ربما يكون أسيل هو نفسه. على الرغم من أنه صديق ثمين تعرفه جوديث منذ الطفولة، إلّا أنه قد يظل هناك جدار غير مرئي لا يمكن عبوره. لقد أدركت جوديث هذه الحقيقة الواضحة متأخرًا. عندما علمَت بذلك لأول مرة، شعرت بالحزن، ولكن الآن لم تعد كذلك.
تمامًا كما يصبح الحجر المربع دائريًا تدريجيًا بفعل الأمواج، فإن الأشياء المؤلمة أيضًا تُصبح مألوفة إذا مررنا بها بشكل مُتكرّر…
بالطبع، استغرق الأمر وقتا طويلاً للتكيّف مع الأمر، لكن جوديث الحالية كانت في حالة يمكنها فيها قبول هذه الحقيقة دون أي مشكلة.
“لم يحدث شيء. فقط مزاجي سيئ.”
قالت جوديث وكأنها تُخرج الكلمات، وتجنّبت عمدًا نظرة أسيل التي تلمس خدها.
“هانا، هل سبق وأن أحببتِ رجلًا ما؟”
عند سؤال جوديث المفاجئ، نظرت هانا التي كانت مُستلقية على السرير تقرأ رواية رومانسية، إلى الأعلى.
رأت هانا وجه جوديث الجاد.
“لماذا تسألين؟”
“فقط لأن…”
“همم، هذا غريب…”
لمست جوديث أطراف ثوب نومها وقالت.
“ما الغريب؟ سؤال قد يطرحه أي شخص.”
كما قالت جوديث، فإن السؤال في حد ذاته: “هل سبق لكِ أن أحببتِ رجلًا ما؟” لم يكن غريبًا. ولكن لم يكن من المتوقع أن تسأل جوديث مثل هذا السؤال من العدم.
لذلك لم تستطع هانا إلّا أن تشعر بالفضول. فكرت: “هل كان هناك أي تغيير في القلب؟”
أمالت هانا رأسها.
“ولكن هذه هي المرة الأولى التي تشعرين فيها بالفضول تجاه شيء كهذا.”
رفعت هانا إطار نظارتها الأسود الذي انزلق إلى أنفها بينما استمرت في الحديث.
“إضافة إلى ذلك، مع أسيل فيدليان صديق طفولتكِ وتشيس كارداندي خطيبكِ، هل سيلفت انتباهكِ أي رجل عادي؟ سيبدو لكِ جميعهم كالحبار.”
انفجرت جوديث ضاحكة.
أغلقت هانا الرواية التي كانت تقرأها. لم تكن هانا تعلم لماذا سألتها جوديث فجأة، ولكن بما أن جوديث سألتها، شعرت أنها يجب أن تُجيب بصدق.
لحسن الحظ، كانت لدى هانا قصص كثيرة لترويها لجوديث. فقد مرت بتجارب حب كثيرة في الماضي.
“على أي حال، لنعد إلى صلب الموضوع، نعم، مررتُ بالكثير. في صغري كنتُ أُعجب بشاب مرة كل شهر تقريبًا.”
“حقًا؟”
“نعم، أنا من النوع التي تقع في الحب بسرعة.”
جوديث، التي كانت تتوقع أسئلة مثل كيف وصلتِ إلى حب رجل ما أو ما إذا كان انتهى بها الأمر بمواعدته، طرحت سؤالاً غير متوقع.
“ثم هل نسيتِ يومًا رجلًا أحببتيه؟”
بدت جوديث جادة بعض الشيء. لم تفهم هانا نوايا جوديث وراء هذه الأسئلة، لكنها أجابت بهدوء.
“بالطبع.”
“كيف نسيتِ؟”
ربتت هانا على شفتيها بإصبعها السبابة وهي تفكر بعمق: “حب….. في الواقع، منذ دخولي الأكاديمية، كنتُ مشغولة جدًا بالامتحانات والواجبات لدرجة أنني نسيتُ هذه المشاعر الجميلة منذ فترة طويلة. عندما أدركتُ أن حبي لا أمل منه، كيف نسيتُ…..؟”
بدأت هانا في تتبع ذكرياتها ببطء وأجابت سريعًا كما لو كانت تتذكر.
