عندما دخل ذلك الرجل الغريب، شدَّت أغات كتفيها وحدّقت فيه بتوتر.
كان ضابطًا يرتدي زيّ الجيش الإمبراطوري، فظنّت أنه جاء لمقابلة النقيب آشلي، لا أكثر. لذلك حاولت أن تُهدّئ نفسها.
قال بابتسامة مهذبة:
“الممرضة ناتالي، سعيد برؤيتك بعد زمن.”
ارتبكت أغات وأشارت إلى نفسها:
“أأنتَ هنا من أجلي؟”
رفع الرجل حاجبيه بابتسامة ودودة وأومأ برأسه إيجابًا، ثم تابع بلطف:
“عذرًا لتأخري في التعريف بنفسي. أنا داميان دنفر، ملازم في الجيش. كنتُ مريضًا هنا في المستشفى الميداني قبل ثلاثة أشهر.”
“أهلًا بك.”
بدا أنه يعرف مسبقًا حالتها الصحية، وكأنه سمع عنها من أحد قبل أن يصعد إلى الغرفة.
قالت أغات بخجل:
“لقد فقدت ذاكرتي بسبب الحادث.”
“نعم، سمعت بذلك. هل كتفك بخير الآن؟”
“ما زال يؤلمني قليلًا، لكن أعتقد أنه سيلتئم قريبًا.”
ابتسم داميان بلطف وقال:
“أتمنى لكِ الشفاء العاجل.”
كان يتحدث بصدق واهتمام، وكأن إصابتها تخصّه شخصيًا.
لكن أغات لم تتذكره على الإطلاق، رغم أنها شعرت بنوعٍ من الألفة نحوه، إحساس غامض جعلها تنظر إليه مطولًا.
ابتسم الرجل بحرج وقال:
“أه، هل أنظر بهذا الشكل الغريب؟”
هزّت رأسها بسرعة:
“لا، لا، فقط… وجهك يبدو لي مألوفًا بشكلٍ غامض…”
“هل تتذكرينني؟”
“ليس تمامًا، لكن… شيء فيك مألوف.”
كان شعره البنيّ وعيناه الرماديتان تتحركان في ذاكرتها المبعثرة مثل صور ضبابية تطفو في عمق وعيها. حتى طريقته في الكلام ولهجته الريفية بدت كأنها مألوفة من مكانٍ ما.
لم تتذكر الظروف أو الحوارات، لكنها أدركت في داخلها أنهما كانا يعرفان بعضهما فعلًا.
قال داميان بامتنان عميق:
“يشرفني أنكِ تتذكرينني ولو قليلًا.”
ابتسمت أغات بخجل، محاولة مجاملة الرجل الذي يبدو سعيدًا فقط لكونها لم تنسه تمامًا.
لكن فجأة،
انفتح باب الغرفة بعنفٍ شديد حتى كاد يتحطم.
دخل آشلي.
توقفت أغات عن الكلام وحدّقت به. كان وجهه متصلبًا، وعيناه باردتين على غير العادة.
التفت داميان بدوره نحو الباب، فالتقت نظراتهما.
قال آشلي بصوتٍ هادئٍ، متماسكٍ على غير ما توحي به ملامحه الغاضبة:
“كان لدينا ضيف إذًا.”
أجاب داميان بتحيةٍ عسكريةٍ رسمية:
“الملازم داميان دنفر، يشرفني لقاؤك، سيدي النقيب.”
مدّ آشلي يده مصافحًا:
“آشلي غلوستر.”
صافحه داميان بقوة، وابتسم الاثنان بفتورٍ لبضع ثوانٍ قبل أن يتركا أيدي بعضهما.
ثم التفت داميان إلى أغات، عازمًا على قول ما جاء من أجله:
“ربما لا تتذكرين، لكنني قلت لكِ ذات مرة إنني سأعود لأراكِ بعد أن أُنهي مهمتي.”
“آه… نعم…”
كانت تتذكر شيئًا غامضًا — ذلك الرجل الذي وعد بالعودة ليبوح بمشاعره لها.
لكنها الآن لا تتذكره إلا كظلّ باهت في رأسها، بينما آشلي يقف في الخلف يراقب بصمت.
