-اعتقد أننا كنا عاشقين (8)-
“هل كنا نخرج في نزهاتٍ كثيرًا؟”
سألَت أغات بهدوء، فبادلها آشلي السؤال بصوتٍ منخفض:
“برأيكِ، هل كنا نفعل ذلك؟”
“آه… عندما تسألني بهذه الطريقة…”
تلعثمت أغات، وأسقطت عينيها إلى الأرض، كأنها تعترف بأنها لا تعرف الجواب حقًا.
“لقد تمشَّينا مرةً واحدة فقط.”
قالها الرجل وهو يسترجع الذكرى بصوتٍ مبحوح، ناظرًا إلى البعيد كأنه يرى مشهدًا غاب عنه الزمن.
لم تستطع أغات أن ترى وجهه تمامًا، لكنها شعرت بأنه كان يتأمل تلك اللحظة بصدق.
أما هي، فكانت تجهل تلك الذكرى تمامًا.
شعرت بالأسف نحوه، وبالخجل من نفسها.
“كيف فقدتُ ذاكرتي أصلًا؟”
“لقد أُصبتِ بالرصاص وأنتِ تحاولين إنقاذي، يا آنسة أغات. تأذى كتفكِ حينها، ومن صدمة ذلك الموقف فقدتِ ذاكرتك أيضًا.”
التفت إليها آشلي، وعيناه الزرقاوان تظلمان بعمقٍ حزين.
“لو لم تحاولي إنقاذي، لما تأذيتِ، ولا فقدتِ ذاكرتك.”
تابع بصوتٍ خافتٍ كأنه يختنق:
“آسف… لأنني تسببت لكِ بالألم.”
“ليست غلطتك يا سيدي النقيب.”
“بل هي غلطتي.”
قالها بصوتٍ مثقلٍ بالذنب، وكأن كل ما حدث لها كان بسببه.
شعرت أغات بوخزةٍ في قلبها.
أرادت أن تطمئنه، أن تحتويه، أن تُخرجه من عذاب الضمير الذي لا يستحقه.
فمدت يدها لتلامس يده الكبيرة، تمرر أصابعها برفقٍ على راحته، ثم أمسكت بها بخفة.
“لم ترتكب أي خطأ، يا سيدي النقيب.”
أيُّ عاشقٍ يستطيع أن يقف مكتوف اليدين حين يرى من يحبّه يُصاب بالرصاص أمامه؟ لا أحد.
اغرورقت عينا أغات بالدموع، وهي تفكر كم كان قلقًا ومعذبًا طوال الوقت بسببها.
“أعلم أننا كنا حبيبَين… لكنني أدركتُ ذلك متأخرة. أنا آسفة.”
“تذكّرتِ؟”
سألها بدهشةٍ ممزوجة بالحذر.
“نعم، تذكرت.”
لم تكن ذاكرةً كاملة، لكنها كما قال، ذاكرةٌ استيقظت من تلقاء نفسها.
كانت مشوشة، مغطاةً بضبابٍ خفيف، لكنها شعرت بها بوضوح.
تذكّرت الشجرة الكبيرة، كم كانت مألوفة.
رأت نفسها تسير بجانبه هناك، يتحدثان وهما متكئان على جذعها، يتبادلان النظرات والكلمات.
سألها آشلي من جديد بنبرةٍ جادة:
“هل تقولين إن ذاكرتكِ عادت حقًّا؟”
كانت عيناه تتفحصانها بدقة، كأنه يبحث في وجهها عن صدقٍ أو كذب.
ظلّ صامتًا، مركزًا بكل جوارحه على كلماتها التالية.
“ذاكرتي لم تعد بعد. لكن قلبي… قلبي يذكر جيدًا كم كنتُ أحبك.”
لم يكن في وسعها إخفاء مشاعرها نحوه، تمامًا كما لم يستطع هو أن يخفي اضطرابه عنها رغم تظاهره بالهدوء.
تذكرت كلماته السابقة:
“حين تستعيدين ذاكرتك، كيف ستنظرين إليّ؟”
حين قالها كان غاضبًا.
غاضبًا لأنها، وقد فقدت ذاكرتها، استقبلت رجلًا آخر بابتسامةٍ دافئة، بينما كان هو، حبيبها الحقيقي، واقفًا يراقب.
حتى إنه في النهاية انتزع من يدها باقة الزهور التي كانت تحملها، ساخرًا ومجروحًا في آنٍ واحد.
“أدركتُ كل شيء متأخرًا… أنا آسفة.”
قالت أغات وهي تغمر وجهها في ذراعه، تبكي بحرقة.
