96
“هل تخفين عني شيئًا آخر؟”
جاء سؤاله من وسط الظلام، ففتحت بيلادونا عينيها اللتين كانت تغمضهما بالقوّة.
كان من المفترض أن ينطلقا في الصباح الباكر إلى أستانيا، لذا اضطرّت للاستلقاء على السرير، ولكن لم يتمكّن أيٌّ منهما من النوم بسهولة.
حدّقت بيلادونا في وجهه، الذي كان ينظر إلى السقف بصمت. وعندما لم تردّ عليه، استدار إسكاليون برأسه نحوها.
“سألتُكِ، هل هناك شيءٌ آخر تخفينه عني؟”
“لا يوجد شيء.”
“لا أستطيع أن أثق بذلك.”
تمتم بتذمّر.
لم يعد هناك شيءٌ آخر حقًا … عبثت بيلادونا بأصابعها على الغطاء وتململت.
“لا يوجد حقًا. أعتذر لأنني لم أخبركَ مسبقًا.”
“إذًا يا لها من راحة.”
بعد أن أنهى كلماته، حرّك إسكاليون جسده الكبير ليلتفّ نحوها، مادًّا يده ليلمس قماش نومها برفق.
“لابدّ أنكِ تألّمتِ كثيرًا.”
نظرت بيلادونا في عينيه الذهبيتين بدلًا من الرد.
إن كانت الامور على ما هي عليه عادةً، كان يفكّر فيما سيحدث غدًا ثم يخلد للنوم بصمتٍ دون قول أيّ شيء. حتى إن لم يستطع النوم، لم يكن بالتأكيد من نوع الأشخاص الذين يوقظون زوجاتهم لإجبارهن على التحدّث.
ومع ذلك، رؤيته متمسّكًا بها بهذا الشكل أثبت لها أنه كان قلقًا للغاية.
مدّت يدها لتلمس شعره برفقٍ وبدأت تتحدّث.
“لم يعد يؤلم بعد الآن.”
عندما سمع ردّها، عقد إسكاليون حاجبيه.
بعد أن رمش بصمتٍ للحظة، حرّك يده الكبيرة وبدأ بفكّ أزرار قميص نومها ببطء، كاشفًا عن بشرتها البيضاء المتلألئة في الظلام.
“إنه مُحبِط.”
“ما هو؟”
“الندوب التي على بشرتكِ.”
نظر إليها وكأن ندوبها كانت تؤلمه شخصيًا. صمت قليلاً ثم تحدّث مرّةً أخرى.
“في البداية، تظاهرتُ بعدم المعرفة عندما رأيتُها في المرّة الأولى. لم أستطع أن أصدّق أن لديكِ هذه الندوب ….”
“لكن جسدكَ مليءٌ بندوبٍ أكثر عمقًا، إسكاليون.”
أشارت بيلادونا إلى جروحٍ عميقةٍ كانت تبدو وكأنها جزءٌ من جسده منذ البداية. أحدها يمتدّ من العنق إلى عظم الترقوة، وآخرٌ من الصدر إلى الأسفل، وغيرها الكثير في كلّ مكانٍ آخر.
أطلق إسكاليون ضحكةً كما لو كان يتنهّد.
“كيف يمكن مقارنة حالتي بحالتكِ؟”
“ما الفرق؟”
“أنتِ .. جدًا ….”
مدّ إسكاليون يده بحذرٍ شديدٍ ولمس ندبة بيلادونا. لامست أطراف أصابعه المتصلّبة جسدها.
كانت لمسته ناعمةً كالريشة، وثقيلةً كالسلاح.
ابتلع إسكاليون، الذي حرّك أصابعه على جسدها كما لو كان يرتكب خطيئةً عظيمةً بمجرّد لمسها، ريقه بصعوبةٍ وعبس.
“صغيرةٌ جدًا، وبشرتكِ بيضاء للغاية. أشعر وكأنكِ ستتحطمين إذا أمسكتُكِ بقوّة. كيف استطاع بحق خالق الأرض …”
صرف إسكاليون نظره بعيدًا. ثم تمتم بصوتٍ صغيرٍ للغاية.
“لا أستطيع حتى أن أتخيّل كم كان يؤلمكِ ذلك.”
“هل تألّم إسكاليون كثيرًا؟”
مدّت بيلادونا،التي كانت تراقبه عن كثب، يدها نحوه. مرّرت أطراف أصابعها على ندوبه بلفتةٍ حذرةٍ للغاية كما فعل هو وفركت جروحه ببطء.
رفع إسكاليون، الذي كان ينظر بعيدًا، عينيه الذهبية لينظر إليها مجددًا.
“كم من الألم شعرتَ به حتى تشكّلت هذه الندوب الكبيرة والعميقة؟”
“لا أتذكّر حتى متى أصبتُ بها.”
جلست بيلادونا ببطء، تحرّكت بحذرٍ ووضعت شفتيها على إحدى ندوبه. أمسكها إسكاليون بيدٍ مرتعشة.
“بيلّا …”
“لا تقلق كثيرًا.”
