الفصل الخامس
__________
«هذا يثير فضولي حقًّا.»
كانت والدتي البيولوجية تقيم في قصر الإمبراطور. فجميع أفراد العائلة الإمبراطورية في مملكة كالتانياس يتلقّون تعليمًا إلزاميًّا حتى بلوغهم سنّ الرشد. وخلال تلك الفترة، لا يُسمح لهم بممارسة أيّ نشاط آخر أو مغادرة قصورهم دون إذنٍ من الإمبراطور.
المغزى هو: بما أنّني لم أبلغ بعدُ سنّ الرشد، فلا أستطيع الذهاب إلى قصر الإمبراطور للقاء والدتي البيولوجية. ولهذا السبب، لم يكن بوسعي سؤالها عن المذكرات. فماذا عساي أن أفعل؟
ألقيت بجسدي على الأريكة في زاوية غرفة أوريسيا، وقد غَرِقت في التفكير دون أن ألاحظ اقتراب أحدٍ منّي.
«فيما تفكّرين منذ وقتٍ طويل؟»
رفعت رأسي بسرعة.
«… دين؟»
اقترب منّي فتى جميل، فتساءلت متى دخل الغرفة.
«نعم، لم أستطع تمييزك من ظهرك.»
قال بصوتٍ عذبٍ كالعسل، مبتسمًا بعينيه ابتسامة آسرة. يا إلهي، حتى اليوم لا يزال جماله يخطف الأنفاس.
أمسك دين بيدي ولمس وجنتيّ، ثم ابتسم قائلًا:
«اعذريني لدخولي مقصورة الملكة دون إذن. كنت قَلِقًا، فقد انتظرت طويلًا ولم تأتي.»
طبع قبلةً خفيفة على ظهر يدي بحركةٍ أنيقة جعلتني أضحك بلا إرادة.
«كنت قَلِقًا؟»
«نعم، خِفت أن يكون تنّين قد ظهر في قصرك أو ما شابه.»
«ولو حدث ذلك، هل كنت ستحميني؟»
«لا أعلم.»
انفجرت ضاحكة من جديد. فالأمير الصغير ذو القامة المشابهة لي، الذي يبدو كفتاة جميلة من النظرة الأولى؟ لا يمكن تخيّله فارسًا أبدًا، وذلك ما جعل الموقف أكثر طرافة.
«ما هذا يا أخي العزيز؟ تتصرّف كأميرٍ من حكايات الأطفال. هل كنت تحاول تقليدهم؟ هذا لا يليق بك أبدًا.»
«أنا لا أقلّد أحدًا. أنا أمير بالفعل.»
ابتسم نصف ابتسامة، وعيناه الحمراوان تشتعلان بحماسٍ متّقد.
«قُل ذلك مجددًا بعد أن تصبح أطول منّي برأسين.»
«أنتِ قاسية جدًّا.»
«نعم أنا كذلك. وإن لم يعجبك الأمر، فانتظر وانتقم لاحقًا، وسأتقبّل الأمر.»
كنت غارقة في التفكير لدرجة أن شعري تشابك تمامًا.
«حسنًا.»
حين التقت عيناه بعينيّ، ضيّق جفونه قليلًا.
«لماذا لا تقولين شيئًا آخر؟»
ضحك دين ضحكة خفيفة. كم سيكون وسيمًا حين يكبر! هذا الأخ الصغير لم يُدرك بعد مدى قوّة تأثير ملامحه. كان من الأفضل ألا يميل رأسه بتلك الطريقة وهو يبتسم، لأن جماله حينها كان ساحقًا.
«إنه وسيم لدرجة تجعلني أرغب في كسر الإناء الذي بجانبه.»
وحين لاحظ نظراتي الثابتة عليه، ازدادت ابتسامته اتّساعًا. كان يُقال إن تلك الابتسامة الخجِلة بعينيه قد أسقطت قلوب العديد من الخادمات.
«هل يمكنك الابتعاد قليلًا؟»
«حسنًا.»
