عدنا أنا و هاوارد إلى أوفيلين في تلك الليلة. و كانت الساعة قد تجاوزت وقت دوامه في المعبد.
كما قال هاوارد، لم يستغرق عبور البوابة وقتًا طويلاً. ورغم أنني كنت قد سمعت ذلك مسبقًا، فقد شعرت بالحرج من توتري الزائد دون داعٍ.
عندما وصلنا إلى قصر الدوق، مد هاوارد يده لي من العربة وكأنه يود مرافقتي للنزول.
لسببٍ ما، بدا وجهه أكثر حدةً مما كان عليه قبل مغادرتنا أنيما. وقد شعرت بالأسى لأنني اعتقدت أن ذلك بسبب ما عاناه من العقوبة.
“أنا آسفة، هاوارد.”
“على ماذا؟”
“لأني نمتُ في الطريق. كنت أعلم أنكَ متعب، وما كان ينبغي أن أفعل ذلك……”
“ريكا.”
قاطعني هاوارد وتنهد. ثم أمسك بيدي برفق.
“قلت لكِ أنكِ لا تحتاجين للاعتذار. كم مرة ستعتذرين على أمرٍ ليس بسبَبكِ؟ اعتذرتِ فور استيقاظكِ، ثم بعدها……حتى أنني لم أعد أستطيع العد.”
“لا يمكنني القول أن لا ذنب لي في ذلك. أنت أتيتَ إلى أنيما بسببي، ولهذا تألمتَ.”
كان من الصعب دائمًا رؤية هاوارد يتألم بسبب العقوبة.
فعلى عكس فقدان السيطرة على القوة المقدسة، لم يكن بوسعي فعل أي شيءٍ حيال هذا. لذلك حاولتُ أن أبقى إلى جانبه دون أن أنام.
‘لم أكن أظن أنني سأغفو دون أن أشعر.’
صحيحٌ أنني كنت متعبةً جدًا بسبب ما مررنا به، لكن لم أتوقع أن أفقد وعيي وكأنه أُغشى عليّ. و عندما استيقظت، كان وقت الظهيرة قد مضى، وقد صدمت بشدة.
نزلت من العربة بوجه شاحب وحزين. فنظر إليّ هاوارد بهدوء،
“هل تشعرين بالذنب إلى هذا الحد؟”
“نعم، إلى درجة أنني لا أريد حتى أن أتقاضى أجرة العلاج.”
“أنتِ، من بين الجميع، تقولين شيئًا كهذا؟ لا بد أنكِ تشعرين بالكثير من الذنب فعلًا.”
قال هاوارد ذلك مظهِرًا تعبيرًا متفاجئًا مازحًا.
في العادة، كنت سأسايره في المزاح، لكن للأسف، هذه المرة كان شعوري صادقًا تمامًا.
كنت دومًا أحرص على المال وكأن حياتي تعتمد عليه، لكن الآن، لم أشعر بأي ندم على خسارته. وبالطبع، كان هاوارد يعلم هذا جيدًا أيضًا.
“ريكا.”
لا بد أنه يقول هذا لمواساتي فقط. كما كان يفعل دائمًا.
“العقوبة هذه المرة لم تكن بسببكِ، بل خطئي أنا بالكامل. عوقبت لأني تركت مكاني المحدد في العمل فقط لأنني اشتقت إليكِ بشدة.”
“لكن هذا الكلام……”
“لقد اشتقت إليكِ. اشتقت إليكِ كثيرًا.”
اعترف هاوارد بصوتٍ هادئ. و كان ذلك ما جعله يبدو أكثر صدقًا.
“العقوبة؟ لا تعني لي شيئًا. رأيتكِ كما كنت أريد، وحصلت على حظٍ غير متوقع أيضًا.”
‘حظ غير متوقع.’
عرفت فورًا ما كان يقصده. لقد كان يقصد اعترافي له.
ذلك الاعتراف الذي ترددت كثيرًا قبل أن أبوح به أخيرًا لهاوارد.
“أن أتمكن من عيش هذه السعادة مقابل ألمٍ مؤقت، فهذا أكثر مما أستحق. بل أشعر أحيانًا أنه لو لم أذهب إلى أنيما……لما عرفت أبدًا ما في قلبكِ.”