“حسنا، إن لم أراه باستمرار، سأنسى حتى لو أردتُ رؤيته، فإن صبرتُ وعشتُ متجنبةً إياه قدر الإمكان، ستختفي المشاعر تلقائيًا. أو يمكنني أن أجد حبًا آخر. إذا وجدتُ من أُحبه أكثر من الشاب الذي أحببتُه في البداية، فسأنسى الأمر تلقائيًا.”
صمتت جوديث للحظة. لكن سرعان ما ابتسمت ابتسامة خفيفة.
“فهمتُ شكرًا لكِ يا هانا.”
وبما أن أسئلة جوديث قد انتهت فقد جاء دور هانا لتسأل. بأعين متألقة، قفزت هانا على سرير جوديث. اهتز السرير بشدة. بعد أن عدّلت وضعيتها جلست هانا بجانب جوديث.
“أليس اليوم أول لقاء لكِ مع تشيس؟ كيف كان اللقاء؟!”
ابتسمت جوديث بشكل محرج في وجه هانا المتحمسة.
“بالتأكيد. تحدّثنا قليلًا في مقهى ثم افترقنا.”
“عن ماذا تحدّثتما؟ أخبريني بالتفصيل.”
أغلقت جوديث فمها، وكأنها تختار كلماتها، ثم تحدثت.
“حسنًا… لقد قال إنه لن يُحبّني أبدًا، على الرغم من أننا مخطوبان.”
“هاه. كما هو متوقع من شخص مهووس بالسيوف، أن يقول ذلك صراحة في أول لقاء.”
نقرت هانا بلسانها. ثم ألقت نظرة على الرواية التي كانت تقرأها.
“في الروايات، الرجال الذين يقولون مثل هذه الأشياء غالبًا ما ينتهي بهم الأمر إلى الوقوع في حب ناري، لكن الواقع ربما ليس جميلًا مثل الخيال.”
نظرت هانا إلى جوديث، لكن جوديث بدت غير متأثرة. لم تتظاهر فقط بأنها بخیر، بل بدت في غاية اللطف.
جوديث هزت كتفيها.
“مع ذلك، أعتقد أن علاقة طيّبة تجمعني بتشيس. كلانا يريد الشيء نفسه.”
وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان مفيدًا جدًا في إبقاء أسيل بعيدًا. شعرت جوديث أنه من الجدير أن تختار تشيس كخطيب لها.
“طالما أنكِ لم تتأذي، فهذا يُعتبر راحة…..”
فکرت هانا في تشيس كارداندي بينما كانت تنظر إلى جوديث الهادئة.
عيون زرقاء مثل الياقوت المنقوش والملامح المنحوتة. على الرغم من أن تشيس كان يمارس المبارزة طوال اليوم، إلّا أن بشرته كانت بيضاء ونقية تمامًا. عندما كان تشيس يحمل سيفًا في ساحة التدريب، كانت الشابات يراقبنه سرًا. حتى الشباب يدخلون لقسم المبارزة للتعلّم منه. أُعجبت الطالبات بتشيس سراً، وكان الطلاب الذكور يتطلّعون إليه.
كانت عينا تشيس، اللتان تنظران عادةً إلى العالم بلا مبالاة، تتألقان بشكل حاد عندما كان يحمل سيفًا. كان شعره الفضي يتأرجح بحركات أساسية، مثل خيط طويل منسوج من القمر. في كل مرة كان تشيس يأخذ استراحة، كانت الطريقة التي كان يسحب بها شعره الفضي إلى الخلف يُقال عنها أنها كانت تخطف الأنفاس من قبل الشابات المُحيطات به.
“بما أن تشيس كان وسيمًا جدًا. ولأنه كان يتضايق من الناس منذ صغره، لابد أنه أُصيب بخيبة أمل. ولعل تجاهله لكلام الناس ناتج عن تراكم هذه التجارب.”
