أغات أومأت برأسها. لم يكن بوسعها أن تخفي اضطرابها الداخلي عنه بعد الآن.
كان آشلي بارد الطباع في العادة، عقلانيًّا إلى حد القسوة، لكنه عندما يتعلق الأمر بها لم يكن يتجاهل حتى أصغر التفاصيل.
لقد كانت طباعه الدقيقة والمثابرة أحد الأسباب التي ساعدت جسدها على التعافي بسرعة — وهي كانت تدرك ذلك جيدًا.
لذلك شرحت له بهدوء حتى لا يسيء فهمها.
“لا أظن أنني كنت يومًا سعيدة كما أنا الآن.”
كانت متأكدة أن ماضيها لم يعرف دفئًا كهذا.
ربما لم تتلقَّ في حياتها حبًّا حقيقيًا من أحد، ولم تشعر من قبل بتلك العاطفة المليئة بالضوء.
لم تكن تتذكر تفاصيل ماضيها بوضوح، لكن ما كانت تشعر به في جسدها لم يكن لينًا ولا دافئًا كأشعة الشمس.
كان مظلمًا، باردًا، مثقّلًا بالظلال واليأس.
ربما لهذا السبب شعرت أن هذه اللحظة الحالية ثمينة إلى هذا الحد.
“من الآن فصاعدًا، ستظلين سعيدة يا آنسة أغات. فلا تقلقي.”
قال ذلك وهو يمد يده ليمسح على شعرها بلطف.
تسللت خصلات شعرها الناعمة بين أصابعه الكبيرة، ثم انسابَت برقةٍ على كفه.
الملمس الناعم جعل أنفاسه ترتجف من جديد.
أراد أن يقبّلها… لا، أراد أن يُقبّل جسدها بأكمله.
عضَّ على أسنانه بقوة، وأجبر نفسه على سحب يده عن رأسها.
ثم نظر إليها مباشرة وقال بصوتٍ ثابتٍ:
“سيكون عليّ الانتقال إلى السكن العسكري بعد يومين. ولذلك أردت أن أقول…”
توقف للحظة، ناظرًا إليها بثبات.
لم تكن أغات تعرف تمامًا ما الذي سيقوله، لكنها شعرت أنه أمرٌ يخصّها بشكلٍ مباشر.
“ما رأيكِ أن تأتي معي إلى السكن؟”
“مـ… معي أنا؟”
“نعم. أريدك أن تأتي وتعيشين معي هناك، في السكن العسكري.”
رمشت بعينيها غير مصدقة.
كان عرضه واضحًا — أن تعيش معه في السكن الرسمي، رغم أنهما لم يكونا متزوجين.
لكنها لم تستطع أن تفهم بوضوح لماذا يقول ذلك الآن.
وكأنه قرأ حيرتها، فأضاف:
“يبدو أنكِ مرتبكة. السكن أوسع وأكثر راحة من خيمة المستشفى الميداني، وسيكون مناسبًا لتتعافي تمامًا. وإن كان الأمر يثقل عليكِ، يمكنك البقاء هناك لمدة شهر فقط، إلى أن يرسل الطبيب التقرير الرسمي ويصله الرد.”
شرح كلامه بهدوء.
“بعد شهر، إن لم يكن المكان مريحًا لكِ، يمكنك الانتقال إلى السكن الذي سيحدده الطبيب لك.”
ظلت أغات صامتة.
لم تكن قلقة بشأن حجم السكن، بل بشأن ما سيقوله الناس.
حتى لو كانا مرتبطين عاطفيًا، فإن عيش رجلٍ وامرأةٍ غير متزوجين في السكن العسكري نفسه كان كفيلًا بإثارة الشبهات.
خصوصًا أن ذلك المكان لم يكن ملكية خاصة، بل تابعًا للجيش، ما يعني أن الشائعات ستنتشر بسرعة.
قال آشلي بنبرةٍ هادئة:
“بالقرب من السكن توجد العيادة العسكرية، ومكتبة صغيرة أيضًا. وإن خرجتِ قليلًا، فستجدين البلدة ومركزها التجاري، لن تشعري بالملل هناك.”
لكن مع مرور اللحظات وصمتها الطويل، بدأ يشعر بالتوتر.
