“ماذا قلتِ الآن؟”
توقفتُ فورًا عن الكلام وسألتها. و لأنني كنت أتحدث باستمرار، تداخل صوتي مع صوتها فلم أسمع ما قالت بوضوح.
وكذلك، لقد كانت أوديا تهمس بصوتٍ خافت جدًا.
لكن أوديا لم تُجب على سؤالي. بل هزّت رأسها وكأن ما قالته ليس مهمًا.
ثم استجمعت تعابير وجهها وغيرت الموضوع.
“أخبريني كيف حالكِ طوال هذه الفترة، ريكا؟”
“لكن قبل ذلك، قولي لي ماذا قلتِ-“
“أنا فقط فضولية جدًا. الوقت المتبقي ليس كثيرًا.”
عند سماعي لذلك، نظرتُ بسرعةٍ إلى ساعتي.
ربما من باب الاعتبار للمشاركين في ليلة الموتى، كان هناك برج ساعة كبير وحيد يقف في وسط السهل الواسع.
تأكدت أن الوقت المتبقي لا يزيد عن ساعة واحدة، فتراجعت عن رغبتي في الإلحاح على أوديا.
نعم، ما أهمية ذلك؟ الأهم هو أنني أتحدث معها الآن.
“تعرفين، في السابق…”
جلست على العشب وبدأت أتحدث بهدوء. و قصصتُ لها كم كنت حزينةً بعد موتها، وكيف عملت في نزل آنا واكتشفت أن حياتي محدودة، ثم اتجهت إلى أوفيلين، وهناك قابلت هاوارد، وكل ما حدث بعد ذلك.
في الأصل لم أكن أنوي أن أخبر أوديا بقصة تورطي مع بروتور أو بسرّ موعد انتهاء حياتي، لكن أثناء حديثنا عن لحظاتٍ لا تعرفها، انسكبت كل الحقيقة دون قصد.
عندما فكرت في الأمر، أدركت أن إخفاء ذلك كان أمرًا غبيًا. فاليوم هو آخر يومٍ لي معها، أليس كذلك؟ ولا توجد فرصةٌ أخرى لأحادثها مجددًا.
ربما تكون هذه حقيقة مؤكدة، فأنا شخصيةٌ عادية بعكس ووديا التي هي شخصية غير قابلة للعب. لكنني لم أذكر هذا الأمر صراحة.
ثم قلت مازحةً وأنا أبتسم بخفة أنني إذا متُّ والتقينا مجددًا، فلنقضِ وقتًا ممتعًا معًا آنذاك.
كانت أوديا التي جلست بجانبي تبدو مصدومةً من تلك الحقيقة غير المتوقعة، لكنها لم تُفسد الجو الحزين الذي حاولت أن أتجنبه. وبفضل ذلك استطعت أن أفتح قلبي وأقول ما أردت حقًا قوله.
“أوديا، في الحقيقة ما زلت أحمل الكثير من القلق.”
“ما هو؟”
“هل من الصحيح أن أقبل مشاعر هاوارد؟ هل يحق لي الاعتراف به وأنا شخص ربما محكوم عليه بالموت؟ وهل سيُحدث ذلك مشاكل في المستقبل؟……”
لم أستطع أن أكمل الكلام، وتركته معلّقًا. لأن قلبي كان مثقلًا بالكثير من الهموم.
كل تلك المخاوف التي تدور في رأسي كانت تعذبني بلا توقف. و لم أرد أبدًا أن أكون سببًا في ضرر هاوارد بسبب وجودي.
وفي النهاية انحنيت برأسي بشدة، ثم فجأة تحدثت أوديا،
“ركا، منذ زمنٍ كنت أريد أن أقول لكِ شيئًا. أنتِ تهتمين بالآخرين كثيرًا. وهذه من عيوبكِ.”
“لكن، أليس من الجيد أن يهتم الإنسان بالآخرين؟ لا أظن أن هذا شيءٌ سيئ-”
“لا، إنه سيءٌ جدًا.”
