الفصل الحادي عشر
_____________
كانت هذه الغرفة الثانية الأكبر في قصر تيرينا، وهنا كنتُ أستعد للنوم.
قالت «هانا» متذمرة وهي تزيل دبابيس الشعر من رأسي:
“الأمير السادس تجاوز حدّه حقًا!”
وأضافت:
“لا أعلم كيف تظلين صابرة رغم أنه يزعجكِ بهذا الشكل دائمًا. يا إلهي، انظري إلى وجنتيكِ يا صاحبة السمو، تبدوان وكأنهما ستتورمان غدًا…”
كانت «تِس» تجلب الماء، وأومأت برأسها موافقة.
“ليس هذا فحسب، بل ما قاله عندما كنتِ عائدة من الغرفة لم يكن كلامًا يليق بأخٍ أكبر. ما الذي قصده حين قال إن صاحبة السمو مبتذلة أيضًا لمجرد أنها تأكل معنا؟ هه، كانت «لينا» تلتقط فقط الشيء الذي أسقطه الأمير…”
آه، هل حدث ذلك حقًا؟ بعد أن ودّعت «فليون»، أذكر أني رأيته يوبّخ امرأة ذات شعرٍ أزرق. لم أرَ سوى ذلك من مكاني.
“قال شيئًا مثل: (كل هذا لأن الأميرة لم تتعلم بعد آداب السلوك اللائقة، ولو كانت تعرف لما دللت السوقة). قد نكون نحن سوقة، لكن هذا ليس خطأ صاحبة السمو…”
أوه، أقال ذلك؟ حاولتُ أن أستعيد الموقف بذاكرتي المشوشة، لكن لم يخطر ببالي شيء. فتخلّيتُ عن المحاولة بسلاسة.
“لينا، هل أنتِ هنا؟”
اقتربت المرأة ذات الشعر الأزرق، التي كانت تنثر بتلات الزهور في حوض الماء. بخلاف طبيعتها المرحة المعتادة، أومأت برأسها بصمت، وبدت وكأنها ترغب بتجنّبي، لكن عينيها كانتا حمراوين دامعتين. حتى دون أن ألمسها، كان واضحًا أنهما مبتلّتان. لم تمضِ لحظات حتى قلتُ بهدوء:
“إذن، أنتِ من اعترض طريق الأمير.”
“لـ-لا، لم أفعل!”
مسحتُ دموعها بلطف.
“أعتذر.”
فأجابت بسرعة، وقد بدا عليها العجز:
“كلا يا صاحبة السمو، هذا ليس أمرًا ينبغي لكم الاعتذار عنه.”
قلتُ متنهّدة:
“كنتُ أودّ أن أردّ على ذلك الوغـ… أعني، على «فليون»، لكن لا أستطيع إجباره على التغيّر.”
في هذه الإمبراطورية، كان الأمراء يحظون بمكانة أعلى بكثير من الأميرات. لذا لم يكن هناك ما يمنعهم من التصرف على أهوائهم. والأسوأ أن «فليون» يملك السلطة لطرد خادمات قصري.
“… تبًا له.”
بسبب ذلك، بلغ غروره عنان السماء.
كنتُ قد عشتُ سابقًا تجربة العامل الذي يتعرض للضرب من ربّ عمله، لذلك تعاطفتُ مع لينا بسهولة.
“حين يأتي «فليون» للزيارة، لستنّ مضطرات للقدوم إلى قاعة الجلوس. هذا أمرٌ للجميع.”
يا لهذا العالم القذر. لم يكن يفترض بي أن أتحمّل مثل هذه المعاناة بعد أن وُلدت من جديد.
“سأكمل الباقي بنفسي.”
“لا يمكن، يا صاحبة السمو.”
“لا أحتمل ذلك. أكره أن أراكنّ تبكين في كل مرة يأتي فيها.”
كانت نظراتهنّ المليئة بالعاطفة تقول: أميرتنا قد نضجت كثيرًا.
لكنني في داخلي تمتمتُ:
يبدو أن هناك سوء فهم.
لقد تعاطفتُ معكنّ فقط لأنني أعلم كيف يكون الشعور حين يُسيء إليكِ من فوقكِ سلطة.
لكنني لم أستطع تصحيح سوء الفهم هذا. يا للأسف…
«فليون» طفلٌ متغطرس. لكنه لم يكن شخصًا أكرهه.