كان اسمه دين لويل كالتانياس، ابن الملكة السابعة ووحيدها، وأخي من جهة الأب. قد يبدو ضعيف البنية برقبةٍ طويلة تشبه رقبة الغزال، لكن… ما المشكلة؟ لقد كان وسيمًا.
«الجوّ اليوم رائع من جديد.»
«يومٌ جميل للتنزّه.»
تطاير طوق قميصه مع نسمات الريح، وشَعَرُه الذي لامس عنقه كان بلون التراب المضيء تحت الشمس. كان يرتدي ثيابًا بسيطة لأنّه يكره الملابس المزيّنة والمعقّدة، ومع ذلك ظلّ متألّقًا كلوحةٍ مرسومة، يشعّ نورًا وهيبة.
«هل انتهيتِ من التحديق؟»
«… م-ماذا تقصد بالتحديق؟»
أجبت بخجلٍ مصطنع وأنا أرمش بعينيّ.
«هاها، وكيف لي أن أعلم؟»
تجاهل بلباقة أنّني كنت على وشك أن أُسال لعابي من شدّة جماله.
«بالمناسبة، متى أتيت؟»
«قبل نحو ثلاثين دقيقة؟ قال لي الأخ أن أبحث عنك.»
هل مرّ كلّ هذا الوقت؟ يبدو أنّ انشغالي بالمذكّرات استغرق أكثر مما ظننت.
«مهلًا، هل يعني هذا أن فليون هنا؟»
«نعم.»
«… ماذا به الآن؟ أين هو؟»
«في غرفة الجلوس. جاء قبل عشر دقائق، وهو الآن مع السير راي.»
رفعت رأسي فزِعة.
«ماذا؟ مع السير راي؟ أتقصد أنهما معًا الآن؟ ولم يحدث شيء بعد؟ هل الطاولة في غرفة الجلوس لا تزال سليمة؟»
«أمم… لست متأكدًا.»
نظر إليّ دين بقلقٍ بسيط.
«لكن…»
«… لن يطول الأمر حتى يتحطّم شيء.»
«أليس كذلك؟»
آه، يا لطبعه الحاد. إنّه الخطر الحقيقي الوحيد على قصرنا. كم طاولةً دمّرا حتى الآن؟
«لقد سئمت فعلًا من تصرّفاتهما.»
فضحك دين بصوتٍ صافٍ وهو يسمعني أقول ذلك بلا مواربة.
في تلك اللحظة، فُتح الباب ودخلت وصيفة. توقّفت حين رأت دين.
«أحيي سموّ الأمير السابع.»
ثم رمقته بنظرةٍ حادّة، وكأنها تتساءل عمّا يفعله في مقصورة الملكة.
«هذه مقصورة الملكة، وإن كانت ضمن قصرك يا صاحب السموّ، فعليك أن تمتنع عن الدخول إليها دون إذن.»
كانت كالي سمارو كبيرة الخادمات في القصر، وهي المرأة التي يهابها الجميع. نظرتها إليه كانت كأنها موجّهة إلى مراهقٍ مشاغب، ثم تجاهلته ببرود.
«صاحبة السمو، هل تدركين ما الذي فعلتِه؟»
نظر إليّ دين بخفة، وكأنه يسأل إن كنت أوافقها الرأي. وتحت نظرات تلك العجوز الصارمة، لم أستطع إلا أن أومئ بخجل.
«همم… سأكتفي بتحذيرٍ هذه المرّة.»
ثم نظرت إلى دين.
«عليّ أن أعتذر.»
قال مبتسمًا بلطفٍ تذوب له القلوب. وحتى صوته في الاعتذار كان دافئًا كنسيم الربيع.
ورغم أنّ أفراد العائلة الإمبراطورية لا ينحنون لأحد، إلا أنّه في غرفة الجلوس كان هناك الآن أميرٌ فظّ وفارسٌ ميؤوس منه حتى من قِبل الإمبراطور نفسه، ينتظراننا، ولم يكن أمامنا سوى التزام الهدوء.
على أيّ حال، كان اعتذار دين كافيًا لإرضاء الوصيفة التي اكتفت بالإيماء.