لقد اتخذ قراره بالانتقال إلى السكن قبل أسبوع، لكنه أخبرها بالأمر اليوم فقط، بعد كثيرٍ من التردد.
كان يتساءل: هل فعل الصواب بعرضه هذا؟
ماذا لو رفضت؟ ماذا لو رأت في الأمر جرأةً أو تطفّلًا؟
وبينما كان يفكر بذلك، تذكّر أن “هاوت” عرض مساعدتها في إيجاد سكنٍ آخر.
أدرك أنها كانت تستطيع الاعتماد على غيره — لم تكن بحاجةٍ إليه.
شعر عندها بندمٍ مؤلمٍ، ندمٍ جعله يضيق صدره.
لو كان تحدث من البداية، لما وصل به الأمر إلى هذه اللحظة المليئة بالقلق.
لما جعلها تدمع تأثرًا من مجرد اهتمامٍ بسيط.
ولما شعر هو بهذا القدر من الارتباك والضعف.
ثم قال، بصوتٍ منخفضٍ لكنه واضح:
“هل يعني هذا أنكِ لا ترغبين في الذهاب معي إلى السكن؟”
لم يرد أن تطول فترة الصمت أكثر من ذلك.
كان يعلم أنها على الأرجح لن ترفض، لكنها بحاجةٍ لأن ترى في عينيه صدق الرغبة، وأن تفهم أنه يطلبها بصدقٍ وحنين.
إذا جمعت بين الإصرار والرجاء، فلن تستطيع أن تقول لا.
فأجابته أخيرًا، بصوتٍ خافتٍ متردد:
“لـ… لا، ليس هذا ما أقصده.”
“تقولين إن الأمر ليس كذلك، لكن لماذا لا تجيبين إذًا؟”
قالها وهو يمسك بذقنها بخفة، كأنه يجبرها على النظر إليه.
رفعت أغاث عينيها ببطء، وقد أغمضتهما للحظة تحت لمسته.
“تحدثي… ما الذي يقلقك؟”
“……”
“إن لم تكوني ترغبين في الابتعاد عني، فعليك أن تجيبي الآن.”
لكنها بقيت صامتة، وكأنها قررت أن تعذبه قليلًا بصمتها.
ومع ذلك، كانت تعلم أن صمتها الطويل يعني شيئًا واحدًا فقط —
أنها لا تريد الذهاب معه إلى السكن.
فقال آشلي بنبرةٍ منخفضة، لكن حازمة:
“أغات.”
تنفست بعمق ثم قالت أخيرًا:
“إن ذهبتُ معك إلى السكن، فسوف تنتشر شائعات سيئة.”
لم تكن تلك الإجابة التي توقعها، لكنها على الأقل كانت صادقة.
ورغم ذلك، لم يظهر على وجهه أي اضطراب.
قال بهدوءٍ وثبات:
“لا تهتمي بما يقوله الناس. المهم أن تكوني في مكانٍ مريحٍ يساعدك على الشفاء. أليس كذلك؟”
قالها بهدوءٍ وهو يراقب ملامح وجهها المتوترة.
لكن الحقيقة كانت أن ما أقلقها لم يكن كلام الناس —
بل فكرة أن تعيش معه تحت سقفٍ واحد، أن تراه كل يوم، وأن يراها كل صباح.
لكنها لم تجرؤ على قول ذلك.
“أرجوك، أعطني بعض الوقت لأفكر.”
“سأمنحكِ ساعة واحدة.”
“هـ… هذا قليل جدًا!”
“إذًا ساعتان.”
قالها بابتسامةٍ صغيرة كأنه يمنّ عليها، لكن أغات هزت رأسها.
“حتى ساعتان لا تكفيان… أحتاج يومًا كاملًا.”
“حسنًا، يومٌ إذًا.”
لم يضغط عليها أكثر، وكأنه كان يتوقع منها هذا الجواب منذ البداية.
فهو لم يذكر الساعة والساعتين إلا ليبدو متساهلًا عندما يمنحها اليوم بأكمله.
ثم نهض من مكانه وقال ببساطة:
“سأذهب الآن.”
وحين وصل إلى الباب، استدار ونظر إليها.
