كانت لمسته حنونة، وكأن في عينيه يرى الجرح نفسه، يعتني به بعناية لا متناهية.
لم تعد أغات راغبة في تجاهل اللغة التي ينقلها جسده إليها.
أمسكت بمعصمه، وأبعدت يده بلطف، ثم رفعت جفنَيها الطويلين الكثيفين لتنظر إليه مباشرة.
في عينيها الخضراوين، لم يكن هناك سوى رجلٍ واحدٍ يملأ كل المساحة.
ولم يُزِح الرجلُ عينيه عنها.
كان ينظر إليها كما لو أراد أن يبقى هكذا للأبد، متبادلين النظرات بصمتٍ راضٍ.
“هل كنا… عاشقين؟”
سألَت بصوتٍ صافٍ، نقيّ النبرة، خالٍ من أي تردد.
رمشَ آشلي ببطء.
استغرق لحظة قصيرة ليفهم السؤال، واستنشق نفسًا قصيرًا.
تحرّك حلقه من التوتر، واشتعل دمه بحرارة، فيما خفق قلبه بعنفٍ في صدره.
طال الصمت بينهما.
ثم سعلت أغات بخفة لتكسر الثواني المتجمّدة.
مرّ الوقت، لكن شفتي الرجل لم تنطقا بأي كلمة.
… لا، ربما لم يكن الأمر كذلك.
بدأ وجهها يحمرّ من جديد، إذ شعرت أنها تسرّعت، وأنها كانت تسيء الفهم مرة أخرى.
لماذا ذاكرتها فارغة إلى هذا الحد؟
تنهدت تنهيدة طويلة، غارقة في إحساسٍ بالضياع.
عندها فُتِح فم الرجل أخيرًا، بصوتٍ ناعمٍ ولطيف:
“حاولي أن تتذكّري بنفسك.”
“عفوًا؟”
“يجب أن تتذكّري يا آنسة أغات، بنفسك.”
وبنغمةٍ دافئة تشبه من يشجع طفلاً صغيرًا، مدّ يده ليمسح برفق على شعرها.
كانت حرارة عينيه، ولمسة يده الرقيقة، تقول شيئًا واحدًا واضحًا —
الحب. أو ربما علاقة أعمق من ذلك.
لكنها حاولت أن تنكر ذلك في داخلها.
“أنا أسأل فقط لأنني لا أتذكر شيئًا.”
نعم، لقد سألت لأنها كانت عاجزة تمامًا — رأسها صفحة بيضاء.
لم يكن لديها خيار سوى تصديق ما يشعر به، كما لو كانت طفلة تواجه عالماً لا تفهمه.
عضّت شفتها بخفة وأخفضت نظرها كي لا يُلاحظ أنه أصابها الحزن.
“لكن، يجب أن تتعلمي أن تكتشفي الأمور بنفسك. الاعتماد على الآخرين ليس أمرًا جيدًا.”
قالها بنغمةٍ رخية، وهو يلين نظره، كأنه يوجه حديثه إلى طفلة صغيرة.
… آه، لكن، أليست هذه الطريقة بالضبط ما يفعلها العشاق؟
أغات لم تقل تلك الفكرة بصوتٍ عالٍ، بل ابتلعتها بصمت.
“وإذا لم تعُد ذاكرتي أبدًا، ماذا سيحدث حينها؟”
“لا أدري. بصراحة… لا أعلم.”
أجاب بهدوء خالٍ من البرود أو اللامبالاة،
بل كان صوته يحمل ثِقَلًا خفيًا من الألم، كأنه رجلٌ يتألم بصمتٍ لكنه يرفض أن يظهر ذلك.
✦✦✦
الساعة التاسعة مساءً.
كان وقت نوم المرضى في المستشفى الميداني قد حان.
“يبدو أن وقت النوم قد جاء.”
قال آشلي وهو ينهض ليُطفئ مصباح الغاز المعلّق على الجدار.
وقبل أن يمد يده إليه، التفت نحو أغات.
لم يكن ما يقلقه هو ظلمة الغرفة حين يطفئ المصباح — بل شيء آخر تمامًا.
فمنذ لحظات، كان قد فرش بطانية على الأريكة، ربما ليستلقي هناك.
“عندما كنتُ في غيبوبة، هل كنت تُطفئ المصباح؟”
“لم يُطفأ المصباح ولو مرة واحدة طوال الأيام العشرة الماضية.”
