وقف أوديا في مكانها تحدّق في ريكا التي اختفت وسط هالةٍ من الضوء.
هناك كلماتٌ لم تتمكن من قولها كانت تدور عند شفتيه.
كان عليها أن تقولها، لكنها لم افعل. للسبب ذاته الذي جعل ريكا تتردد في البوح بمشاعرها لهاوارد تشيلستون. لأنها كانت تخشى أن تؤذي ريكا إن سمعت كل شيء.
خافت أن الحقيقة التي ستنطق بها ستجعل ما تبقى من حياة تلك الفتاة القليلة أكثر تعاسة.
“……ومع ذلك، أعطيتها نصيحة. يا للسخرية.”
تنهدت أوديا بضحكةٍ ساخرة. ثم دوى صوت جرس برج الساعة في أذنيها.
كان إعلانًا عن حلول منتصف الليل.
وهكذا، بعد عدة دقات، اختفى برج الساعة الذي كان يعلن عن انتهاء ليلة الموتى. وكذلك الباب الذي كان أمام عينيها.
الباب الأبيض الذي خرجت منه ريكا اختفى دون أن يترك أي أثر، وكأنه لم يكن موجودًا أبدًا. وفجأة أصبحت الأرض محاطةً بمرج أخضر وسماء عالية فقط.
وكأن كل شيء كان مجرد حلم.
استدارت أوديا وبدأت تمشي ببطء بين تلك المناظر. و عادت إلى ذهنها الكلمات التي تمتمت بها سرًا دون أن تسمعها ريكا.
“هاه……يبدو أن الإنسان……مهما كان، يلتقي بمن كُتب له أن يلتقي به، في النهاية……”
منذ زمنٍ بعيد، حين عرفت بالعلاقة السيئة التي جمعت بين الاثنين، اتخذت قرارها. ألا تسمح لهما باللقاء مجددًا مهما حدث.
ولهذا السبب، نطقت بكذبةٍ ما كان ينبغي عليه قولها.
“تلك الفتاة ماتت، يا سيدي الشاب.”
رغم أنها رأت وجه هاوارد حين سمع تلك الكلمات، ورأت كم من الدموع قد ذرف، إلا أنها أدارت وجهها عنه بإصرار.
بل وكانت تعتبر فقدان هاوارد لجزءٍ من ذاكرته بسبب الصدمة النفسية أمراً جيداً. فقد ظنت أن ذلك هو طريقهٌ لرد الجميل إلى من أنقذها ذات يوم.
لكن الآن، لم تعد واثقةً من هذا. و مع ذلك، لم تكن تعتقد أن قرارها في ذلك الوقت كان خاطئًا……
“إذا كانا قد التقيا مجددًا في النهاية، فهل كان ما فعلته لمنعهما أي معنى؟”
تنهدت وهي تزفر من بين شفتيها.
‘في النهاية، ما سيحدث سيحدث.’ لا تعرف متى أو أين سمعت هذه الجملة، لكن آوديا شعر أن ريكا وهاوارد هما الدليل الحي على صحتها.
وعلى النقيض من ذلك، هي لم تستطع إنجاز أي من الأمور التي كانت تخطط لها.
فبعد كل شيء، دار الزمن والتقيا ريكا وهاوارد من جديد، وأصبحا أقرب من قبل، وهي نفسها أصبحت متعلقةً بريكا، وبدأت تقلق عليها.
“أوديا!”
“عرفتِ أنها أنا من أول وهلة! كنتُ قلقةً من أن الوقت قد مرّ كثيرًا فلم تعرفيني.”
“هيهي، صحيح. أوديا كانت مرتزقةً ماهرة.”
ريكا كانت تظن أن أوديا مجرد فاعلة خير اعتنت بها حين لم يكن لها مكانٌ تذهب إليه، لكنها كانت مخطئةً تمامًا.
من الأساس، لم تكن أوديا بجانب ريكا بدافعٍ نقي أو نية طيبة. فرعايتها لها كانت بدوافع غير نزيهة تمامًا.