عند سماع كلماتها، تنهّد بعمق.
اقتربت بيلادونا مجدّدًا ووضعت شفتيها على ندبةٍ أخرى له. أمسك إسكاليون بذراعها بقوّة.
“باللقُدُسيّة.”
تحدّث بابتسامةٍ متألّمة.
“لسوء الحظ، لا يمكنني شفاؤك لأنني فقدتُ قوّتي المقدّسة.”
“لا أريدكِ أن تستخدميها. إنها تستنزف حياتكِ.”
أجابها إسكاليون بسرعة. تحدّثت بيلادونا بنبرةٍ غير مكترثة.
“كان بإمكاني إزالة هذه الندوب بسهولةٍ لو كنتُ أستطيع استخدام قوّتي المقدّسة. لقد كنتُ جيدةً للغاية في هذا المجال.”
“قلتُ إنه ليس ضروريًا.”
سحب ذراع بيلادونا بهدوءٍ،التي كانت تحوم فوق صدره.
“لكن هذا لا يبدو سيئًا.”
قال ذلك ثم وضع شفتيه على ذراعها التي كانت تحمل ندبةً طويلة. دغدغتها أنفاسه الحارة وشفتيه التي تلامس بشرتها، ارتعش كتفي بيلادونا إثر حركاته.
رفع إسكاليون رأسه بعد أن قبّل جرحها الأحمر برفق، وسرعان ما حرّك وجهه نحو الكدمة الداكنة على صدر بيلادونا.
وضع شفتيه هناك مجدّدًا، مما جعلها تتوقّف عن التنفّس للحظة.
شعرت بالدغدغة، لكن لم يبدُ هذا سيئًا، كما قال.
“……”
بعد فترةٍ قصيرة، أبعد إسكاليون شفتيه، بعد أن قبّل جميع جروح بيلادونا التي غطّت جسدها. في الظلام، كانت عيناه الذهبية الهادئة متّجهةً نحوها.
رغم أنه لم ينطق بكلمة، إلّا أنها شعرت وكأنها تستطيع معرفة ما يريد قوله. مدّت بيلادونا ذراعيها لتعانق عنقه برفق.
أمسك إسكاليون بها وكأنه ينهار.
“بيلّا …”
“أتمنى ألّا تشعر بالقلق الشديد. ولا تدع الخوف يسيطر عليك.”
“بوجودكِ بجانبي، خفّ قلقي كثيرًا. لذا …”
غمغم إسكاليون.
“لذا، أرجوكِ، لا تهربي مجدّدًا.”
أومأت بيلادونا برأسها بينما أحاطت ذراعيها حوله بإحكام.
كانت ترغب بشدّةٍ في تخليصه من هذا القلق الذي يثقل قلبه. وبينما كانت تمرّر يدها بلطفٍ على شعره، قالت بهدوء.
“لن أهرب. أبدًا.”
ضحك إسكاليون ضحكةً مريرةً وأجاب.
“أعلم. أنا من النوع الذي يصدّق كلام زوجته دائمًا.”
حتى بزوغ الفجر، عانق الاثنان بعضهما البعض بشدّة، ولم يتركوا أنفسهما أبدًا.
***
في صباح اليوم التالي، مع أوّل بزوغٍ لضوء الفجر الذي أضاء جريبلاتا، ارتدت بيلادونا عدّة طبقاتٍ من الملابس بمساعدة سيندي، ثم خرجت مع إسكاليون خارج القلعة.
ما إن خرجوا من البوابة، ظهرت أمامهم بوابةٌ صغيرةٌ مشعّةٌ باللون الأزرق الخافت.
هل فتحوا بوابةً لأستانيا مسبقًا؟
“القائد، سيدتي! هل وصلتم؟”
بينما كانت بيلادونا تحدّق في البوابة الصغيرة، جاء صوت هازل من الاتجاه الآخر.
عندما استدارت بيلادونا، رأت جراهام وهازل وعددًا من الفرسان، بالإضافة إلى خيولٍ مربوطةٍ بجانب الأشجار.
لوّح إسكاليون بيده للفرسان الذين حيّوه وتقدّم بخطواتٍ ثابتةٍ نحو الساحر ذي النظارات السميكة.
“شكرًا على عملك الشاق.”
“هذا هو الحد الأقصى لقدراتي السحرية. أتمنى لكَ رحلةً آمنة.”
قال الساحر وهو يتراجع خطوةً إلى الوراء عن البوابة التي أنشأها. أخذ نفسًا عميقًا وانحنى خصره تجاه الأرض.
“آغه …… ليس من السهل بالتأكيد إنشاء بوابةٍ في جريبلاتا. حتى لو كان هذا المكان بإذنٍ من الإمبراطورية ومسارًا به القليل من القوّة السحرية التي تتدفّق من خلاله.”
“قلتَ إنها ستكون جاهزةً بحلول الظهيرة، لكنكَ أتممتَ أسرع ممّا مازحتَ بشأنه من قبل.”
“لو لم تدفعوا مبلغًا إضافيًا، لما تمكّنتُ من ذلك.”
