لم أستطع أن أجيب بشيء.
و لم يكن السبب أن صوتي لا يخرج. بل كنتُ خائفة.
خشيت أنني قد جُننت أخيرًا، وأن ما أراه الآن هو حلمٌ أراه بعد أن فقدت وعيي. وخشيت أنه لو فتحت فمي، سيختفي كل شيء.
لذا لم أفعل شيئاً سوى تحريك شفتي.
حتى لو كانت مجرد وهم، فلا بأس. إن استطعت أن أشعر بالسعادة ولو للحظة قبل أن أموت فهذا رائع.
لكن الرجل الذي أمامي لم يكن كذلك.
ظننت أن وجهه الوسيم قد بدأ يتشوه، وها هي عيناه الحمراوان المرتجفتان تفيض بي. ثم سرعان ما ضمني إلى صدره بقوة.
“…..لا بأس، ريكا. الآن كل شيءٍ على ما يرام. الآن كل شيءٍ على ما يرام. كل شيءٍ سيكون بخير، ريكا…”
ظل هكذا يهمس في أذني بلا توقف. و عندها فقط بدأت أفكاري المتوقفة تعود إلى الدوران مع دفء جسده الذي كان يحيطني.
رأيت المشهد من فوق كتفيه العريضين.
الرجل الذي كان يجرّني مُلقى على الأرض يصرخ بهستيرية. و الحراس يقيدونه. و الناس يتجمعون ويتحدثون فيما بينهم يتساءلون عمّا حدث.
وذلك الشخص الوحيد الذي عانقني بقوة، كأنه يخشى أن أختفي فجأة.
“…..هاوارد؟”
سألت بترددٍ وأنا أحشد شجاعتي. فما كان منه إلا أن أجابني فورًا، وكأنه يطمئنني.
“نعم.”
“هل أنتَ حقًا هاوارد؟ حقًا؟”
“نعم، صحيح. إنه أنا.”
أجاب هاوارد بصوتٍ منخفض. و يداه الكبيرتان ربتتا على ظهري ببطء.
جسدي الذي تجمد من البرد لفترةٍ طويلة، عاد ليدفأ كما لو لم يحدث شيء. وما إن شعرت بذلك التغير، حتى انفجرت بالبكاء من جديد دون قدرةٍ على التوقف.
الآن فقط أدركت. لقد كنت أفتقد هذا الشخص أكثر مما كنت أظن.
“كـ، كيف أتيتَ إلى هنا…..كـ، كنتُ وحدي من ذهب إلى أنيما و..…”
كانت شهقات البكاء تخنق صوتي فلم أستطع إتمام جملتي كما يجب.
لكن هاوارد، رغم الكلمات المبعثرة، بدا وكأنه فهم ما أردت سؤاله. فأجابني دون أن يتوقف عن مسح ظهري بيده.
“سمعت أن الكونت إيتينتيا توجه إلى هذا المكان. وبمجرد أن علمت بذلك، لم أستطع التفكير بشيءٍ سوى أن أذهب بسرعةٍ إلى أنيما.”
“….…”
“لأني شعرت أنكِ ستكونين هكذا.”
كان واضحًا أن هاوارد كان يكبت غضبه بصعوبة.
وعندما التفت نحو الرجل الذي ما زال يثير الفوضى، بدا كأنه يسترجع مشهد أخذي بالقوة. و عندها شدّ ذراعيه حولي أكثر.
وعندما ضغط على الأماكن التي خُدشت عندما كنت أُسحب على الأرض، خرج أنينٌ من بين شفتي دون أن أشعر.
ويبدو أن هاوارد سمعه، فابتعد عني بسرعة. و نظر إليّ من رأسـي حتى قدمي في لحظة.
وعندما نظرت بدوري حيث ينظر، رأيت ذراعي اليسرى وقد بدت من بين الرداء الممزق، مغطاةً بالجروح.