باستثناء وقاحته مع خادمات القصر وتهديده لهنّ بالطرد، لم يقترف ما هو أسوأ من ذلك بعد.
أعرف أن كلامي يبدو متناقضًا، وأدرك أنه من أسوأ الأشرار، لكن كان هناك سبب يجعلني لا أستطيع كرهه.
في أحد الأيام التي فقدت فيها ثقتي بنفسي وغرقت في الشك، همس لي قائلًا:
“أنتِ قبيحة، غبية، وفرخ لن يكبر أبدًا. فماذا في ذلك؟ إن كان الناس يسيئون فهمك بسبب ندبتك، يمكنكِ البقاء هنا بقية حياتك.”
ثم أضاف بصوتٍ خافت:
“ما دامني هنا، فلن يتمكن أحد غيري من إيذائك.”
وحين سألته لماذا يتصرف هكذا، ابتسم وقال:
“لأنكِ أختي الصغيرة.”
لذا لم أجد سببًا لأكرهه.
قال أيضًا وهو يضحك ساخرًا:
“لا يمكنكِ أن تغيّري الدم الذي يجري في عروقكِ، أليس كذلك؟ لهذا أنتِ أختي الصغيرة، أيتها الغبية.”
بالطبع، هذا كان رأيي وحدي. أما في أعين الخادمات، فـ«فليون» سيدٌ فظّ لا يُطاق.
لا شيء أكثر إيلامًا من أن يُعطى طفلٌ سلطةً لا يستحقها. كنتُ أفهم شعورهنّ جيدًا، لأنني كنتُ في موقفٍ مشابهٍ من قبل.
لو فكّرتِ بكلّ الشعر الذي نتفته من رأسي بسبب الضغط وأنا أدرّس ابن المدير الرياضيات… لكان كافيًا لملء نهر الهان!
لهذا كنتُ أتفهّمهنّ على الفور.
“بصراحة، «فليون» وغد.”
قالت إحداهن بتردد:
“أم… أليس أميرًا؟”
فقلت:
“يمكنكنّ أن تلعنّ الإمبراطور والأمراء في هذه الغرفة.”
عندما كانت الخادمات يفرغن شكاويهنّ أمامي، كنتُ عادةً أتجاهلهنّ، لكن لم أكن أستطيع حلّ ما لا يُقال. فلماذا يصمتن الآن؟ ألم تكن أحاديثكنّ لطيفة قبل قليل؟
“سـ-سأذهب لأجهّز الحمّام!”
حتى أثناء استحمامي وتجفيفي بعدها، بقينَ متيبّسات كالموظفات الجديدات أمام مديرهنّ. هل كان عليّ ألا أقول ذلك؟ شعرتُ وكأنني طالبة عادت إلى الجامعة بعد انقطاع، تشرب أمام الطلاب الجدد في لعبة “ياجا” حيث يُعكس التسلسل العمري.
قالت إحداهنّ:
“أظنّ أن صاحبة السمو فقدت بعض الوزن.”
“حقًا؟ وهل قلتِ إن رائحة اليوم ياسمين؟”
“نعم!”
عبق عطرٍ طيب كان يملأ الغرفة، فبدلًا من الاستلقاء على السرير، جلستُ على حافته فقط.
قلتُ:
“تِس، هل تعرفين شيئًا عن الأمير؟”
“الأمير؟”
“نعم.”
نظرتُ نحو المذكرات الموضوعة أمامي.
“أعني الأمير الآخر، لا أولئك الذين يزورون قصرنا للّعب.”
“آه، تقصدين وليّ العهد والأمراء الأربعة الآخرين؟”
“نعم.”
أجابت بعد أن حولتُ بصري عن المذكرات:
“لستُ متأكدة، مثل كثيرين هنا، نادرًا ما نغادر القصر.”
“همم، أهذا صحيح؟”
“مثل «تِس»، أنا مجرد خادمة. وأنتِ كذلك يا «لينا»، أليس كذلك؟ لقد جلبتنا رئيسة الخادمات بنفسها.”
تحدثنَ طويلًا، لكن دون أن أستفيد شيئًا من حديثهنّ.
قالت «هانا» قبل أن يتبدّد الموضوع:
“لكن يا صاحبة السمو، لِم تسألين عن الأمراء الآخرين؟”
“آه، لقد كنتُ فقط أتساءل عن إخوتي الآخرين.”
ابتسمتُ برقة.
“طالما أنني كنتُ هنا دائمًا، راودني بعض الفضول فحسب.”