كان وجهها الصغير يدفن نفسه في عضده القوي، وعيناها تذرفان الدموع بحرارةٍ لا تتوقف.
أما آشلي، فكان يتفاعل مع المشهد كما لو كان ممثلًا متمرسًا في أداء دوره.
لكن قلبه، في تلك اللحظة، لم يكن يمثل.
كانت المرأة التي أحبها حقًّا قد عادت إليه.
تذكره، تبكي من أجله، وتلمس جلده بارتجافٍ صادقٍ لا يُزيف.
الدموع على ذراعه، الكلمات المبللة بالأسف، دفعت حرارةً غريبة إلى صدره.
شعر بشيءٍ يشبه النشوة.
نعم… كان هذا الدور، دور الحبيب، ملكًا له منذ البداية.
قد سُلب منه لسببٍ ما، لكنه عاد إليه الآن.
ومع هذا الشعور المفعم بالرضا، قال بصوتٍ دافئٍ ومهيمن:
“تعالي إلى هنا.”
أحاط خصرها بذراعه اليمنى، ومسح بيده الأخرى الدموع عن وجهها المتسخ بالدموع.
“كنتِ تبكين كثيرًا، يا آنسة أغات.”
قالها وهو يبتسم بخفة، يملأ عينيه الزرقاوين بها.
تحدّثت إليه بنظرةٍ مأخوذة، كأنها مسحورة به.
“أحسنتِ. هكذا تمامًا… تابعي النظر إليّ بهذه الطريقة، حسنًا؟ تستطيعين فعل ذلك، أليس كذلك؟”
“بالطبع.”
قالت أغات بصوتٍ خافت وهي تُخفض عينيها بخجل.
فرفع آشلي ذقنها بيده، وأجبرها على النظر في عينيه.
“تقولين شيئًا وتفعلين شيئًا آخر.”
“ليس كذلك… أنا فقط…”
“لأن المسافة بيني وبينك… قريبة جدًا.”
لم تستطع أغات أن تُكمل جملتها، فارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ خفيفة.
رفع إبهامه العريض، ومسّ برفقٍ شفتها السفلى، ضاغطًا قليلًا على الفتحة بينها.
“سيدي النقيب…؟”
“أنتِ جميلة.”
“……!”
توقف الزمن في تلك اللحظة.
كانت عيناه مثبتتين على شفتيها، وأنفاسه الدافئة تلامس بشرتها عن قربٍ خطير.
قلب أغات بدأ يخفق بعنفٍ حتى كاد يخرج من صدرها.
كانت نظراته مركزة عليها بالكامل، كأنه يرى فيها العالم كله.
أمال رأسه قليلًا إلى جانبٍ واحد، واقترب أكثر فأكثر.
كانت الحرارة تتصاعد بينهما، تمتزج أنفاسهما، وتشتعل المسافة الضيقة التي تفصل جسديهما.
ثم همس، وكأنه يعترف بخطيئةٍ أو بسرٍ دفين:
“إنها المرة الأولى.”
“ماذا؟”
لم يُكمل.
لم يقل ما الذي يقصده بـ “الأولى”.
لكن شفتيه كانتا قريبتين جدًا، تلامسانها دون أن تلتصقا تمامًا.
أنفاسه الثقيلة كانت تتسلل إلى فمها قبل أن يلمسها.
أغمضت أغات عينيها، واستسلمت له.
حين التقت شفتاهما، كان ملمسهما رطبًا، ناعمًا، مفعمًا بالحذر.
قبّلها كما لو كانت شيئًا هشًّا يخشى أن ينكسر، يطوف داخل فمها ببطءٍ لطيفٍ ودفءٍ متأنٍ.
اختلطت أنفاسهما معاً.
ثم رفع يديه ليحتوي وجهها بالكامل بين كفّيه.
فتحت عينيها ببطءٍ.
مرّر إبهامه مجددًا على حافة فمها، يمسح بعنايةٍ وحنان.
تذكّرت عندها كلماته السابقة — “إنها المرة الأولى.”
أمالت رأسها بخفة.
هل كان يقصد أن هذه أول مرةٍ يقبّل فيها امرأة؟
لا يمكن… لا يعقل.
قبلةٌ بهذا العمق، بهذه الحرارة، لا يمكن أن تكون “الأولى”.
لكنها لم تستطع أن تسأله.
كانت عيناه، وهما تتأملانها، تومضان بحرارةٍ وشيءٍ يشبه الخوف.
وفجأةً، دون إنذار، عاد إليها.
قبّلها ثانيةً، وهذه المرة كان الأمر مختلفًا تمامًا.
قبلةٌ عميقة، كثيفة، أطاحت بكل ما تبقّى من توازنها.