وسرعان ما تفقد أيضًا الرسغ الذي ظهرت عليه كدماتٌ من قبضة الرجل، والرأس الملفوف بالضمادات.
عندها شحب وجه هاوارد تمامًا.
“…..آسف. إنه خطأي. لم يكن يجب أن أدعكِ تذهبين لوحدكِ مهما كان السبب.”
همس هاوارد بهذه الكلمات وهو يطأطئ رأسه ويمسك بيدي. فشعرت بجسده الكبير يرتجف كأنما يرتعد.
‘لماذا تعتذر أنت؟ هذا ليس خطأكَ أبدًا.’
كتمت دموعي بصعوبة، ورفعت يدي الأخرى التي لم يكن هاوارد يمسك بها، ثم مسحت بها على رأسه.
“أنا بخير، هاوارد.”
“لا تقولي ذلك. كيف تقولين أنك بخير وأنتِ مصابة هكذا؟ لا بد أن الألم شديد الآن.”
“يؤلمني، نعم. لكنه رغم الألم…..أصبحتُ بخيرٍ الآن.”
أنزلت يدي من على رأسه، ووضعتها على خده بلطف. فرفع رأسه تلقائيًا ونظر إليّ.
نظرت إلى عينيه بينما كنتُ أُكمل،
“لقد أتيتَ، أليس كذلك؟”
“….…”
“أتيتَ وقلت لي أن كل شيءٍ سيكون بخير..…لذلك أنا بخيرٍ الآن.”
حاولت أن أرفع زاوية شفتي وأن أنطق كلماتي بوضوح قدر الإمكان. حتى لا يكون هناك ما يعجز هاوارد عن فهمه.
ربما كان وجهي يبدو غريبًا، لا هو مبتسم ولا باكٍ، وقد يبدو قبيحًا في نظره، لكني رغم ذلك أردت أن أعبر بهذه الطريقة.
لكن هاوارد لم يُجب بأي كلمة. و لم يفعل شيئًا سوى التحديق في وجهي بشرود.
ولم يتكلم هاوارد إلا بعدما بدأت أشعر بالإحراج من الصمت الطويل.
زفر تنهيدةً منخفضة، ثم عاد ليعانقني مجددًا.
“…..حقًا، لا أعلم ماذا علي أن أفعل بكِ.”
لكن هذه المرة، كانت لمسته حذرةً ومليئةً بالرفق.
راح يربت على ظهري ببطء وكأنه يواسيني. فتحدثت وأنا بين ذراعيه، بهدوء،
“أنا لم أعد أبكي الآن.”
“أعلم. لكن فقط دعيني أراسيكِ بهدوء. لأنني أنا من يشعر أن الدموع ستنهمر منه الآن، لا أنتِ.”
أليس هذا هو الغريب؟ إن كان هو من يريد البكاء، فأنا من يجب أن يواسيه، لا العكس.
كان الموقف طريفًا بطريقةٍ ما، لكن بدلًا من أن أقول شيئًا، بقيت في أحضانه بهدوء. فقد كنت أحب الشعور بدفء جسده وهو يحتويني.
قبل لحظاتٍ فقط، كنت أغرق في يأس عميق كالمستنقع، ومع ذلك، وجوده وحده جعلني أشعر بتحسنٍ مذهل.
‘…..كأنه سحر.’
قد تكون عبارةً تُزعج هاوارد، قائد فرسان الهيكل، لكنها كانت أكثر وصفٍ صادق يمكنني قوله. فلا أستطيع أن أشرح ما أشعر به بطريقة أخرى.
بينما كنت غارقةً في مشاعري الغريبة، ابتعد هاوارد عني قليلًا. وما إن أنزل بصره ورأى أنني حافية القدمين، حتى عبس وجهه بانزعاج.
