“……أنا أحبكَ.”
تبع الهمسة الصغيرة سكونٌ تام. و لم يتكلم لا هاوارد ولا أنا.
كلانا كان يحدق بالآخر بصمت.
و لم أعد أسمع شيئًا عند أذني. لا أصوات الأشخاص المتجمعين في فعالية ليلة الموتى، ولا صوت الرياح الباردة المستمرة.
هاوارد لم ينطق إلا بعد مرور بعض الوقت.
“……ماذا؟”
تمتم بوجهٍ مرتبك قليلًا.
“ماذا قلتِ الآن؟ لم أسمع جيدًا.”
لم يكن يقول هذا لأنه لم يسمع فعلًا. رغم أنني همست، فلا بد أنه سمع. فقد كنا قريبين لدرجة أن أنفينا كادا يتلامسان.
و حين أدركت هذه الحقيقة، فهمت تمامًا ما قلته. واحمر وجهي في لحظة.
‘مـ، مجنونة.’
ما الذي فعلته للتو.
“الـ، الأمر هو…….”
وبينما كنت أبتعد عنه غريزيًا إلى الوراء، تقدم هاوارد بخطوةٍ ضيقت المسافة بيننا مجددًا.
“قوليها مرة أخرى، حسناً؟”
هاوارد أمسك بيدي على عجل. و أصابعه الطويلة تسللت بين أصابعي وأحكمت قبضتها بقوة، وكأنه لا ينوي أن يمنحني فرصةً للهروب.
ثم دوّت صفارات الإنذار بعنف في رأسي.
منذ لحظات، لم يكن يخطر ببالي سوى فكرة واحدة،
‘……لقد انتهى أمري.’
لم أكن أنوي أن يحدث هذا. لم أكن أريد أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة.
جفّت شفتي من التوتر. و لم أكن قادرةً لا على الاعتراف له، ولا على قبول مشاعره.
لم أكن أستحق أن أنال مثل هذا النوع من السعادة. فأنا إنسانة محكومٌ عليها بالموت خلال أقل من عام، أنا نوكس، المعروفة بالهرطقة، أنا من أخفي عنه كل هذه الأسرار.
حين أفكر بعقلي، أعلم أن من الأفضل كتمان هذه المشاعر. إن أمكن، حتى أموت.
لكن، مع ذلك، لم ألوم نفسي على أنني لم أتمكن من كبح مشاعري وخرجت من فمي فجأة. فقد كان ذلك أقوى مني.
نظرت إلى هاوارد من جديد.
حين التقت عيناي بعينيه الممتلئتين بالإلحاح، عادت أفكاري إلى تلك اللحظة التي أدركت فيها مشاعري لأول مرة.
‘……و هل يمكن ألا أحب هذا الإنسان؟’
إذا خطر لي هذا الشعور فور رؤيتي لوجهه، فربما هذا هو الحد الفاصل.
كيف استطعت البقاء إلى جوار هاوارد بكل هذا الهدوء طوال الوقت؟
“ريكا.”
ناداني هاوارد بصوتٍ يغلي بالمشاعر. ر كانت سعادتي لا توصف حين أدركت أنه يرغب بي.
أردت أن أقولها له مرارًا وتكرارًا. و أقول له أن ما سمعه صحيح.
أنني كنت أكن له المشاعر منذ لحظة لا أستطيع حتى تحديدها. وربما أنني أحبه أكثر مما هو يحبني.
حتى لو كان ذلك طمعًا في غير محله واستحقرت لأجله، لم أكن لأبالي. ففي هذه اللحظة، الشيء الوحيد المهم هو الرجل الواقف أمامي.
شدَدتُ قبضتي على يده التي تمسك بيدي. ثم فتحت شفتيّ المغلقتين ببطء.
“هاوارد، أنا-.”
لكن في تلك اللحظة بالضبط، ركض أحد الموظفين بسرعة نحو المدخل الرئيسي للمكان وصرخ،
“تبقى ساعتان فقط حتى نهاية فعالية ليلة الموتى! ونظرًا لكثرة عدد من يرغب في الدخول مقارنةً بالوقت المتبقي، نعتذر، لكننا لن نستقبل سوى من يدخل الآن فقط! نرجو من حاملي تذاكر ليلة الموتى أن يسارعوا بالدخول!”
ما إن انتهى الإعلان، حتى تعالت همهمات من حولنا، وركض عدد من الأشخاص نحو الموظف.
حين رأيتهم يدخلون مسرعين إلى داخل الفعالية بعد فحص التذاكر، استعاد ذهني صفاءه فجأة.
……صحيح! أنا جئت لأشارك في فعالية ليلة الموتى!
“ريكا، ادخلي أولًا. إن استمررنا هكذا، لن تتمكني من مقابلتها.”
قال هاوارد ذلك وهو يسحب يده من يدي ثم رفعها للأعلى.
عندها اقترب الموظف الذي كان يفتش المكان بعينيه بحثًا عن القادمين المتأخرين. أظهر هاوارد التذكرة التي كانت بيدي للموظف.
وعندما رأى الموظف ختم العائلة الإمبراطورية “لوكولين” على التذكرة، اتسعت عيناه على الفور، ثم انحنى بعمق.
“أعتذر لعدم إدراكي لمقامكِ الكريم. سأقوم بمرافقتكِ حتى مكان الفعالية. من فضلكِ، تفضلي من هذا الطريق.”
