ربما احتياطًا، تحقق هاوارد مرة أخرى، وكان الأمر مؤكدًا. ثمة شيءٌ ما في ذلك الشاي.
“آنسة آفلز.”
تحدث هاوارد وهو ينظر إلى سيرديا. و كانت عيناه الحمراوان، بخلاف لونهما المميز، باردتين تمامًا.
“سأسأل مرة أخرى. أين هو الكونت إيتنتيا؟”
“……لماذا تتصرف بهذه الطريقة المخيفة يا دوق؟ لقد أخبرتكَ قبل قليل. سيأتي قريبًا ليتحدث معك.”
“يأتي ليتحدث؟”
ضحك هاوارد بسخريةٍ خفيفة.
“أليس الهدف قتلي دون أن يدري أحد؟”
“…….”
“يبدو أن الكونت إتينتيا لديه هواية الحديث أمام الجثث؟”
طَق-
وضعت سيرديا فنجان الشاي على الصحن.
كانت حركةً هادئة ورقيقة تليق بفتاة من بيت نبيل، لكن هاوارد الذي تعامل مع كثير من الناس على مر السنين، أدرك ذلك على الفور.
كانت أصابعها ترتجف بشدة. و كان وجهها قد شحب تمامًا.
“قـ، قتله؟ كيف تقول شيئًا مخيفًا كهذا؟ أنت تعلم يا دوق……تعلم جيدًا ما الذي أشعر به نحوك. فكيف لي أن أؤذيكَ؟”
“إذًا، هل كنتِ تحاولين أن أفقد وعيي؟ لماذا؟”
صمتت سيرديا أمام سؤاله الملح. و راحت تعبث بطرف فستانها بتوتر.
شفتاها الحمراوان كانتا تفتحان وتغلقان مرارًا وكأنهما تحاولان قول شيء لكنها لا تستطيع.
بدت وكأنها تُجبر على فعل شيءٍ لا تريده. كان مشهدًا يثير الشفقة، لكن هاوارد لم يكن لديه سببٌ ليمهلها الوقت.
نظر حوله لبرهة، ثم فتح فمه.
“يبدو أن الكونت إيتنتيا ليس هنا. ولا يبدو أنه ينوي المجيء للقائي كما وعد.”
لم يكن ينوي المجيء من البداية.
منذ اللحظة التي أرسل فيها هاوارد الرسالة لطلب اللقاء. كان عليه أن يشك حين وافق بروتور إيتنتيا بسهولة على طلب اللقاء.
لم يخطر بباله أنه سيكون وقحًا إلى حد تجاهل الدوق تشيلستون.
لماذا وعد بشيءٍ لا ينوي الالتزام به؟ هل فقط من أجل العبث بهاوارد تشيلستون الذي لا يروقه؟
‘لا، مستحيل.’
ابتسم هاوارد بسخريةٍ صامتة.
لقد استخدم ذلك الوعد كذريعةٍ ليحبسه هنا. لأنه يعلم أن هاوارد تشيلستون من النوع الذي يفي بوعوده.
و الباقي مجرد أسباب ثانوية. كأن يكون قد أراد فقط إذلاله لأنه كان يزعجه منذ البداية، أو أن يستغل سيرديا آفلز لجعله يفقد وعيه، أو حتى لقتله تمامًا.
وإلا لما أوكل المهمة إلى آنسةٍ لم يسبق لها أن أزهقت روحًا من قبل. وبهذه الطريقة الساذجة أيضًا.
‘إن كان لدى الكونت إيتنتيا سبب حقيقي لاحتجازي هنا……’
قبل أن يتمكن من إكمال التفكير، مرّ أمام عينيه خيطٌ من الشعر الأبيض. وذلك الوجه الذي كانت تنهمر منه الدموع أمام بروتور……
……ريكا.
إنها ريكا.
اختفى الهدوء من وجه هاوارد في لحظة. ونبض قلبه بقوةٍ تحت وطأة قلق لا يمكن تفسيره. و أصابعه بدأت ترتجف.
ثم تحرك بسرعة.
“بما أن الكونت غير موجود، فلا داعي لبقائي هنا. سأرحل الآن.”
“مـ، مهلاً، دوق!”