أجاب الساحر بسرعةٍ على إسكاليون الذي كان يتحدّث بوجهٍ هادئ. وفي الوقت نفسه، كانت بيلادونا تحدّق في البوابة الصغيرة واللطيفة أمامها بلا تعبير.
بهذا الصغر، سيكون من الصعب المرور عن طريق عربة …
“إذاً أيّها القائد، لننطلق فورًا!”
قال جراهام بحماس، وهو يقود الخيول نحوهم. سألت هازل، التي تبعته واقتربت منها، بوجهٍ قلق.
“لكن …. هل ستتمكنين من السفر بدون عربة؟”
أومأت بيلادونا رأسها بسرعة. في الوقت الحالي، دان عليها ان تكون راضية عن فتح البوابة، لم يكن الوقت مناسبًا للمطالبة بعربةٍ كبيرةٍ لن تستطيع المرور حتى عبر البوابة في وضعهم الطارئ هذا فقط لتكون مرتاحة.
“لكن …”
تجاوزت بيلادونا هازل التي بدت متردّدة واقتربت من إسكاليون. أمسك بها برفقٍ بطبيعية ووضعها على ظهر حصانه الكبير الاسود، ثم صعد خلفها بسرعة.
“لننطلق.”
“هيّا!”
“عُلِم!”
كان إسكاليون، الذي كان يحمل بيلادونا بين ذراعيه السميكتين، يحرّك اللجام لأعلى ولأسفل بكلّ قوّته. وفي الوقت نفسه، تحرّك الحصان إلى الأمام بسرعةٍ كبيرة.
آه، سريعٌ جدًا! لم تستطع بيلادونا التغلّب على السرعة المفاجئة واتّكأت على إسكاليون.
وسرعان ما انقلبت رؤيتها وغمرها شعورٌ بالارتعاش.
رفعت بيلادونا يدها غريزيًا وعبثت بالمفتاح المربع الذي وضعته في جيبها. لقد أحضرته معها فقط في حالة الطوارئ، لكنها اعتقدت أنها لا تستطيع فقدانه. أغمضت عينيها بإحكامٍ وأخذت نفسًا عميقًا.
بعد نصف يوم، وبعد المرور عبر عدّة بواباتٍ والخروج أخيرًا من البوابة على جانب أستانيا، غيّروا الاتجاه على الفور.
استدار إسكاليون بشكلٍ طبيعيٍّ وركض نحو مدخل الفاتيكان.
ولكن بمجرّد وصولهم إلى المدخل، قام العديد من الفرسان الذين يحرسون المدخل بمنعهم برماحٍ طويلة.
عندما لم يقل إسكاليون كلمة، فتح أكبرهم فمه.
“لا يمكن لأحدٍ دخول الفاتيكان.”
“ألا تدك مَن الذي أمامك؟ إنها قديسة أستانيا.”
قفزت هازل، التي كانت تقف خلفها، إلى الأمام وصاحت. عند سماع كلماتها، تحوّلت نظرات جميع الفرسان إلى بيلادونا، لكن وجوههم لم تظهر أيّ تغيير في تعبيرهم الصارم.
“أكرّر، في الوقت الحالي، بأمرٍ من قداسة البابا، لا يمكن لأحدٍ دخول الفاتيكان.”
ما هذا …؟ عبست بيلادونا ونظرت إليهم.
بدا أنهم ليسوا الوحيدين الذين لم يتمكّنوا من دخول الفاتيكان، حيث كان المؤمنون الذين زاروا المكان يعودون أدراجهم. وبدا أنهم جميعًا غير راضين عن الإغلاق المفاجئ.
“ما السبب؟”
سأل إسكاليون بصوتٍ منخفض.
في هذه اللحظة، ابتلع الفارس لعابه بصعوبةٍ وأجاب.
“لـ لا أستطيع أن أخبرك بالسبب.”
“ليس الأمر أنكَ لا تستطيع أن تخبرني، بل إنكَ لا تعرف السبب. إذن أخبِر البابا. لقد أتينا أنا وزوجتي من جريبلاتا لرؤية قداسته.”
“حـ حاليًا … سيدي، إنه يصلّي صلاةً مُهمّة، لذا ليس من السهل أن أخبره.”
“ها …….”
أطلق إسكاليون على الفور ضحكة جوفاء.
“ماذا تفعل، تستهزء بالناس؟”
بدا وكأنه على وشك الانفجار، لذا رفعت بيلادونا يدها بسرعةٍ وأمسكت بذراعه. أخذ إسكاليون نفسًا عميقًا وكأنه يحبس غضبه.
“لستُ أهتمّ إذا كانت صلاةً مهمّةً أو شيءٌ آخر، إذا لم تفتحوا الباب فورًا، سأعود ومعي جيشٌ يهدم هذا المكان.”
“هـ هذا ….”
ولكن قبل أن يتمكّن الحرّاس من الرد، فُتح الباب الحديدي للفاتيكان ببطء بصوت صريرٍ عالٍ.
أدارت بيلادونا رأسها ونظرت إليه.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1