“آه، فهمت.”
ربما أبقوه مضاءً لأنهم لم يعرفوا متى قد تستيقظ.
“لابد أنه كان مزعجًا. كنت أستطيع أن أكون في غرفة المرضى العادية.”
“إنها مخصصة للجنود فقط. ولم يكن من اللائق أن تستلقي آنسة مثلك بينهم.”
“لكن يا سيدي، أنت أيضًا مريض. لا أريد أن أحتل سريرك.”
“لا بأس، لم أكن منزعجًا. لا حاجة للاعتذار.”
أجابه بحزمٍ، وكأنه لا يريد إطالة الحديث في هذا الموضوع.
ثم اقترب منها بخطواتٍ بطيئة.
“لا تبقي جالسة، استلقي الآن.”
“حسنًا، سأفعل.”
وما إن أراحت رأسها على الوسادة، حتى رفع آشلي الغطاء حتى صدرها برفق.
كانت لمساته حنونة إلى درجة أن وجهها احمرّ دفعة واحدة.
وربما أدرك هو ذلك — أو ربما لم يفعل.
لكنه قال بصوتٍ دافئٍ منخفض:
“سأطفئ المصباح الآن. إن شعرتِ بأي ضيق أثناء الليل، أيقظيني، حسنًا؟”
كانت تلك طريقته اللطيفة في القول: إن احتجتِ إلى الماء، أو أردتِ الذهاب إلى دورة المياه، فقط ناديني.
كانت أغات تشعر بالنعاس منذ العشاء، لذا لم تتوقع أن تستيقظ خلال الليل، لكنها أجابت بأدبٍ هادئ:
“نعم.”
“تصبحين على خير.”
كان يتحدث بصوت منخفض وعميق وهو ينظر إلى أغات من الأعلى.
ارتجف قلب أغات بسرعة. قبل لحظات فقط، كانت جفونها تُغلق ببطء، لكن فجأة أصبحت عيناها مفتوحتين تمامًا، وكأن النوم فرّ منها.
أغمضت عينيها متمنية ألّا تظهر ملامح وجهها ما تشعر به من اضطراب، لكنها استطاعت أن تحس أنه لم يغادر مكانه، بل ما زال يراقبها.
قبضت على يديها تحت الغطاء بإحكام، محاوِلة ألّا تفتح عينيها.
ثم سُمعت خطواته وهو يبتعد.
خطوات ثابتة تتجه نحو الحائط حيث كانت المصابيح الغازية مُثبتة.
“طَقّ.”
حلَّ الظلام في المكان.
فتحت أغات جفنَيها ببطء.
في العتمة، رأت الرجل يسير نحو الأريكة. كان الظلام كثيفًا، ومع ذلك لم يصطدم بشيء، مما أثار دهشتها.
ثم سمعت صوت جسده الكبير وهو يتمدد فوق الأريكة.
(يا إلهي، ماذا أفعل الآن؟)
قلبها ينبض بعنف، وصدرها يرتفع ويهبط بسرعة.
كانت هذه المرة الأولى التي تنام فيها في نفس الغرفة مع رجل. حتى لو قيل إنها أمضت عشرة أيام بجانبه، فهي لا تتذكر شيئًا من ذلك، وكأنه لم يحدث.
مجرد التفكير بوجوده هناك جعل النوم يهرب منها تمامًا.
(يجب أن أنام…)
لكنها لم تستطع. وكلما مضى الوقت، ازداد وعيها يقظة.
بعد فترة، وبينما كانت تتقلب عاجزة عن النوم، استمعت إلى صوت أنفاسه.
كان تنفسه عميقًا ومنتظمًا.
(هل نام فعلًا؟)
(كيف يستطيع أن ينام بهذه السهولة؟ امرأة بجانبه وهو بكل برود ينام!)
تنهدت أغات بخفة، شاعرة أنها الوحيدة التي تضطرب وتتوتر. ربما بسبب صوت أنفاسه الهادئ، أو بسبب إحساسها بأنها تبالغ في رد فعلها، بدأت جفونها أخيرًا تُثقل وتغفو.
تسلّل صوت تنفسها الناعم إلى أذني آشلي.
فتح عينيه في تلك اللحظة.
