“ما الأمر، ريكا؟”
مال هاوارد برأسه وهو ينظر إليّ، و يبدو أن سكوني بدا غريبًا له.
نظراته لم تكن تختلف عن المعتاد إطلاقًا، ومع ذلك، ارتجفتُ كأنني رأيت شيئًا غير متوقع. و المكان الذي وصلت إليه نظرات هاوارد بدا وكأنه احترق، فشعرت بسخونة تتصاعد إلى وجهي.
ثم أسرعت في هز رأسي نافية.
“آه، لا، لا شيء.”
“لا شيء؟ لكن يبدو أن هناك شيئًا غريبًا.”
اقترب هاوارد أكثر وراح يراقبني.
ربما ظن أنني أخفي ألماً، فكانت نظراته تفتش جسدي بإلحاحٍ ملحوظ. وكلما فعل، ازددت حيرة وارتباكًا.
لا، الأمر ليس كما تظن. بل سأفقد عقلي، حقًا.
“لا يبدو أن هناك جرحًا آخر غير الذي تفقدتُه سابقًا..…”
“أرأيت؟ قلت لك، ليس هنالك شيءٌ آخر. فقط شعرت بقليل من…..البـ، البرد!”
“ربما تكونين مصابةً بالحمّى.”
تجاهل هاوارد كلامي جزئيًا ورفع يده. وسرعان ما أزاح بعناية خصلات شعري الأمامية، ولامست راحة يده جبهتي.
مع أنني كنت أعلم أن ما يفعله مجرد قياسٍ للحرارة، إلا أنني شعرت بحرجٍ لا يوصف.
و خفق قلبي مجددًا بقوة ليعلن عن وجوده.
نبض-
نبض-
‘…..واو، هل أنا مجنونةٌ فعلًا؟!’
“يبدو أن لديكِ قليلًا من الحرارة.”
قال هاوارد ذلك بعدما أنهى تشخيصه وسحب يده.
وهذا طبيعي. فوجهي يحمر في كل لحظة دون سبب.
أم أنني مخطئة؟ ربما أكون مصابةً بالحمى فعلًا.
راودتني أفكارٌ كثيرة، لكن لم يكن من الممكن قول كل ذلك لهاوارد كما هو، فآثرت الصمت وبقيت ساكنة.
يبدو أن هاوارد شعر بأن الأمر لا يمكن تركه هكذا، فسارع إلى نزع عباءته العسكرية. ثم مزق طرفها قليلاً.
لفّ الجزء الممزق الواسع حول جسدي، ولف الباقي حول قدمي ثم عقده بلطفٍ كي لا يؤلمني.
“هذا حذاءٌ مؤقت. قدماكِ تبردان، فافعلي هذا على الأقل. اصبري قليلًا حتى أحضر لكِ ملابس وأحذية مناسبة.”
قال هاوارد ذلك بلطف وهو يضع يده خلف ركبتيّ وخصري، ثم رفعني بحذرٍ بين ذراعيه.
وحين وجدت نفسي بين أحضانه، بدأت ذكريات الماضي تطفو في رأسي.
أعني، عندما التقيت بهاوارد لأول مرة.
‘حتى في ذلك الوقت، كان هكذا تمامًا.’
رغم أننا لم نكن نعرف بعضنا، بل وكنت أشتبه في كونه هرطقية.
إنه حقًا إنسانٌ ثابت في طباعه.
ضحكت بخفةٍ دون أن يشعر هاوارد. رغم أن وجهي لا يزال مبللًا بالدموع.
لو فكرت بالأمر، كنت دائمًا هكذا عندما أكون مع هاوارد. و كأنني لم أكن مكتئبة أبدًا، كنتُ أضحك في معظم الأوقات.
وكأن الأوقات الصعبة لم تكن موجودةً من الأساس، وكأنني أصبحت أغلى إنسانةٍ في هذا العالم.
‘كل هذا بفضل اهتمام هاوارد، بلا شك.’
رفعت رأسي قليلًا ونظرت إلى وجه هاوارد.
كان يتظاهر بأنه بخير، لكنه بالتأكيد يمر بوقتٍ عصيب أيضًا. فبحسب ما قاله بروتور، ظهرت الوحوش في أوفيلين أيضًا.
لا بد أنه عانى كثيرًا وهو يحاول احتواء الفوضى هناك، ومع ذلك تحمّل العقوبات وجاء إلى أنيما من أجلي.
من الغريب أنه لم ينهَر بعد.
حين وصلت أفكاري إلى تلك النقطة، شعرت بالقلق فجأة.
“الآن بعد أن فكرت بالأمر…..هاوارد، هل أنتَ بخير؟”
“ماذا تعنين؟”
“القدوم إلى أنيما يستغرق وقتًا طويلًا. لا بد أنكَ واصلت تحمل العقوبة حتى حلول المساء-”
“الشخص المصاب لا يجب أن يقلق بشأن ذلك.”
قاطعني هاوارد بسرعة ليوقف قلقي.
كان وجهه حازمًا تمامًا، فلم أستطع أن أتابع السؤال. فحتى لو واصلت الاستفسار، من الواضح أن هاوارد تشيلستون لن يجيب.
ألم يكن دائمًا ذلك الشخص الذي لا يتحدث أبدًا عن ألمه؟
لم يكن أمامي سوى أن أكون ممتنةً لأن الوقت الآن فجر، وهو لا يعاني من العقوبة في هذه اللحظة.
“لنذهب إلى مكانٍ دافئ، قبل أن تسوء حالتكِ أكثر.”
قال هاوارد ذلك وهو يعيد تثبيت وضعيته في حملي ليواصل السير.