قاطعت أوديا كلامي بحزم. و نظرت إليّ بعينيها الذهبيتين مباشرة.
“على الأقل، بالنسبة لكِ، هذا سيء.”
“…….”
“أحيانًا عليكِ أن تكون أنانية. يجب أن تتصرفِ من أجل نفسكِ فقط. وتوقف عن حفر الأنفاق بمفردكِ دائمًا. هذه أيضًا من عيوبكِ.”
تنهدت أوديا بصوتٍ منخفض ثم أكملت كلامها.
“ريكا، إذا وضعت يدكِ على قلبكِ وفكرت، هل فعلتِ شيئًا يستحق أن يُطلق عليكِ به لقب المُهرطقة؟”
“لا! أبدًا لم أفعل!”
“إذاً، هل تعتقدين أن السيد، لا، الدوق سيكرهكِ فقط لأنكِ قبلت مشاعره؟ بسبب كونكِ نوكس؟”
“……هاوارد لن يفعل ذلك أبداً.”
كان ذلك سؤالًا يمكن لأي شخص شهد قربه أن يجيب عليه بثقة.
كنت متأكدةً من هذه النقطة.
عندما سمعت أوديا إجابتي، هزّت كتفيها كمن يقول: ما المشكلة إذًا؟
“إذاً، ثقي في الدوق. ثقي في كلماته التي قال فيها أنه يحبكِ ويريد أن تكونِ بجانبه. حتى لو لم تكوني مستعدًا للحديث الآن، فعلى الأقل عليكِ أن تثقي به.”
‘هل يمكنني حقًا أن أفكر بهذه البساطة؟’
ترددت للحظة ثم سألتها مجددًا.
“ماذا لو عانى هاوارد كثيرًا فيما بعد؟”
في الحقيقة، هذا كان أهم قلقي الجوهري.
كنت قلقةً من أن أموت، ويترك هاوارد وحيدًا.
هل سيتمكن هاوارد، الذي عاش حياةً صعبة أصلاً، من تحمل هذه الخسارة مرة أخرى؟
كلما فكرت في هذا القلق الذي يراودني، بدأت أرتعش بشدة. و سرعان ما بدأت دموعي تتجمع في عينيّ.
ورأت أوديا دموعي التي حاولت السيطرة عليها، فردّت وهي تربّت على كتفي عدة مرات وهمست بصوت منخفض،
“لا أعتقد أن هذا سؤالٌ يمكنني أن أجيب عليه. ريكا، عليكِ أن تجدِ الحل بنفسكِ. لكن هناك شيء واحد يمكنني قوله لكِ بثقة.”
“….…”
“أشعر أنه سيكون أمرًا محزنًا جدًا إن كان الشخص الذي أحبه يتردد في البوح بمشاعره لهذا السبب. وإن كان السيد الشاب الذي أعرفه، فبالتأكيد سيكون كذلك أيضًا.”
عندما سمعت كلمات أوديا، تخيلت فجأة. ماذا لو كان الوضع معكوسًا؟
ماذا لو أن هاوارد أخفى مشاعره لنفس السبب الذي أخفي أنا به مشاعري الآن، ولم أعرف الحقيقة إلا بعد أن رحل عني؟
بمجرد أن تخيلت ذلك، اتضحت أفكاري تمامًا.
كلام أوديا كان صحيحًا. ذلك سيكون أمرًا قاسيًا ومروعًا للغاية.
“……شكرًا لكِ، أوديا.”
“ما بيننا لا يستدعي شكرًا على مثل هذا.”
ضحكت أوديا بخفةٍ كأنها أطلقت زفرة، وضحكت أنا أيضًا بالمقابل، وفجأة سُمع صوت عالٍ من مكان غير بعيد.
دَنج-.
دَنج-.
كان صوتًا قادمًا من برج الساعة.
دون أن أدرك، لم يتبقَ سوى خمس دقائق على انتهاء الفعالية.
ومع إدراكي لوداعٍ وشيك، ظهرت فجأةً بوابة بيضاء على بعد خطواتٍ قليلة.
