي ضحكةً خافتة، كانت صادقة ودافئة إلى حدٍّ جعل قلبها يخفق بقوة.
لم تكن ضحكةً مفتعلة أو مجاملة، بل ضحكة رجلٍ يبتسم لأنه سعيد حقًا.
تألقت ملامحه الوسيمة بابتسامته تلك، حتى بدت أغات وكأنها تنظر إلى ضوءٍ لا يُطاق جماله.
لقد بدا في تلك اللحظة رجلًا عطوفًا ومحبًا، وكانت نظراته إليها مليئة بالودّ والحنان.
وفكرت أغات، وهي تشعر بحرارةٍ خفيفةٍ تسري في وجنتيها:
لو كنت قد فقدت ذاكرتي حقًا ولم أستطع تذكّر هذا الرجل… لكان ذلك ظلمًا فادحًا.
لكنها كانت محظوظة، لأن القدر منحهما فرصةً جديدة ليبقى بجانبها.
قال آشلي بنبرةٍ عمليةٍ وهو يمدّ يده إلى الصندوق:
“أخبروني بمقاسكِ على نحوٍ تقريبي فقط، لذا لست متأكدًا إن كان سيُناسبك.”
ثم أخرج الفستان من الصندوق ورفعه أمامها، يقيس بعينيه بينه وبين جسدها، مائلًا رأسه قليلًا كما لو كان فنانًا يتفحص لوحةً أنجزها.
قال أخيرًا بابتسامةٍ خفيفة:
“يبدو أنه مناسب تمامًا.”
سألته أغات بخجل:
“هل… تعتقد ذلك فعلًا؟”
أومأت بخفة وهي تبتسم، ثم أضافت في نفسها بصمتٍ:
حتى لو لم يكن مناسبًا، فسأجعله يناسبني، بأي طريقةٍ كانت.
التعليقات لهذا الفصل " 20"