“كنتُ أود أن أقول…” تابع داميان، صوته يزداد خفوتًا،
“كنت أود أن أعبّر لكِ عمّا في قلبي عندما أراك مجددًا. لكن علمت أنكِ فقدتِ ذاكرتك.”
حين قال الطبيب إن لديها بعض الذكريات الباهتة عنه، خفق قلبه بفرحٍ صغير، لكن هذا الفرح تحطم لحظة دخول آشلي غلوستر — الضابط الشهير من جيش الإمبراطورية.
مدّ داميان يده وقدّم لها باقة من الزهور الصغيرة الملفوفة بورق ورديّ لطيف.
“أتمنى لكِ الشفاء التام… وأن تستعيدي ذكرياتك الثمينة.”
احمرّ وجه أغات خجلًا وهي تأخذ الزهور بيدها اليسرى.
“شكرًا لك، أيها الملازم داميان.”
قال داميان بنبرةٍ امتنانٍ صادقة:
“لن أنسى فضلكِ ما حييت. لقد كنتِ منقذتي عندما كنتُ على وشك فقدان نفسي.”
تذكر الأيام التي كان فيها محطمًا، يائسًا بعد أن نجا وحده من مهمةٍ مميتة.
كانت تلك الممرضة الصغيرة هي من أنقذته من نفسه.
صرخت فيه، وبّخته، وأجبرته على تناول الدواء بنفسها — وضعت الحبوب في فمه وتأكدت من أنه ابتلعها.
قالت له يومها: “عُدْ قويًا… اجعل موت رفاقك لا يذهب سُدى.”
ومنذ ذلك اليوم، التزم بوعده.
تعافى تمامًا، وعاد إلى الخدمة العسكرية، فترقى من رتبة ملازم ثانٍ إلى ملازم أول، وأُسندت إليه مهمة جديدة.
وفي طريقه إلى الجبهة التالية، توقف هنا قليلًا — فقط ليراها مجددًا.
“إن لم يكن في ذلك إزعاج… هل يمكن أن تمشي معي قليلًا في ساحة المستشفى فقط؟”
“الساحة الأمامية؟”
كان طلبًا بسيطًا، لكن أغات شعرت بالهواء من حولها يثقل.
فخلف داميان، كان آشلي واقفًا كظلٍ مظلمٍ، نظراته حادة كالسكين، وملامحه صارمة أكثر من أي وقتٍ مضى.
لم تره بهذا الشكل من قبل.
نظرت إليه خلسةً، تبحث عن أي إشارة — لو كان بينهما ما ظنّت، لكان الآن الوقت المناسب ليمنعها من الذهاب.
لكنه لم يقل شيئًا. لم يتحرك. فقط شدّ فكه وأبقاه مغلقًا بإحكام.
حينها، فهمت أغات الحقيقة كاملة.
لم يكونا حبيبين. لم يكن بينهما شيء. كل ذلك كان مجرد وهم.
ابتسمت بلطف وقالت لداميان:
“حسنًا، سأرافقك حتى الساحة الأمامية.”
عندما وافقت أغاث على طلبه بابتسامة، مدّ ديميـان ذراعه بسرور،
فوضعت أغاث يدها على ذراعه دون تردد.
وضعت باقة الزهور التي أهداها لها على الطاولة الصغيرة، ثم سارت نحو الباب.
“الرجاء الانتظار لحظة.”
صدر الصوت العميق من آشلي. أخرج من الخزانة سترة رجالية ووضعها على كتفيها.
“ارتديها من فضلك.”
“أنا بخير، لا داعي لذلك.”
“ما زلتِ لم تتعافي تمامًا، والتعرض للهواء البارد ليس جيدًا لك.”
عند كلماته المخلصة، انحنت أغاث بخفة شاكرة، وغادرت غرفة المريض برفقة ديميـان.
✦✦✦
“آمل ألا أكون قد أزعجتكِ بطلب غير ضروري، وأنتِ لم تتعافي بعد.”
“على العكس، كنت أشعر بالاختناق في الغرفة، لذا سررتُ بالخروج قليلًا.”
كانت كتفها اليمنى لا تزال تؤلمها قليلًا، لكنها لم تجد صعوبة في المشي.
وربما يساعدها المشي قليلًا قبل أن تشتد الحرارة على التحسن.