اختفت أنفاسها، احترق جسدها، وشعرت بأنها تذوب في صدره.
كانت شفتاه كالنار، تحرقانها برفقٍ ثم تُنعشانها بنسمةٍ من هواءٍ دافئ.
وحين رفعت يديها بخفةٍ لتدفع كتفيه، انتهى كل شيء.
تراجع هو، يلهث بشدة.
حركة تفاحة آدم في عنقه كانت واضحة وهو يحاول أن يضبط أنفاسه المضطربة.
كانت عيناه الزرقاوان لا تزالان عالقتين بشفتيها المنتفختين من أثر القبلة.
زفر بعمقٍ، ثم أغمض عينيه بقوة، كمن يلوم نفسه.
وحين فتحهما مجددًا، كان وجهه جامدًا، متصلب الملامح.
تساءلت أغات في سرّها — هل ندم؟
هل توقف لأن شيئًا ما بدا له خطأ؟
كانت تريد أن تسأله إن كان بخير، لكنه سبقها بالكلام.
“آسف.”
قالها بصوتٍ منخفضٍ وهو يُخفض رأسه في خضوعٍ صادق.
لكن أغات لم تفهم ما الذي يعتذر عنه.
لماذا الأسف؟ عن أي شيءٍ يتحدث؟
شعرت بالذعر، وكأن اعتذاره نذير فقدانٍ وشيك.
بدت نظراته كمن يريد أن ينسحب من حياتها، أن يمحو ما حدث للتوّ.
فقالت، بصوتٍ مرتجفٍ لكنه حازم:
“أنا من أراد ذلك… لا داعي لأن تعتذر يا سيدي النقيب.”
ضغطت على مشاعرها المتفجرة في صدرها، ثم وقفت بسرعة.
أدارت ظهرها، وبدأت تمشي بخطواتٍ سريعةٍ نحو خيمة المستشفى الميداني.
لكن قبل أن تبتعد كثيرًا، امتدت يدٌ قويةٌ وأمسكت بمعصمها.
“أغات.”
همس باسمها بصوتٍ متقطعٍ من أثر اللهاث.
التفتت نحوه بعينين ممتلئتين بالدموع والغضب، وانتزعت يدها بعنف.
“لماذا تفعل هذا بي؟”
كانت عيناها تصرخان بما لم تستطع قوله بصوتٍ عالٍ —
لماذا تقبّلني بهذا الدفء ثم تعتذر؟
كيف يمكن أن تكون حنونًا إلى هذا الحدّ ثم قاسيًا في اللحظة التالية؟
قال بهدوءٍ متوتر:
“أعلم أن ذاكرتكِ لم تعد بالكامل.”
“إن كنتَ ستتحدث عن الذاكرة مرةً أخرى، فالرجاء… كفّ عن ذلك.”
انفجرت كلماته في وجهه.
كانت متعبة من تلك الحجة، من تكرار عذر الذاكرة وكأن مشاعرها الحاضرة لا تعني شيئًا.
لم تكن تحتاج إلى ذكرياتٍ واضحة لتعرف ما تشعر به نحوه.
الذكريات ليست دائمًا صورًا أو مشاهد محفورة.
أحيانًا، هي إحساس… دفء المكان، رعشة اللمسة، أو رائحة الهواء في لحظةٍ ما.
وهي، في تلك اللحظة، كانت تعيش ذكرىً جديدةً تمامًا — لكنها حقيقية.
ومع ذلك، أراد هو أن يجعل ما حدث يبدو وكأنه خطأ.
أراد أن يختبئ وراء كلمة “الذاكرة”.
“ما حدث بيننا اليوم… لم يكن شيئًا.”
قالت ببرود، ثم استدارت بعنفٍ مغادرة.
“توقفي.”
جاء صوته خلفها، مكبوتًا، كأنه يقاوم شيئًا داخله.
لكنها لم تتوقف.
لم ترد أن تسمع شيئًا بعد.
“لا تذهبي.”
وفي لحظةٍ خاطفة، أحاط خصرها من الخلف، وجذبها إلى صدره بقوة.
سقطت أنفاسها في صمته، وسمعت دقات قلبه العنيفة تطرق ظهرها.
“أتراجع عن اعتذاري.”
لم تجبه.
“أرجوك، لا تغضبي. كنت متهورًا… فقط متهورًا.”
دفن وجهه في كتفها، صوته يختنق قرب أذنها.
أما هي، فلم تكن تريد منه أن يعتذر أو يعترف بالخطأ.
كانت فقط حزينة…
منزعجة لأنها شعرت، للحظةٍ واحدة، أنه ربما ندم على حبها.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 17"