كانت أوديا تحدق بي بعينين متسعتين من الدهشة. و كان وجهها يوحي بأنها لم تتوقع مطلقًا قدومي.
حسنًا، من الطبيعي أن تفكر هكذا. فالشخص الذي تتذكره أوديا كان مفلسًا يُسلب منه كل شيء عند منتصف الليل كل يوم.
بالطبع، حتى الآن لم يتغير وضعي كثيرًا سوى أنني حصلت على شعرٍ دائم لا يختفي.
حدّقتُ في أوديا التي كانت تنظر إليّ وكأنها لا تُصدق، ثم ابتسمتُ لها ابتسامةً عريضة. واندفعت نحوها راكضةً بسرعة.
“أوديا!”
فتحت ووديا ذراعيها بدهشة وهي تنظر إليّ بذهول، ثم احتضنتني بعفوية.
كان في حضنها العذب رائحةٌ مألوفة. و إحساسٌ منعش كأنني في وسط الغابة.
إنه حضن أوديا……
‘إنها فعلًا أوديا.’
كأن الزمن قد عاد إلى الوراء. إلى تلك الأيام التي كنت أعيش فيها مع أوديا قبل سنوات.
لا، بل إلى ذلك اليوم تحديدًا، حين سقطت فجأةً في مكانٍ غريب وكانت هي من أخذتني معها دون تردد.
دفنت وجهي في حضن أوديا بتأثرٍ شديد ولم أستطع الحراك للحظات.
ربتت أوديا على ظهري بهدوء بينما كنت مستسلمةً لمشاعري.
كنت أود البقاء هكذا طويلًا، لكنني قاومت رغبتي وابتعدت عنها. فلا يمكنني أن أضيع الوقت عندما لا يكون لدي الكثير منه لأضيعه.
عندها، لم أكن لأملك وجهًا أُقابل به هاوارد لو خرجتُ هكذا.
“لقد تعرفتِ عليّ على الفور! كنت قلقةً من ألا تتعرفي عليّ لأن الوقت مرّ.”
تحدثت بمرحٍ وأنا أنظر للأعلى نحو أوديا التي كانت أطول مني، فنظرت إليّ مطولًا قبل أن تتحدث بصوتٍ خافت.
“……لقد عشنا معًا لعدة سنوات، كيف لا أتعرّف عليكِ؟ إذا قلتِ ذلك، فإنكِ تجرحين كبريائي.”
“هيهي، صحيح. أوديا كانت مرتزقةً ماهرة.”
وافقتها بابتسامةٍ عريضة. فابتسمت أوديا بخفة وهي تنظر إليّ.
ثم شعرت بأن التوتر القليل الذي كان بيننا بدأ يتلاشى.
“أنا متأكدة أنني قلت لكِ ألا تضحكي بتلك الطريقة الغبية. الناس سيستخفون بك. خصوصًا وأن مظهركِ يشبه الحيوانات الصغيرة، فلا يمكنكِ فعل ذلك أبدًا.”
“هاه؟ عن ماذا تتحدثين؟ هذا غير صحيح! الناس يخافون مني أحيانًا، لكن لا يمكن أبدًا أن يستهينوا بي.”
“يستهينون بكِ؟”
“نعم! صرت أعرف كيف أقول كل ما أريد، وحتى أضرب من يستحق الضرب. منذ مدة، صفعت أحدهم على وجهه. كان أمرًا يستحق الانتقام.”
لوّحت بيدي في الهواء وكأنني أضرب أحدهم. و كنت أتذكر الموقف حين ضربت بروتور إيتينتيا.
ضحكت أوديا بصوت عالٍ هذه المرة من منظري المضحك،
“صحيح، أحسنتِ. من يستحق الضرب يجب أن يُضرب.”
ثم راحت تمسح على رأسي ببطء.
حتى تلك اللحظة، كان الجو بيننا جيدًا. أي، إلى أن اكتشفت أوديا الجرح في رأسي بينما كانت تمسّد شعري.
“أنتِ……كيف جرحتِ نفسكِ هكذا؟”
لأن الجرح كان قد بدأ يلتئم، كنت أظن أن وضع القليل من الدواء بدلاً من الضماد سيخفيه، لكن يبدو أنني كنت مخطئة.
ضحكتُ بخفةٍ وقلت تبريرًا على عجل.
“انزلقت قدمي قليلًا وتدحرجت على الدرج.”
لم أرد أن أبدأ في الحديث عن الوحوش أو ما شابه. فلو فعلت، سيكون عليّ التطرق إلى بروتور إيتينتيا، ولا وقت لديّ لإضاعته بتلك القصص.
“……حاولي أن تكوني أكثر حذرًا.”
تجهم وجه أوديا وكأنها هي من تألمت.
لحسن الحظ، لم تبدُ وكأنها تشك في كلامي. ففي النهاية، سواء اصطدمت بسبب وحش جعل العربة تهتز أو تدحرجت من الدرج، النتيجة واحدة.
مع ذلك، لم أشأ أن ترى أوديا الجرح كثيرًا، فبدأت أرتب شعري متظاهرةً بالاهتمام به محاولة إخفاءه، لكن أوديا بدت وكأن شيئًا تذكّرته فجأة،
“بالمناسبة، كيف وصلتِ إلى هنا يا ريكا؟”
“هاه؟”
“أعني……كما تعلمين، ليلة الموتى ليست مكانًا يستطيع أي أحدٍ الدخول إليه. الدخول إليه يتطلب الكثير من المال.”
“أعرف. وبوضعي الطبيعي، ما كان لي أن آتي إلى هنا أبدًا. ولهذا لم أفكر في القدوم طوال السنوات الماضية.”