“بما أن منتصف الليل قد مضى، فلن أتحدث عن ملابسكِ، لكن كان عليكِ على الأقل أن ترتدي حذاءكِ. ما هذا الذي حصل لقدميكِ؟”
“لم أكن في حالةٍ تسمح لي بارتداء الحذاء.”
“ولماذا؟ لأن الكونت بروتور إيتينتيا أخذ منكِ التذكرة؟”
…..كيف عرف ذلك؟
بقيت أحدق فيه بفمٍ مفتوح دون أن أتمكن من الرد، لكن يبدو أن ذلك وحده كان كافيًا ليعدّه إجابة.
فسألني بنبرةٍ يملؤها الغضب المكبوت،
“كنت أشك في ذلك. هل طلب منكِ الكونت إيتينتيا شيئًا مقابل التذكرة؟”
“آه، نعم. قال إنه سيعيدها إليّ إذا انفصلت عنكَ وغادرت قصر الدوق تشيلستون.-”
لكنني لم أتمكن من إنهاء الجملة.
طَقّ-
فقد سمعت صوت شيءٍ صلب يتحطم قرب أذني. وعندما نظرت إلى الأسفل، رأيت أن أحد الزينة المعدنية المتدلية من الرداء الذي أرتديه قد تهشّمت تمامًا.
وكانت لا تزال بين يدي هاوارد.
…..هل ما أراه الآن حقيقي؟ أليست هذه زينةً معدنية؟ كيف تحولت إلى فتاتٍ كما لو كانت بسكويتًا؟
“آه، آسف. هل كانت جديدة؟”
قال هاوارد ذلك وهو يبتسم ابتسامةً خفيفة وينفض يده بهدوء.
وفي اللحظة نفسها، سقطت على الأرض قطع الزينة…..أو بالأحرى ما كان زينة، متناثرةً كليًا.
…..يجب ألا أنسى. هذا الرجل هو الأقوى في هذا العالم، يُضاهي ملك الشياطين نفسه.
“لا، فقط لم أجد ما أرتديه، فأخذت رداء بروتور إيتينتيا وخرجت به. إنه ليس لي.”
“حقًا؟”
ضيّق هاوارد عينيه وهو ينظر إلى الرداء. و كان من الواضح أنه لا يعجبه أبدًا.
نظرت إلى وجهه بتردد، ثم أومأت برأسي.
حقًا، ارتداء رداء بروتور أمام هاوارد ليس بالأمر اللائق……
وبينما كنت أهمّ بخلعه، أوقفني هاوارد.
“لا تخلعيه. فقط ارتديه.”
“ماذا؟ لكن..…”
من نظراته، يبدو وكأنه يرغب في تمزيقه حالًا.
نظرت إليه معبرةً عن تلك الفكرة، فمد يده إلى مؤخرة عنقه بحرج وهو يحاول تعديل تعابيره.
سعل سعالًا خفيفًا عدة مرات، ثم أعاد ترتيب الرداء عليّ بعناية أكثر من قبل،
“لأنكِ تشعرين بالبرد.”
وكأن دخول أي نسمة هواء قد يؤذيني.
“رغم أنني لا أحبه، لكن إن كان فيه فائدة لتحسين حالتكِ…..فأنا لا أمانع. لا يهمني أي شيءٌ من هذا القبيل.”
قال هاوارد ذلك بصوتٍ هادئ دون مبالاة.
وعندما رأيت ذلك المشهد، انتابني شعور غريب. شعورٌ لا أستطيع تفسيره، وكأن جسدي كله يحترق بالحكة.
‘…..ما هذا؟ لماذا أشعر هكذا؟’
رفعت يدي بسرعة إلى صدري.
نبض-
نبض-
نبض-
و كان قلبي ينبض بسرعةٍ كبيرة.
______________________
اااااااااا اخيرا 😭
ها تكفى لاتخليها ولاتوخر عنها يكفي كتمة فصول امس
المهم ريكا بدت هي بعد تحب هاوارد صح؟ ههاهاههاهاههاهعا
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 80"