‘الآن وقد تذكرت، قيل لي أنه يجب أن أخرج عبر الباب قبل انتهاء الوقت.’
قيل أنه إن لم أخرج في الوقت المناسب، فسأظل عالقًا في مكان الأموات إلى الأبد.
وبوجود هاوارد، لا يمكنني أن أسمح بحدوث ذلك وأنا مكتوفة الأيدي.
من المؤسف، لكن حان وقت الفراق.
نظرت مرة أخرى إلى أوديا. و ربما لأنها شعرت أيضًا بأن وقت الوداع قد حان، فقد كانت تنظر إليّ وهي تبتسم بهدوء.
“لننهض الآن، حسنا؟”
نهضت أوديا أولًا من مكانها، ثم مدت يدها نحوي. فأمسكت بيدها ونهضت، وسرنا معًا حتى وصلنا إلى الباب.
وقبيل بلوغنا عتبة الباب، طرحت أوديا فجأةً سؤالًا عجيبًا دون مقدمة.
“ريكا، هل ما زلتِ تعتقدين أنكِ متجسدة في هذا العالم؟”
“ها أنت تعودين لهذا الكلام من جديد؟”
أجبتها بلا مبالاة. فلم تكن هذه المرة الأولى التي تسأل فيها ذلك.
منذ أن اعترفتُ لها بأنني متجسدة، اعتادت أن تطرح هذا السؤال كلما مر وقتٌ طويل على حديثنا عنه.
وبالطبع، كنت أتفهم سبب ذلك. فحتى لو كان هذا العالم مبنيًا على لعبة، من سيصدق بسهولة أن لاعبًا قد تجسد في أحد شخصياته؟
“أعلم أنه من الصعب تصديق ذلك، لكن صدقيني الآن. قلت لكِ هذا مرارًا. و قد بدأت أشعر بالأسى فعلًا.”
عندما عبست بشفتي، ضحكت أوديا ضحكةً باهتة.
و بدت وكأنها تفكر في شيء للحظة، ثم أضافت،
“ريكا.”
“نعم؟”
“أعتذر على كل شيءٍ مضى.”
ما هذا؟ هل تعتذر لأنها لم تصدقني؟
أملت رأسي مستغربةً ثم ابتسمت بلطف.
“لا بأس. لا داعي للاعتذار بيننا، تعلمين أنني كنت أمزح.”
عندها بدت أوديا وكأنها همّت أن تقول شيئًا، ثم أغلقت فمها. و يبدو أنها اقتنعت بجوابي.
نظرت أوديا سريعًا نحو برج الساعة، ثم دفعتني على عجل من ظهري.
“بقيت دقيقةٌ واحدة. اذهبي الآن.”
“حسنًا. اعتني بنفسكِ.”
فتحت الباب، وخطوت قدمي إلى ما وراء العتبة. ثم لوّحت بيدي بشدة نحو أوديا.
وفيما بدأت الرؤية تتلاشى تدريجيًا، وصلني صوت أوديا خافتًا.
“وداعًا، ريكا. لنلتقِ بعد وقتٍ طويل في المرة القادمة. لقد تحدثنا طويلًا اليوم، فلم يعد هناك ما يُقال.”
كنت أعلم تمامًا أن ما قصدته هو أنها تأمل أن أبقى على قيد الحياة.
لا أعلم إن كانت سترى ذلك، لكنني حاولت أن أبتسم بأقصى ما أستطيع.
“نعم، سأفعل.”
وبتلك الكلمات، انمحت الرؤية تمامًا أمام عيني.
و دون أن أعرف ما هو التعبير الذي ارتسم على وجه أوديا التي بقيت خلفي.
_____________________
اقدم اعتذاري لأوديا على سوء الفهم معليش بس الوضع كان مايطمن مادريت انس كتكوته كذا 😭
طيب عاد كان قلتي شي عن الشيطان جتى لو افكار ابي اعرف انا
المهم ريكا رايحه ترد على مشاعر هاوارد ياسعدنا كلنا ✨✨✨✨✨✨
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 85"