و سرعان ما نظرت أوديا إلى ملابسي بعينيها الذهبيتين.
“الآن بعد أن أنظر إليكِ، تبدو ملابسك مختلفةً تمامًا. هل حدث أمر جيد؟”
“لم يحدث لي شيءٌ جيد بالضبط، لكن شخصًا طيبًا ساعدني، ولهذا استطعت القدوم إلى هنا. آه، ربما يجب أن أعتبر هذا أمرًا جيدًا أيضًا.”
“شخصٌ طيب؟”
أمالت أوديا رأسها قليلًا.
و بينما كنت أفكر في كيفية الشرح، تذكّرت ما قاله هاوارد عن أوديا، فسارعت بالكلام.
من المؤكد أنها ستكون سعيدةً عندما تعلم، أليس كذلك؟ فقد قال أنها كانت فارسةً في دوقية تشيلستون.
“آه، إنه شخص تعرفينه أنتِ أيضًا. تعرفين الدوق تشيلستون، أليس كذلك؟ لا، ربما سيكون أوضح لو قلت لكِ هاوارد تشيلستون؟”
قلت ذلك وأنا أبتسم ابتسامةً عريضة. لكن، كل ذلك كان مجرد وهم من طرفي.
“……هاوارد تشيلستون؟”
وصلني صوتٌ مرتجف يهمس في أذني.
أوديا التي شحب وجهها تمامًا لم تستطع إتمام حديثها، واكتفت بتحريك شفتيها بصعوبة.
لم أكن أعلم السبب، لكنها بدت وكأنها تلقت صدمةً شديدة.
“قابلتِ السيّد الشاب؟ كيف؟”
أمسكت أوديا بكتفي وسألتني بلهفة. وعندما بدأت أتساءل بدهشة عن هذا التصرف الغريب وغير المتوقع، أسرعت هي بالكلام،
“ما علاقتكما ببعض؟”
اختفى ما كنت أنوي قوله تمامًا عند سماعي ذلك السؤال. فقد تذكرت فجأةً ما حدث بيني وبين هاوارد قبل أن أدخل إلى ليلة الموتى.
“ماذا قلتِ؟ لم أسمع جيدًا.”
“هل يمكنكِ أن تقوليها مرة أخرى؟ من فضلكِ؟”
“بعد أن تقابلين أوديا……هل يمكنكِ أن تكرري لي ما قلته قبل قليل؟ لكن بوضوح هذه المرة؟”
و لمجرد أنني تذكرت وجهه المضطرب، احمرّت وجنتاي.
“مـ-ما علاقتنا؟ لا توجد علاقة! أنا وهاوارد فقط……”
حاولت أن أجد وصفًا مناسبًا في رأسي، لكن لم يخطر لي شيء مقنع.
عاشقان مزيفان؟ لا، لم يعد هذا التعبير يناسب ما نحن عليه الآن.
علاقة بعقد؟ لا أيضًا. يبدو رسميًا وباردًا جدًا. ويشعرني وكأنني أكذب على أوديا.
مجرد أصدقاء؟ لا، لا. هذا أيضًا لا يعبّر عن الحقيقة……
وبينما كنت أتنقل بين هذه الاحتمالات، استسلمت في النهاية وقررت قول ما هو أقرب إلى الواقع.
“……نحن شخصان يُعجب كل منا بالآخر.”
آآه. ما هذا الذي قلته؟ يا للحرج!
بمجرد أن خرجت الكلمات من فمي، شعرت بإحراج مضاعف. فسعلتُ بصوتٍ منخفض سريعًا ثم تابعت الكلام على الفور.
“أ-الأمر هو كالتالي……ما حدث أنني أصبحت، دون أن أدري، الحبيبة المزيفة لهاوارد. كنا نعيش معًا في قصر الدوق تشيلستون، لكن فجأة، قال لي أنه مُعجبٌ بي. لم أكن أتوقع ذلك أبدًا، وتفاجأت جدًا، تخيّلي ذلك الدوق معجبٌ بي!”
“….…”
“في البداية ظننت أن الأمر سخيف، وكنت أنوي الرفض. شخصٌ مثل هاوارد يُعجب بي؟ شيء لا يمكن تصديقه، أليس كذلك؟ لكن هاوارد كان يعاملني بلطفٍ شديد، ومن غير أن أشعر، بدأت أنا أيضًا بالإعجاب به. لهذا، بعد أن أراكِ وأعود، أنوي أن أعترف له بمشاعري بشكلٍ صريح. صحيحٌ أننا لا يمكن أن نُسمى حبيبين بعد، لكن أعتقد أننا سنصبح كذلك قريبًا……”
خرج كلامي بشكل مبعثر وغير مرتب. ورغم كل ما كنت أقوله بعجلة، بقيت أوديا صامتة دون أي رد فعل.
وكأنها كانت تفكر بشيء عميق. ولم تنطق بشيء حتى كدت أذكر لها تفاصيل اعتراف هاوارد لي.
فجأة، نظرت إلى السماء وهمست بصوت خافت،
“هاه……يبدو أن الإنسان…+مهما كان، يلتقي بمن كُتب له أن يلتقي به، في النهاية……”
وكان على وجهها تعبيرٌ يشوبه شيءٌ من الخيبة أو الفراغ.
____________________
ويت لايكون بتقول لها بعدي عن هاوارد ولا شي زي كذا
أوديا يختي دمعت عشان ريكا شافتس وتلقينها بعد ماسكه دموعها عشانس ثم في النهايه تبعصينها؟
المهم على الاقل تعلمنا هو صدق ملك الشياطين في ريكا ولا لوء 😭
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 84"