أومأت برأسي بسرعة موافقة. فلا بد أن تُحل الأمور سريعًا حتى يتمكن هاوارد من العودة إلى أوفيلين في أقرب وقت.
كلما عاد مبكرًا، قلّ الوقت الذي يتعرض فيه للعقوبة. و لم أكن أريد أن يظل هاوارد مريضًا حتى الغد لمجرد بقائه هنا.
‘كنت أتمنى رؤية أوديا، لكن…..’
تأملت من بين ذراعي هاوارد ساحة فعالية ليلة الموتى البعيدة هناك.
…..لكن لا مفر.
أن أطلب المزيد في هذا الوضع كان ضربًا من الطمع. فأنا لا أملك حتى تذكرة، ولا طريقة للدخول أصلًا.
كنت أحدق في ساحة الفعالية التي تبتعد شيئًا فشيئًا، لكن جفوني التي أخذت تثقل لم تسعفني، فأغلقت عيني. و اظلمّت رؤيتي.
***
عندما استيقظت مجددًا لفترةٍ قصيرة، كنت في نزل. وليس النزل الذي كان فيه بروتور، بل مكانٍ آخر.
يبدو أنني استيقظت لأنني شعرت بحركة هاوارد وهو يحاول أن يضعني على السرير. و عندما رآني أستعيد وعيي قليلاً، اعتذر لي وأوضح لي الموقف بإيجاز.
قال أن الظلام في الخارج أعاق تحريك العربة، لذا سنبقى هنا حتى الصباح. وأنه سيضطر لمغادرة المكان قليلًا بسبب المهام المتعلقة بالتعامل مع آثار الوحوش التي ظهرت في أنيما.
لم يعجبني أنه سيضطر للمعاناة مجددًا، لكن لم يكن من حقي التدخل في عمله، فلم أستطع قول شيء.
بعد علاجٍ بسيط، بدلت ملابسي وارتديت ملابس جديدة.
ثم أخبرت هاوارد أن يوقظني عندما يحين وقت الانطلاق صباحًا، وعدت إلى النوم.
نعم، كان الأمر كذلك تمامًا.
‘…..ما هذا الآن؟’
استيقظت على يد هاوارد وهو يهزني، لأجد نفسي في مشهدٍ لا يصدق.
“لماذا حلّ الليل مجددًا؟!”
عندما استلقيت على السرير، لم يكن لون السماء بهذا السواد. بل، ليست السماء المظلمة وحدها هي المشكلة.
…..لماذا أنا الآن بين ذراعي هاوارد وفي الخارج؟ وفوق ذلك، مرتديةً كل هذه الملابس الشتوية الثقيلة؟
نظرت حولي بذهول ووجه مشوش، فتمتم هاوارد،
“لا تتحركي كثيرًا، ريكا، ستسقطين.”
وأعاد تثبيت وضعيته وهو يحملني.
“استيقظتِ في الوقت المناسب. كنت على وشك إيقاظكِ.”
“أجبني أولًا على سؤالي. ما الذي يحدث الآن؟ لقد وعدتني أن توقظني في الصباح!”
“في الأساس، لم أكن أنوي إيقاظكِ في الصباح. لم تنامي إلا عند الفجر. وجسدكِ في حالةٍ سيئة، كيف تتوقعين أن تنامي لساعات قليلة فقط؟ انظري لحالك الآن، حتى بعدما حملتكِ إلى هنا، لم تستيقظي ولا مرة، أليس كذلك؟”
“صحيح، لكن..…”
لكن هذا يعني أن فترة معاناتكَ من العقوبة قد طالت أكثر. وحتى لو انطلقنا صباح اليوم، لما وصلنا إلى أوفيلين بعد.
تنهدت بخفة وأكملت كلامي.
“إذًا، هل نحن متجهون إلى أوفيلين الآن؟ ألم تقل أن العربة لا تستطيع التحرك ليلًا بسبب الظلام؟”
“سننطلق إلى أوفيلين صباح الغد. أما الآن، فهناك أمرٌ عاجلٌ آخر.”
أمرٌ عاجل؟
أملت رأسي بتساؤل دون فهم، فأنزلني هاوارد برفقٍ إلى الأرض.
وضعت قدمي على الأرض ببطء، وأعدت النظر حولي. عندها فقط، استطعت تمييز المكان بوضوح.
نحن أمام ساحة فعالية ليلة الموتى. و لم يتبقَ سوى بضع ساعاتٍ حتى منتصف الليل، موعد نهاية الفعالية، ومع ذلك لا يزال الناس يصطفون في طوابير طويلة.
“لماذا نحن هنا..…”
ازداد استغرابي أكثر فأكثر. وحين التفتُ مجددًا إلى هاوارد، ابتسم.
“ألم تأتِ إلى أنيما من أجل رؤية أوديا؟ إذًا عليكِ رؤيتها قبل العودة إلى أوفيلين.”
“أن أرى أوديا؟ لكن التذاكر كلها بيعت بالفعل. حتى التذكرة التي أعطيتني إياها، أخذها بروتور إيتينتيا، فكيف لي أن أدخل؟”
“لا تقلقي بشأن ذلك.”
أخرج هاوارد شيئًا من الجيب الداخلي لردائه العسكري.
كانت ورقةً سوداء صلبة الملمس. تذكرةٌ لفعالية ليلة الموتى.
___________________
من وين جابها الكفو😭
متخيلين هاوارد بيتحمل ثلاث ايام عقوبة النظام عشانها؟ مجنوني الرايع
المهم ليته يروح معها يشوف أوديا هو بعد 😔
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 81"