ألمٌ “مؤقت”، هكذا يقول. أي شخص يصف ساعاتٍ طويلة من الألم من الصباح حتى الليل بهذا الشكل؟
قلبي كان يؤلمني من أجله، لكنني لم أقل شيئًا. لأني لو فتحت فمي،
“أشعر أحيانًا أنه لو لم أذهب إلى أنيما……لما عرفت أبدًا ما في قلبكِ.”
سأفضح تأثري بكلماته.
بدلًا من ذلك، ابتسمت كمن لا يستطيع مجاراته. لأنه أكثر من أي شيء، كان يتمنى أن أكون بخير.
ولحسن الحظ، استجاب هاوارد لرغبتي هذه. و ابتسم برقة.
“حسنًا، فلندخل الآن.”
“نعم، لنذهب ونرتاح بسرعة……آآه!”
كنت على وشك الرد بشكلً عادي، وفجأة ارتفع جسدي في الهواء.
حملني هاوارد بين ذراعيه كما تُحمل الأميرة. فاحتضنت عنقه بشكلٍ تلقائي.
الفرسان الواقفون حولنا أطلقوا أصوات إعجاب: “أوهه!”، وفي اللحظة نفسها، تذكّرت مجددًا أن الجميع سمعوا اعترافي له، فاحمر وجهي بشدة.
“ها……هاوارد! أنزلني!”
همست في أذنه، لكنه لم يُفلتني.
“لا.”
“لماذا؟!”
“لقد آذيتِ قدمكِ. فكوني هادئةً ودعيني أحملكِ.”
“……قلتُ أنني بخير! الجرح شارف على الالتئام بالفعل!”
سأجن فعلاً. ماذا سأفعل بهذه النظرات؟!
تجاهلت نظرات الفرسان التي تكاد تخترقني، ونظرت إلى هاوارد برجاء. و ظننت أنني إن توسلت بهذا الشكل، سيستجيب. لكنني نسيت شيئًا واحدًا.
هاوارد تشيلستون كحبيب……عنيدٌ جدًا.
“أحقًا؟”
قال هاوارد ذلك وهو لا يزال يحملني، ثم توقف عن المشي. و ما لبث أن أدار رأسه ناحيتي.
قبلة-
شفته لامست خدي برقة، ثم ابتعدت بسرعة.
“إذًا، سأعتبر أنني من لا يزال مريضًا.”
فوووش!
اشتعل وجهي كأنه سينفجر من شدة الحرارة. و لم أعد قادرةً على قول أي شيء.
ليس فقط لأن كلام هاوارد كان استكمالًا لمزاحي السابق، بل لأنني التقيت بنظرات الخادمات اللواتي كنّ بانتظارنا عند مدخل القصر.
آاااه! ما، ما الذي يجب أن أفعله الآن؟!
“بـ-بسرعة، هاوارد، لنذهب بسرعة!”
دفنت وجهي في صدره محاوِلةً إخفاءه. فانفجر هاوارد ضاحكًا، وكأنه لم يعد قادرًا على التحمّل.
و ضحك بصوتٍ عالٍ تردّد صداه في المكان.
***
وبعد ذلك، مرّ أسبوعٌ بسرعة البرق.
الحياة في قصر الدوق بعد عودتنا عادت تقريبًا إلى ما كانت عليه. هاوارد كان يذهب إلى المعبد بانتظام، وأنا كنت أقضي وقتي بانتظاره، أتنقل بين أشياء مختلفة.
وإن كان هناك شيءٌ واحد فقط قد تغيّر. فهو…
“هاوارد!”
…أن لمساتنا الحميمة أصبحت طبيعيةً أكثر.
ما إن عاد هاوارد من المعبد ودخل غرفتي، حتى اندفعتُ نحوه واحتضنته. فاستقبلني بقوة و بابتسامةٍ لطيفة تعلو وجهه.
“هل اشتقتِ إليّ؟”
“همم، قليلاً فقط؟”
عند سماعه ذلك، تحوّلت ملامحه إلى شيءٍ من العبوس. فنظرت إلى وجهه وابتسمت برقة.
“كنت أمزح. لقد اشتقتُ إليكَ كثيرًا جدًا. بهذا القــــــدر.”