«الأمير السادس بانتظارك.»
ثم حثّتني على الإسراع.
«قال إن لم تحضري خلال ثلاث دقائق، فسيقرص السير حتى تدمع عيناه.»
ابتلعت ريقي بقلق وأنا أعبس.
«أكره هذا حقًّا.»
فوضعت يدي على جبيني بينما رمقتني الوصيفة بنظرة تعاطف.
«من الأفضل أن تذهبي الآن.»
«سأفعل.»
لقد كنتِ قاسية جدًّا يا فليون. كان الأمير السادس ثاني أكثر الأشخاص تسبّبًا بالمشاكل بعد طيشه واندفاعه.
أسرعت لإخفاء المذكرات في حجري، واتبعت دين، لكنّه كان يسير بسرعةٍ كبيرة.
«آه…»
«ما الأمر يا صاحبة السمو؟»
«لا شيء… انظر إلى يدي.»
«أوه، الأعشاب الطبيّة!»
«لا بأس، مجرّد خدشٍ سطحي. لن يسبّب مشكلة.»
(ملاحظة المترجم: أصيبت بجرحٍ من الورق عندما حاولت إخفاء المذكرات وهي تلحق بدين).
يا إلهي… كم هو صعب أن أكون بهذه العثرات حتى في هذا العمر! تمتمتُ وأنا ألعق إصبعي الذي نزف قليلًا.
«آشلي؟ لمَ لم تخرجي بعد؟»
أسرعت أُخفي المذكرات خلف الكتب عندما ناداني دين من الخارج.
«د-دين! سألحق بك بعد أن أنتهي من ترتيب هذه الكتب!»
«هل تحتاجين للمساعدة؟»
«كلا، لا داعي! اذهب أولًا! وحاول إيقافهما عن الشجار!»
لحسن الحظ، لم يشكّ في الأمر وغادر فورًا. وما إن خرج وأغلقت الباب خلفه حتى أخرجت المذكرات مجددًا.
كانت المذكّرات تشعّ بضوءٍ بنفسجيّ باهت.
فتحتها، فبدأت الحروف تظهر واحدةً تلو الأخرى على الصفحة البيضاء، وكأنّ ذلك الضوء الخافت لم يكن وهْمًا.
«حروف؟»
تحوّلت الحروف إلى كلمات، والكلمات إلى جمل، حتى امتلأت سبع صفحاتٍ فقط، وبقيت البقية فارغة. وحين عدت إلى الصفحة الأولى، ظهرت الكتابة على الرقّ الفضيّ القديم كألواحٍ عائمة على سطح البحر.
[السنة 821، اليوم الثالث من شهر هابرميا]
«أليس هذا هو تاريخ اليوم؟»
ابتلعت ريقي وأنا أحدّق في الكلمات التي كُتبت بلغة الإمبراطورية.
«يا للعجب… هل هذا هو سرّ والدتي البيولوجية؟»
يا له من اكتشاف! لم أكن أبحث سوى عن لمحة، لكنّني وجدت شيئًا جديدًا تمامًا.
«خطي رديء نوعًا ما…»
بدت الكتابة وكأنّها لطفل، لا امرأة بالغة. كان هذا غريبًا… ألم تكن والدتي راشدة؟ ما الذي يعنيه هذا؟ لست واثقة إن كان هذا هو الجواب الصحيح، لكنه على الأقلّ جواب.
«ما هذا بحقّ السماء!»
وبشغفٍ وحماس، بدأت أقرأ السطر الأول:
[السنة 821، اليوم الثالث من شهر هابرميا
نظّفتُ غرفة والدتي اليوم مع هانا. كانت هذه أوّل مرّة أستخدم فيها الممسحة! شعرت بالأسى تجاه هانا وبقيّة الوصيفات لأنّ التنظيف بدا صعبًا. كما شعرت بالأسف لهانا التي بدت حائرة في ما يجب أن تفعله. هل أرهقتها أكثر من اللازم؟]
بدأت يداي ترتجفان.
«م-ما هذا كلّه؟!»
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"