مد الموظف يده وكأنه يهم بمرافقتي. فترددت للحظة، غير متأكدة إن كان من الصواب أن أذهب بهذه الطريقة، لكن هاوارد وضع يده على كتفي وأدارني برفق، فما كان مني إلا أن أتبع الموظف باتجاه الفعالية.
وهكذا، حين تجاوزت البوابة الأمامية وهممت بالدخول الكامل……
“……ريكا!”
ناداني هاوارد بصوتٍ ملؤه العجلة. فالتفت إليه بسرعة.
كان هاوارد لا يزال واقفًا في مكانه قبل قليل، و فتح فمه مرارًا كأنه متردد، ثم صرخ أخيرًا،
“بعد ما تقابلين أوديا وتخرجين……هل يمكنكِ أن تقولي لي مرة أخرى ما قلتِه قبل قليل، لكن بشكلٍ واضح هذه المرة؟”
وجهه كان يبدو شديد الاحمرار، وصوته المرتعش كان مليئًا بالتوتر.
حين رأيت الرجل القريب مني يغمره الشغف، أدركت ذلك بشكل طبيعي.
هذه هي الفرصة الأخيرة. الفرصة لأتظاهر بأن شيئًا لم يحدث.
ربما كان قد سمع ما قلته، لكن لو قلت أن ما حدث لم يكن يعني شيئًا، فإن هاوارد سيتقبل الأمر ويوافق عليه.
و رغم شعوره بالأسى، لن يقول شيئًا، وسيحترم قراري. فهذا هو هاوارد.
لكن……
‘……أنا لا أريد ذلك.’
على الأقل هذه المرة، لم أكن أريد أن أهرب.
نظرت إلى هاوارد وأومأت برأسي. و بكل ما أملك من قوة، بشكل كبير وواضح، حتى لا يفوته ذلك.
حينها ارتسمت على وجه هاوارد، الذي كان ينظر إليّ، ابتسامةً مشرقة وارتجفت أطراف عينيه فرحًا.
وحين رأيت ذلك الوجه، زال آخر أثرٍ من التردد الذي كان يسكن قلبي.
بادلته الابتسام، ثم أخفيت ما في نفسي من أسى واستدرت مجددًا نحو قاعة الفعالية.
قلبي كان يخفق كأنه سينفجر. تمامًا كما احمرّ وجهي حتى امتدّ الى عنقي.
***
كانت قاعة الفعالية غارقةً في الفوضى التامة. و يبدو أن دخول الضيوف كان يتأخر ويتراكم.
وأخيرًا فهمت لماذا قال الموظف أنهم لن يسمحوا بدخول إضافي. فالازدحام كان خانقًا.
يُقال أن السبب في هذا الاضطراب هو أن نصف الكهنة الذين كان من المفترض أن يشاركوا في فعالية ليلة الموتى قد انقسموا بسبب حادثة اقتحام الوحوش قبل يومين.
صحيح، هذه الفعالية تتم بالكامل باستخدام القوة المقدسة.
“تفضلي، من هذا الاتجاه.”
سلكتُ طريقًا مختلفًا تمامًا برفقة الموظف. وحين تجاوزت الصفوف الطويلة من المنتظرين، شعرت بنظراتٍ كثيرة تلاحقني من الخلف.
لم يكن دخولي مخالفًا للقوانين، ومع ذلك شعرت وكأنني ارتكبت خطأً ما.
……أعتذر. لكنني أنا أيضًا في غاية الاستعجال الآن.
“لقد وصلنا. سيقوم الكاهن بمساعدتكِ من هنا.”
حين وصلنا إلى مكانٍ يفيض بالطاقة المقدسة من أول نظرة، تراجع الموظف وتركني هناك.
اقترب مني الكاهن الذي كان في الانتظار وكأنه يتسلم المهمة من الموظف مباشرة.
“مرحبًا بكِ. إنه لشرف عظيم لنا أن نستقبل ضيفةً من العائلة الإمبراطورية لوكولين. أعتذر، لكن نظرًا لأن أمامنا حوالي ساعتين فقط حتى نهاية الفعالية، فسوف نحاول الإسراع قدر الإمكان.”
انحنى الكاهن انحناءةً خفيفة ثم واصل كلامه.
“تفضلي بتصور شكل الروح التي ترغبين في لقائها في ذهنكِ، ثم قولي اسمها.”
“……أوديا ستورديج.”
“مفهوم. أغمضي عينيك ببطءٍ ثم افتحيهما من جديد.”
فعلت كما قال الكاهن وأغمضت عيني. وسرعان ما شعرت بهالةٍ مقدسة تحيط بجسدي.
وعندما فتحت عيني ببطء، كانت المشاهد أمامي قد تغيّرت بالفعل.
امتد أمامي مرجٌ فسيح لا يبدو له نهاية، وتحت السماء الزرقاء الساطعة التي غطت كل شيء فوق رأسي،
كانت تقف هناك—
“……ريكا؟”
كانت تقف هناك الشخص الذي اشتقت إليه حد الألم.
شعرها البني الطويل المربوط عاليًا كان يتمايل مع الريح، وعيناها الذهبيتان، اللتان طالما أسرتا الأنظار، تلألأتا ببريق مألوف.
كما لو أن الزمن قد توقف، وكانت صورتها أمامي تمامًا كما حفظتها في ذاكرتي.
_____________________
اااااا تجنن ردة فعل هاوارد واشوى ريكا فهمت اخيرا وماسوت نفسها غبيه 😭
والحين اهلا بالدموع الجديده مع أوديا✨
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 83"