قلت ذلك وأنا أفتح ذراعيّ إلى أقصى حد. وبرغم أنه كان مجرد تصرفٍ بسيط، الا أن هاوارد انفجر ضاحكًا من جديد وكأنه رأى شيئًا مضحكًا جدًا.
ثم بدأ يمطر وجهي بقبلاتٍ خفيفة متفرقة.
خلال الأسبوع الماضي، كنا لا نفترق تقريبًا منذ لحظة عودته من العمل وحتى يخلد إلى النوم، لكن هذا النوع من المودة……لم أستطع التعود عليه تمامًا.
لأنني حين أستقبل تلك اللمسات المليئة بالحب، أشعر تمامًا كم يحبّني. وكان قلبي يدغدغني وكأن أحدهم يمرّ عليه بلطف.
“كـ، كفى……”
استسلمت بخجل، معلنةً هزيمتي. وبالطبع، لم يكن ذلك لأني كرهت الأمر، فبعد لحظة، بادلت هاوارد قبلةً واحدة كنوع من الرد. فابتعد هاوارد وهو يضحك وكأن الأمر يعجبه.
ثم نظر إليّ لبرهة بصمت.
“ريكا، هل أنتِ متفرغةٌ غدًا في المساء؟”
“غدًا في المساء؟ طبعًا.”
فأنا لا أملك جدولًا محددًا على أي حال.
أومأت برأسي وأنا أجيبه، فابتسم هاوارد فوراً.
“إذًا، ما رأيكِ بأن نخرج في موعدٍ غدًا؟”
موعد؟
اتّسعت عيناي من المفاجأة غير المتوقعة. فرأى هاوارد ردة فعلي، و أمسك بيدي برفق وتابع كلامه،
“هناك مسرحيةٌ ستُعرض غدًا في الثامنة. سمعت أنها تحظى بشعبية هذه الأيام، وكنت أفكر أن نذهب سويًا إذا لم تمانعي.”
“آه! أحب ذلك!”
أجبت فور أن أنهى كلامه. و شعرت بأن قلبي ينتفخ من الترقّب والفرح.
ليس فقط لأنها ستكون أول مرة أشاهد فيها مسرحية منذ قدومي إلى هذا العالم، بل لأنني سأخرج مع هاوارد في موعد، بعد فترةٍ من الغياب.
أو بالأحرى، في الحقيقة، لم تكن فترةً طويلة جدًا.
في الماضي، كانت مواعيدي مع هاوارد بدافع أداء دور “الحبيبة المزيفة” بجدّية، أما الآن، فبعد أن تبادلنا المشاعر بصدق، فهذه أول مرة بحق.
نبض-
نبض-
كان قلبي ينبض بسعادة.
“حسنًا، إذًا لنلتقي غدًا أمام المسرح. سأطلب من كبيرة الخادمات تجهيزكِ، فارتدي شيئًا دافئًا.”
“نعم!”
أجبت بحماس، ثم قضيت باقي الليل بالدردشة مع هاوارد، كما فعلنا في الأيام الماضية، حتى حان وقت النوم.
وفي اليوم التالي، خرجت من القصر بعد أن تزيّنت بأجمل ما لديّ، مترقبةً أول موعدٍ لنا كحبيبين.
وبسبب خروجي المبكر، وصلت إلى المسرح قبل الموعد، وكان عليّ الانتظار حتى يأتي هاوارد.
لكن لم يكن ذلك مزعجًا، فاليوم بالتأكيد سيكون مليئًا بالفرح.
إلا أن الحياة لا تسير دائمًا كما نريد.
وبينما كنت أبتسم وأحدّق باتجاه مدخل المسرح، وصلني صوتٌ مألوف من خلفي.
“الآنسة إيفريت.”
فاستدرت تلقائيًا نحو مصدر الصوت. وما إن فعلت، حتى وقعت عيناي على شعر أزرق داكن.
كانت سيرديا آفلز.
_____________________
الله لا حييس
توني اقول وناسه موعد ورخص بس وجع كله من بروتور
المهم كل يوم ريكا تستقبل هاوارد كذا؟ تجنن ابي رسمه غش 😔
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 93"