“هل عليّ أن أتوقف عن المراقبة وأقتلها فحسب؟”
“أنا متأكدة أنني رأيت ذلك اليوم، كان ذلك النقش على جسد هذه الفتاة.”
في زمنٍ قديم لم تعد تتذكره بوضوح، حاولت أوديا قتل ريكا التي كانت مريضةً وغير واعية.
ولم يكن ذلك المرة الوحيدة. فهي كانت على أتم الاستعداد لقتل ريكا في أي لحظة، وكانت تبقى بقربها لهذا السبب فقط، تنتظر اللحظة التي تتأكد فيها أن وجودها يمثل خطرًا على هاوارد.
ومرت الشهور، ثم مرت السنوات على هذا الحال. لكن في النهاية، أوديا لم تعد ترغب في قتل ريكا التي كانت تبتسم لها بذلك الوجه البريء.
مع ذلك، لو كانت قد رأت مجددًا ذلك النقش الذي لمحته ذات يوم على جسدها……فهي لا تعرف حقًا ما الذي كان سيحدث حينها.
“على أي حال، كل هذا لم يعد يعني لي شيئًا الآن.”
أوديا ستورديج كانت من الأموات. ولا يحق للموتى أن يتدخلوا في مستقبل الأحياء.
كانت أوديا تأمل فقط أن يقود القدر هاوارد و ريكا نحو طريق يقل فيه بؤسهما قدر الإمكان.
نظرت مرةً أخرى نحو الاتجاه الذي اختفت فيه ريكا، ثم زفرت تنهيدةً عميقة واستدارت تمشي مبتعدة.
وما لبث أن اختفى شعرها البني وسط ضوءٍ ساطع.
***
بعد لقائي بأوديا، اتجهت شبه راكضةٍ نحو خارج ساحة الفعالية. كان ذلك لأفي بالوعد الذي قطعته لهاوارد.
“عندما تخرجين بعد لقائكِ بأوديا……هل يمكنكِ أن تقولي لي مجددًا ما قلتِه قبل قليل، ولكن بشكلٍ واضح هذه المرة؟”
ما إن اتخذت قراري، أردت أن أقول كل شيء بأسرع ما يمكن. لأنني إن فقدت هذه اللحظة، وهذا الشعور، فقد تعود تلك الحيرة لتمنعني من الحديث مجددًا.
ولأنني كنت أريد رؤية هاوارد وهو يفرح.
‘……كيف سيكون رده إن اعترفت له بشكلٍ صحيح؟’
هل سيصمت تمامًا كما فعل أول مرة؟ أم أنه سيفرح ويقفز من السعادة؟
خرجت وأنا أتخيل كل الاحتمالات. و قلبي كان ينبض بعنف. لكن، بخلاف ما كنت أرجوه، الشخص الذي كان ينتظرني أمام ساحة الفعالية لم يكن هاوارد.
بل كان بعض الفرسان ذوي الوجوه المألوفة، يلفّون الضمادات على أجزاء مختلفة من أجسادهم.
كانوا فرسان الحراسة من الدوقية الذين رافقوني إلى أنيما. وبما أنهم وصلوا إلى هنا، فلا شك أنهم التقوا بهاوارد وأبلغوه أني بأمان.
بسبب التوتر والانشغال الشديد، شعرت بالذنب متأخرةً لأني لم أعرهم أي اهتمامٍ في البداية.
فحصت حالة فرسان الحراسة أولًا، واطمأننت حين بدا أنهم بخير أكثر مما توقعت، ثم سألتهم بحذر،
“ذلك……هاوارد، أعني، الدوق……أين هو الآن؟”
“في الواقع……”
تبادل الفرسان النظرات فيما بينهم قبل أن يبدؤوا في الحديث.
و بمعنى مختصر، كانت القصة على هذا النحو، بينما كنت ألتقي بأوديا، جاء كهنة أنيما يطلبون من هاوارد المساعدة.
طلبوا دعمه في معالجة الأوضاع بعد اجتياح الوحوش، وكذلك في تمشيط المنطقة بحثًا عن أي وحوشٍ قد تكون متبقية.
حين سمعت ذلك، شعرت بالصدمة.