“هل لي أن أسألك عن علاقتكِ بالكابتن غلوستر؟”
عندما طرح سؤاله الحذر، أجابت أغاث بهدوء:
“يقال إنني كنتُ ممرضة مخصصة له كمريض. ويُقال إننا تعرضنا لهجوم قنّاص أثناء انتقالنا بين المستشفيات العسكرية، لكني لا أتذكر شيئًا.”
“أفهِم.”
ابتسم ديميـان بخفة، مرتاحًا بعد أن كان قلقًا من احتمال وجود علاقة عاطفية بينهما.
ربما كان الكابتن غلوستر يفكر بطريقة مختلفة، لكنه لم يجد داعيًا لذكر ذلك.
“بعد هذه المهمة، أنوي التقاعد.”
هزّت أغاث رأسها تأييدًا لكلامه.
“حين غادرتُ المستشفى الميداني، قلتُ لكِ شيئًا يا الآنسة ناتالي.”
“هاه؟”
توقف ديميـان عن المشي واستدار نحوها، وأخرج ما كان يخفيه في قلبه بهدوء.
“……”
حبست أغاث أنفاسها، إذ أثارت نبرة صوته في داخلها ذكرى خافتة تتحرك في أعماقها.
آه… وفجأة شهقت بخفوت.
إذن لم يكن هو الكابتن غلوستر.
لقد كانت طوال الوقت تشعر بعدم الارتياح في وجوده، وكأن بينهما ستارًا خفيًا يمنعها من الاقتراب.
والآن أدركت السبب.
لم تكن بينهما علاقة حب كما كانت تظن.
كانت مجرد وهم، جعلها تسهر الليالي متوترة، تظن أنها فقدت حبيبًا.
ربما كانت تفتقد ديميـان طوال الوقت دون أن تدري.
فمجرد وجودها معه منحها راحةً غريبة، وشوقًا قويًا لاستعادة ذاكرتها.
عندها قالت له نفس العبارة التي كانت قد قالتها لآشلي:
“هل كنتَ أنا وأنتَ… على علاقة حب؟”
“لم نكن كذلك، لكني اعترفتُ لكِ بمشاعري ذات مرة.”
“حقًا؟ أهذا صحيح؟”
“نعم، صحيح.”
أجاب ديميـان بصدق تام، دون مواربة أو غموض،
وكأنه يريدها أن تعرف أن كلماته صافية خالية من أي كذب.
“وماذا قلتُ حينها؟”
“رفضتِ اعترافي. كنتِ ترين أنني كنت متسرعًا آنذاك.”
كان ديميـان قادرًا على قول ذلك بنبرة هادئة،
لأنه في تلك اللحظة استعاد عزيمته وإيمانه بالحياة بفضلها.
خفضت أغاث بصرها وقالت بصوت خافت:
“أعتذر، لا أذكر شيئًا على الإطلاق.”
“لا بأس، بل أنا من يجب أن أعتذر. يبدو أنني سببت لكِ الارتباك.”
كانا قد نزلا درجات السلم المؤدي إلى فناء المستشفى الميداني،
وكان النسيم المسائي اللطيف يبدّد حرارة النهار ويُنعش عقل أغاث المرهق.
قال ديميـان بصوت ثابت:
“أعتقد أن إتمام مهمتي الأخيرة سيستغرق من ثلاثة إلى خمسة أشهر على الأكثر.”
“……”
“وإذا سمحتِ لي، عندما أعود… أود أن أطلب منكِ موعدًا رسميًا.
هل ستقبلين دعوتي يا الآنسة ناتالي؟”
“أتقصدني أنا؟”
“نعم، أريد أن أطلب منكِ أنتِ موعدًا.”
كان ديميـان جنديًا شجاعًا، لكنه أيضًا شابًا صادقًا يحمل في قلبه مشاعر حقيقية.
وكان طلبه للخروج معها لا يعني مجرد لقاء عابر بين رجل وامرأة،
بل وعدًا صادقًا ببدء علاقة حقيقية، بعد أن يتأكد أنه أصبح جديرًا بها.
خلال معاركه، أدرك كم كانت اعترافاته السابقة متسرعة وساذجة،
أما الآن، بعد مرور ثلاثة أشهر، فقد أراد أن يتعرف عليها من جديد…
التعليقات لهذا الفصل " 14"