“أراكِ غدًا.”
قالها بهدوءٍ قبل أن ينحني ويطبع قبلة خفيفة على جبينها.
ثم غادر الغرفة بهدوء، تاركًا خلفه دفئًا في المكان.
وضعت أغات يدها على جبينها، حيث ما زالت حرارة شفتيه عالقة على بشرتها.
وجهها احمرّ قليلًا وهي تهمس في نفسها:
“لقد كسبت يومًا من الوقت… لكن ماذا أفعل الآن؟”
حتى وإن كانا متحابين، فإن عيش رجلٍ وامرأةٍ غير متزوجين تحت سقفٍ واحد
كان قرارًا يحتاج إلى تفكيرٍ عميق.
هي مجرد ممرضةٍ بسيطة من عامة الناس، أما هو فنبيلٌ وضابطٌ في الجيش.
أن يعيشا معًا في السكن العسكري؟
سيأكلان معًا، وسيقضيان أوقات المساء معًا…
وربما — ربما حتى ينامان في المكان نفسه.
ارتبكت من مجرد الفكرة.
ربما كانت أفكارها متسرعة، لكنها لم تستطع كبح خيالها.
أما هو، فبدا صادقًا، لا تحركه الرغبة بل النية الطيبة —
كل ما أراده هو أن يؤمن لها مكانًا آمنًا ومريحًا للراحة والعلاج.
لهذا حاولت أن تقنع نفسها بأن لا شيء يستدعي القلق.
لكن رغم ذلك، ظل في أعماقها شيء صغير، غامض،
يبعث فيها شعورًا خفيفًا بالريبة والخوف الذي لم تفهم سببه.
ربما لأن فكرة أن تعيش مع رجلٍ مثل آشلي — رجلٍ نبيلٍ بهذا الجمال والهيبة —
بدت أقرب إلى الحلم منها إلى الواقع.
ابتسمت بمرارةٍ وهي تهمس في نفسها:
“ربما لهذا السبب فقط… أشعر بهذا الاضطراب.”
✦✦✦
في صباح اليوم التالي، جاء آشلي بنفسه إلى مسكنها.
لم تكن قد غسلت وجهها بعد، فتفاجأت عندما رأته يقف أمام بابها.
“الـ… سيدي القائد؟”
ابتسم بخفة وقال:
“يبدو أنني جئت باكرًا أكثر من اللازم.”
“لا، لا أبداً. أنت مرحبٌ بك دائمًا.”
حاولت إخفاء ارتباكها بابتسامةٍ مهذبة.
كعادته، كان قد استيقظ في الرابعة والنصف صباحًا.
قضى بضع ساعاتٍ في وحدته العسكرية الباردة، وحين دقت الساعة السابعة،
ترك الصحيفة جانبًا وغادر غرفته متجهًا نحوها بخطواتٍ هادئة، لا سريعة ولا بطيئة.
عندما دخل غرفتها، بادرت بإحضار كرسيٍّ له لتدعوه للجلوس.
“كنتُ في طريقي إلى غرفتك أصلًا، سيدي.”
ابتسمت ابتسامةً خفيفة وجلست على طرف السرير لتواجهه.
فقال آشلي بهدوءٍ ودفءٍ نادر في صوته:
“أغات… شكرًا لك.”
“شكرًا؟ على ماذا بالضبط؟”
ابتسم وقال بثقةٍ خفيفة:
“وكيف لي ألا أعرف؟”
لقد كان يعرفها جيدًا —
من تعابير وجهها، ومن طريقة تنفسها، كان يستطيع أن يخمن ما تفكر فيه دون أن تنطق.
كان يؤمن أنها وافقت، ومع ذلك، لم يكن مطمئنًا بالكامل.
كانت طلبت منه يومًا واحدًا للتفكير، لكن في عينيها كان لا يزال يقرأ التردد.
هل السبب حقًا الخوف من الشائعات؟
أم أن هناك شيئًا آخر تخفيه عنه؟
مهما كان السبب، فهو لم يعجبه أن يراها مترددة.
لهذا السبب تحديدًا، جاء إليها في الصباح الباكر بنفسه.
التعليقات لهذا الفصل " 19"