……يا إلهي، لم يخطر في بالي احتمالٌ كهذا.
كان علي أن أتوقع ذلك منذ أن علمت بأن الكهنة الذين كان من المفترض أن يشاركوا في ليلة الموتى قد ذهبوا للتعامل مع آثار هجوم الوحوش.
‘بالطبع لن يفوتوا فرصة مثل هذه بوجود شخص بمستوى هاوارد.’
حتى لو كنت أعيش في أنيما، لو سمعت بأن قائد فرسان الهيكل قد وصل، لكنت ركضت إليه أطلب المساعدة.
خاصةً وأن أنيما ليست منطقةً تظهر فيها الوحوش كثيرًا، وبالتالي فهي ليست مستعدةً كأوفيلين، لذا لابد أن الأضرار كانت فادحة.
رغم أنني فقدت وعيي تقريبًا في نفس لحظة ظهور الوحوش، ولم أسمع تفاصيل دقيقةٍ عن الوضع، لكنني كنت قادرةً على استيعاب هذا القدر من الأمر.
ربما كانوا قد فكروا حتى في إيقاف ليلة الموتى حتى. لكن بما أن الأضرار لم تصل إلى ساحة الفعالية، وبما أن عددًا لا بأس به من النبلاء كان حاضرًا، فالأرجح أنهم لم يستطيعوا إلغاءها في النهاية……
‘……مهلًا، قلت هناك نبلاء كثيرين في الفعالية؟’
حين وصلت إلى هذه الفكرة، شعرت فجأة بدوار.
لحسن الحظ أنني كنت أرتدي عباءةً تغطي حتى رأسي في اليوم الذي هربت فيه من بروتور. وإلا كانت لتنتشر شائعة بأن عشيقة الدوق تشيلستون قد فقدت عقلها.
حاولت تهدئة قلبي المتسارع، ثم عدت إلى النزل تحت حراسة الفرسان. وهناك جلست على الأريكة بجانب النافذة، أنتظر هاوارد بلا نهاية.
حتى الفرسان لم يكونوا يعرفون متى سيعود، لذا قررت أن أنتظره مهما طال الوقت.
‘……الثلج يتساقط.’
بدأ البياض يزداد تدريجيًا خارج النافذة.
نظرًا لكون أنيما تقع شمال أوفيلين، يبدو أن الشتاء يأتي إليها أبكر قليلًا.
ولأني لم أجد ما أفعله بينما كنت أنتظر هاوارد، بدأت أراقب الخارج وأعدّ حبات الثلج المتساقطة.
واحدة.
اثنتان.
ثلاث……
ثم، يبدو أنني أغمضت عيني للحظة.
‘……هاه؟’
حين بدأت أستعيد وعيي وأفتَح جفنيّ ببطء، شعرت أن هناك أمرًا غير طبيعي.
لم أكن مستلقية، لكن الإحساس كان وكأنني نمت متكئةً لعدة ساعات واستيقظت للتو.
‘هل من الممكن أن يكون قد حلّ الليل مجددًا؟’
بمجرد أن خطرت لي هذه الفكرة، تلاشت آثار النعاس فورًا.
فلم يكن بإمكاني قضاء يوم آخر في أنيما. و لكي لا يتألم هاوارد أكثر، كان لا بد لي من العودة إلى أوفيلين بأسرع وقتٍ ممكن.
رفعت رأسي بسرعة محاولة النهوض من مكاني. وفي تلك اللحظة، اتسعت عيناي بدهشة.
فقد كان هاوارد نائمًا أمامي. بل على نفس الأريكة، على مسافةٍ قريبة جدًا، حتى أن أنفينا كادا أن يتلامسا لو تحركنا قليلًا.
_______________________
قعدت اسب بروتور ووحوشه ذي احسب هاوارد مب راكع طول الفصل بس عنه ذاه منورنا 😭😭😭
المهم أوديا ليه ماشرحت زين؟ وش الختم الي على جسم ريكا اااااااا
خل نشوف من يكتشف اول ان ريكا هي ام شعر اسود هاوارد ولا ريكا؟
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 86"