هززت كتفيّ بلا مبالاة. كانت تلك كذبة. في الحقيقة، لم أكن فضولية إطلاقًا، لكن الفضول كان يفرض نفسه عليّ رغمًا عني.
“كلّ ذلك بسبب…”
عندما وقعت عيناي على تلك المذكرات الملعونة، صرّيت على أسناني.
“لأن أحدًا لا يخبرني بشيء…”
كان من الصعب جدًا أن أتصنّع براءة الأطفال.
“آه… يا صاحبة السمو.”
كلّ هذا لأنني لا أستطيع التذمّر علنًا. لِم لا تقولينها صراحة وتسألينني لماذا طلبتُ منكنّ أن تلعنّ؟ أعلم أنكنّ تتوقن إلى جواب.
“كنتُ فقط فضولية.”
كانت «هانا» التي تقلق دائمًا بشأن وجهي المتعب، تغسل وجهي بماءٍ بارد، ثم ترددت قليلًا قبل أن تقول:
“هناك خادمة تحت التجربة؟”
“نعم، نحتاج إلى من يساعد في أعمال المطبخ. يتم تدريب الخادمات المتدرّبات في القصر المركزي، ثم توزيعهنّ على القصور المختلفة. هناك واحدة هنا الآن، ربما تعرف عن الأمراء؟ قالت إنها في عامها الثاني وقد جاءت من قصرٍ آخر.”
“أه، إذًا فهي لن تعرف شيئًا عن القصور الأخرى.”
قاطعتها «تِس» قائلة:
“أوه، هل تتحدثين عن «آنا»؟ إن كانت هي، فقد تعرف شيئًا ما.”
هزّت «هانا» رأسها موافقة وأضافت بسرعة:
“يا صاحبة السمو، زوري المطبخ بعد الإفطار غدًا.”
“حسنًا، لكن عليها أن تزور مربيتها في الصباح.”
“سنخبر مربيتها أنها معنا!”
“حقًا؟ شكرًا لكما يا تِس ويا هانا!”
مددتُ يدي وأمسكتُ بأيديهما بقوة، ولأول مرة منذ دخولي هذه الغرفة، تحدثتُ بلا تردد:
“أنا أحبكنّ كثيرًا، حقًا!”
فانفجرنَ ضاحكات.
“ونحن نحبكِ أيضًا يا صاحبة السمو.”
أعلم أنكنّ ترينني مجرد طفلة، لكنني أكبر منكنّ جميعًا على الأرجح. ولهذا يقلقكنّ أحيانًا أنني لا أتصرف كالأطفال. في نظركنّ، الجري هنا وهناك بمرحٍ هو علامة الطفل الطيب.
ضحكتُ، وكنت أعلم أنهنّ يرين فيّ فقط فتاة ساذجة فضولية بشأن عائلتها، دون أن يدركن دوافع رغبتي في مغادرة هذا المكان.
قالت إحداهنّ:
“أوه، صاحبة السمو، ألم تقولي إنكِ رأيتِ كابوسًا قبل أيام؟ لقد أحضرت «بِسي» هذا من أحد الكهنة.”
أنتنّ جميعًا طيّبات مع هذه الطفلة التي أبدو عليها. لا أستطيع كرهكنّ وأنا أعلم أنكنّ تقلقن عليّ لأنكنّ تهتممن بي. في حياتي السابقة، كنتُ حزينة طوال الوقت.
“حان وقت النوم!”
“نعم، يا صاحبة السمو. ليلة سعيدة.”
كنتُ قد وعدتُ نفسي منذ زمنٍ أن أستمرّ بالتصرف كطفلة، فحتى وإن كان تمثيلًا، كانت الهدايا السخية التي أتلقاها مقابله تستحق العناء.
“نعم، ليلة سعيدة!”
وحين اختفت أصوات خطواتهنّ، أزحتُ الغطاء عني، ونهضتُ من السرير، وأضأت المصباح.
تنفستُ بعمق.
“هاه…”
نظرتُ إلى المذكرات.
“هذا يبعث على الضيق…”
لقد تحقق المستقبل المكتوب فيها.
وهذا يعني أنني سأموت قريبًا.
“… على أية حال، يبدو أن كل ما كُتب هنا صحيح…”
ضحكتُ بمرارة، مصدومة. إذن، كما تقول المذكرات، سأُطعن بعد أسبوع من الآن؟
ظننتُ أنني جُننت. ربما لستُ سوى طفلة في الثالثة عشرة تتوهم أنني أُعيدت للحياة. أن كل ذكرياتي السابقة مجرد هلوسات. ربما كنتُ فقط مريضة تتخيل أنها كانت بالغة ذات يوم.