ضوء القمر تسلل من خلال شقوق الستائر، كافيًا لرؤية ملامح الغرفة بوضوح خافت.
رفع الجزء العلوي من جسده قليلًا، ناظرًا إلى أغات النائمة على السرير.
كانت تتقلب قبل أن تغفو، غير معتادة على الفراش أو على المكان.
كان يعلم أنها كانت تراقبه، ولذلك تظاهر بالنوم كي لا تزداد اضطرابًا.
ما زالت ضعيفة، لم تستعد قوتها بعد. لم تستطع حتى أن تتناول سوى ملعقتين من الحساء الذي أطعَمها به بنفسه.
نظر آشلي إليها وهي نائمة، وقد تقوس جسدها الصغير كطفلة تبحث عن الدفء.
(حبيبة…)
ردد الكلمة في نفسه، فخيم الظل على ملامحه.
وجهها حين قالت كلمة “حبيبان” كان يلمع بلون الخوخ الوردي. لم يستطع أن يقول لها الحقيقة — بأنها لم تكن تحبه، بل كرهته واحتقرته.
حين قال لها “حاولي أن تتذكّري”، كان يعلم أن كلماته تلك تُشبه الاعتراف بأنه أحبها بالفعل.
هزّ رأسه بخفة، كما لو أنه ينكر فكرة في داخله.
لم يتظاهر بأنه حبيبها، ولم يكذب ليخدعها.
إذن لا بأس.
هدّأ نفسه واستسلم للصمت.
✦✦✦
مضى أسبوعان منذ أن استعادت أغات وعيها.
ظل آشلي كما هو: لطيفًا، هادئًا، يهتم بها بدقة متناهية.
لكن أغات، كلما مرّ يوم، كانت تدرك أكثر أن العلاقة بينهما ليست كما ظنّت.
رِقّته وثباته في معاملتها لم يتغيرا، لكنهما توقفا عند هذا الحد.
كانت تعرف — حتى دون ذكرياتها — أن علاقة الحبيبين لا تقتصر على اللطف والعطف.
بين الحبيبَين، يجب أن تكون هناك مشاعر مشتعلة، نظرات حارة، ولهفة متبادلة.
لكن كل ذلك لم يكن موجودًا.
كانت تعرف أنه رجل طيب، لكنها بدأت تشك أنه لم يكن حبيبها أبدًا.
لم يمسك يدها مرة واحدة، ولم يطبع قبلة، وكل ليلة يودعها فقط بكلمة “تصبحين على خير” قبل أن يُطفئ المصباح، ثم تسمع أنفاس نومه بعد دقائق.
رجل ينام بطمأنينة على أريكته، فيما “حبيبته” المفترضة تبقى في السرير القريب منه.
الآن فقط، أدركت أنها كانت تحلم بوهم.
كيف لها أن تتخيل أن ابن دوق كبير يمكن أن يقع في حب ممرضة ميدانية بسيطة؟
حين استيقظت من الحلم، شعرت كم كانت أفكارها ساذجة.
(هل كنا حبيبين؟)
يا للجنون! كيف جرؤت حتى على قولها بصوت عالٍ؟
هزّت رأسها بشدة، غارقة في الندم.
لم يكونا حبيبين أبدًا. كان قوله “تذكّري” يعني ببساطة أنها كانت مخطئة.
والآن وقد استعادت بعض عافيتها، لم يعد هناك سبب للبقاء في نفس الغرفة معه.
لقد أنقذها، وهو الآن يردّ الدين فقط.
تنفست أغات بعمق.
قبل قليل، جاء جندي يُدعى ميلر وتحدث مع الدوق، ثم خرج الاثنان معًا.
قررت أنها حين يعود، ستخبره بأنها ستنتقل إلى سكن آخر.
نزلت من السرير بخفة، فتحت النافذة، واستنشقت الهواء الخارجي المنعش.
وفجأة، سُمِع طَرق خفيف على الباب، ثم فُتح.
ظنّت أن آشلي قد عاد من نزهته.
لكنها حين استدارت،
“……؟”
لم يكن هو.
بل كان ضابطًا من إمبراطورية إلبِرون، يرتدي زيّه الرسمي، يحمل باقة من الزهور ملفوفة بورق وردي لامع، ودخل إلى الغرفة بخطوات هادئة.
التعليقات لهذا الفصل " 13"