بالطبع، لم تكن هانا متأكدة، لكن بالنظر إلى مظهر تشيس، كانت القصة معقولة.
جوديث، التي بدت غير مهتمة، قالت ببساطة.
“أرى.”
في الواقع، في ذهن جوديث، كانت صورة تشيس وهو يستفز أسيل بشكل مُتكرّر فقط هي التي تتكرّر.
أحياناً جوديث تفكر: “لو لم أسقط في تلك الحديقة. لو لم يجدني أسيل عندما سقطتُ. و… لو كان أسيل أقل لطفًا بعض الشيء. لو كان الأمر كذلك، ألن نكون مختلفين؟ لما اضطررتُ لتحمّل هذا الحب المؤلم بلا مقابل.”
لكن جوديث اعتقدت أن هذا افتراض لا معنى له. تمتمت في نفسها: “حتى لو لم يكن أسيل يُحبّني، فإنني لم أستطع إلّا أن أُحب أسيل. في ذلك الوقت، أصبح هو الشخص الوحيد المتبقي لي…”
توفي والد جوديث فجأة في حادث عربة، كما توفيَت والدتها عند ولادتها. كانت جوديث صغيرة، لكنها فهمت ما يعنيه الموت، وهذا يعني أنها لن ترى أو تلمس أو تسمع صوت والدها مرة أخرى. انهار عالم جوديث في لحظة، انكسر قلبها حزنًا، لكن الغريب أنها لم تذرف دموعًا. كانت جنازة والدها نظيفة وسريعة، بفضل الاهتمام الخاص للدوقة فيدليان.
جوديث راقبت بهدوء التابوت البني وهو يُدفن في الأرض، كدمية ورقية. لأول مرة، أدركت أنها تُركت وحدها. الآن الأب الذي كان يوقظها كل صباح ويتناول الطعام معها قد رحل إلى الأبد.
في تلك اللحظة، اقترب أسيل وعانق جوديث بشدة. كان أقصر أصغر من جوديث آنذاك. وبسبب ذلك، لم يكن من الممكن احتضانها بشكل كامل، وبرز رأسها للخارج. لكن ذلك العناق كان دافئًا. شعرت جوديث وكأن قلبها المتجمد يذوب. في ذلك اليوم، بكى أسيل وكأنه يذرف الدموع على جوديث، وتحوّل أنفه إلى اللون الأحمر وهو يبكي. كان من الصعب معرفة والد مَن الذي مات، بينما كان أسيل يبكي من كل قلبه.
ربّتت جوديث بشكل محرج على ظهر أسيل بينما كان يبكي.
[لا تبكي يا أسيل.]
[ولكن كيف لا أبكي؟]
رفع أسيل رأسه بعد أن دفن وجهه في كتف جوديث. كانت رموشه الطويلة مُبللة بالفعل، وكانت عيناه الرماديتان المزرقتان رطبتين، مما أدى إلى اختفاء سطوعهما المعتاد.
رفع أسيل يده وهو يرتجف بحزن ووضعها برفق على خدي جوديث.
[لقد حدث لكِ شيء حزين، كيف لا أبكي؟]
[أنا…]
تابعت جوديث حديثها وهي تفكر أنها لا تعرف مَن يُعزي مَن.
[الغريب أنني لا أبكي.]
لم تكن جوديث الصغيرة تنقصها الدموع، بل كانت طفلة تبكي كثيرًا، تبكي على آلامها البسيطة. لقد بكت جوديث عندما التقت بأسيل لأول مرة، وبكت مراراً وتكراراً عندما أعطاها والدها الحقن.
[لكن لماذا لم تنزل الدموع الآن؟ هل لأنني كنتُ مُحطّمة؟]
اعتقدت جوديث أنها ربما تكون قد تحطّمت بسبب الصدمة.
كان والد جوديث ينقر بلسانه على أدوات المطبخ المكسورة أو التالفة. كان يقول أنه من غير المفيد الاحتفاظ بها، فهي تشغل مساحة فقط، لذلك من الأفضل التخلص منها.
[إذا كان الأمر كذلك، فأنا…]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"