لكن كلما أغمضتُ عيني، عادت حياتي السابقة أمامي: الطائرات، سيارات الأجرة، الأبراج العالية، المصاعد، إحساس الهاتف الذكي في يدي، طعم السوجو المرّ، وضحكات أصدقائي ونحن نحاول ادخار المال في «الماعز الأخضر».
“نعم، لم تكن تلك أكاذيب.”
فبمجرد أن سمعتُ اسم الأمير الذي لم أرَ وجهه من قبل، تدفّقت إلى رأسي أسماء القادة والنبلاء والفرسان في هذه الإمبراطورية واحدًا تلو الآخر.
بل كنتُ أعرف ملامحهم.
«آشلي روز كالتانياس» تعرف أمورًا لم يكن ينبغي أن تعرفها. النظرة المذهولة في وجه معلمي حين قال: “كيف عرفتِ ذلك؟” جعلتني أوقن حقًا أنني قد بُعثت من جديد.
لكن كيف أعيش؟
كيف أجد أصحاب النفوذ وأتقرب منهم؟ الطريق للوصول إليهم طويل، ولم يبقَ لي سوى أسبوع.
إذن ماذا أفعل؟ أأصبح شخصية ثانوية؟
كيف أجد من يريد قتلي قبل أن يفعل؟ وحتى لو وجدته، ما الذي يمنعه من قتلي فورًا؟
“يا له من أمرٍ صعب…”
في الحقيقة، قضيت حياتي السابقة أدرس الرياضيات والفيزياء، ثم انتهى بي الأمر في وظيفة مكتبية لا علاقة لها بهما. ومع ذلك، علمتني دراستي شيئًا واحدًا:
العالم مليء بالمشكلات، ولكل مشكلة حلّ.
أعرف هذا لأنني سلكت طريقًا مليئًا بالمشاق في حياتي السابقة. وإن لم أجد حلًا، فسأصنعه بنفسي.
“لا، يجب أن أنجو.”
كوني بُعثت من جديد كان خيالًا كافيًا في حياتي، ولا أستطيع احتمال ما هو أعجب من ذلك.
“أحتاج إلى المعلومات.”
بدأت أقلب المذكرات بعناية، أدوّن الملاحظات على ورقة منفصلة، وأكتب كل ما أتذكره من الرواية، وكل ما تعلمته عن «كالتانياس» حين كنتُ أتلقى الدروس كأميرة.
وضعتُ القلم بعد أن ارتجفت يداي.
“هل هذا سؤال له إجابة أصلًا؟”
أسندتُ رأسي إلى يديّ وأنا أغطي وجهي. إن استمر الأمر هكذا، فسأموت على يد ذلك المجنون. إن استسلمت الآن، فهذه نهاية حياتي الثانية. يجب أن أجد مخرجًا.
لكنني مجرد إنسانة في الثالثة عشرة من عمرها. ما زلتُ لا أعرف ما هي تلك المذكرات ولا سبب ظهور هذه الكتابات الغريبة فيها.
“لا أستطيع أن أهدأ.”
أعلم أن عليّ الهدوء، لكن يدي ترتجفان، ورؤيتي تتشوش، والدوار يغمرني.
هذا غريب. الأميرة التي حلمتُ أن أكونها في طفولتي كانت تستطيع فعل أي شيء، وها أنا قد أصبحتُ أميرة حقًا، لكنني ما زلتُ عاجزة عن فعل شيء.
«آشلي روز».
بعد أن علمتُ أنني سأموت رغم أنني أعيش حياة فاخرة لا تُقارن بحياتي السابقة، أصبحتُ أنانية.
ألم يكن سيكون أفضل لو وُلدت ضعيفة وأصبحت صديقةً للأبطال؟ كنتُ أتمنى لو جئت إلى هذا العالم كشخصية ثانوية طيبة.
لماذا أنا هنا؟ لماذا لستُ البطلة؟
ولماذا تقودني هذه المذكرات إلى الموت؟
“صديقتي، سواء كانت هذه الحياة لكِ أم لي، فأنا ما زلتُ أستحق الشفقة.”
“لماذا لم أصبح واحدة منهن؟”
هل سأموت مجددًا؟ هذا… مخيف.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"