قفزت سيرديا بسرعةٍ وأمسكت بهاوارد. و يدها تلك المرتجفة بشدة أمسكت بذراعه بقوة.
“ألست هنا لأنكَ أردت أن تسأل الكونت إيتنتيا عن أمرٍ ما؟ ربما أكون أعرف ما تبحث عنه. لذلك إن تحدثتَ معي قليلًا أكثر-”
“كلا، يا آنسة. أنتِ لا تعرفين.”
قطع هاوارد توسلات سيرديا بحزم.
“وحتى إن كنتِ تعرفين، فلا سبب لدي لسماع شيءٍ منكِ. كيف أصدق شخصًا حاول أن يسقيني شيئًا كهذا قبل لحظات؟ و على أي أساس؟”
وأشار بعينيه إلى فنجان الشاي الخاص به.
هزّت سيرديا رأسها بسرعة وملامح الصدمة على وجهها. وشدت قبضتها على ذراعه أكثر.
“لا، لا يا دوق! لم أفعل هذا برغبتي! لديّ سببٌ جعلني أُجبر على ذلك……سأشرح لك كل شيء الآن، أرجوكَ!”
“آنسة، أنا آسف.”
توقف هاوارد قليلًا، ثم رفع يده الأخرى، تلك التي لم تكن تمسك بها. ثم أمسك بمعصمها وخفضه إلى الأسفل.
“ليس لدي وقتٌ الآن للاستماع إلى قصتكِ. هناك من يجب أن أذهب لمقابلته.”
“……هل هي الآنسة إيفريت؟”
لم يجب هاوارد. بل اكتفى بإبعاد يد سيرديا عنه تمامًا.
“آمل ألا نلتقي على انفرادٍ بهذه الطريقة مرة أخرى. وأعتقد أن آنسةً مثلكِ تفهم ما أعنيه.”
نظرته الحمراء كانت تحدق مباشرةً في سيرديا. ومن خلالها، فهمت تمامًا ما الذي كان هاوارد يريد قوله.
كان رفضًا صريحًا. جوابًا قاسيًا وباردًا، لا يحمل ذرة أمل.
حاولت سيرديا أن تمسك به مجددًا، لكنها أنزلت يدها بلا حول. فلم تستطع الإمساك به وهو يستدير ليغادر.
‘……لماذا؟ لماذا وصل الأمر إلى هذا؟’
لقد وقعت في حبه من النظرة الأولى عندما التقته في طفولتها. و راقبته طويلًا لسنينٍ طويلة.
هاوارد تشيلستون……لم يكن في قلبها سواه. فلماذا لا يعاملها بلطف؟
صعد الغضب من ركنٍ دفين في قلبها. لكنها لم تستطع أن تلومه، لأنها كانت تحبه كثيرًا. تحبه منذ اللحظة الأولى وحتى الآن، دون تغيير.
هاوارد تشيلستون، بشعره الذهبي وابتسامته الهادئة، كان جميلاً بشكلٍ لا يُضاهى.
وفي النهاية، وجّهت سيرديا غضبها إلى مكانٍ آخر تمامًا.
‘كل هذا بسبب ريكا إيفريت.’
تلك المرأة التي ظهرت فجأة، و استحوذت على كل اهتمام هاوارد.
وقد ابتسم بجانبها، بوجهٍ لم تره منه من قبل. كان ذلك أمرًا لا يمكن تصديقه. أبدًا.
“إن لم أكن أنا……فلن تكوني أنتِ أيضًا!”
دوّى غضب سيرديا الخافت في أرجاء الغرفة. وتصلبت ملامح وجهها ببرودة.
***
كان هاوارد يتجه نحو العربة بسرعة. فلم يعد لديه وقتٌ ليضيعه.
كان عليه أن يستقل العربة فورًا ويتجه إلى أنِيما، ليتأكد بنفسه من أن ريكا قد وصلت بخير، وأن شيئًا لم يحدث لها.
تسارعت خطواته أكثر من ذي قبل. وفي النهاية، صار يركض.
لكن هاوارد لم يتمكن من ركوب العربة فورًا. فقد رأى بالقرب منها ظلًا مألوفًا.
“ليون؟”
عندما ناداه، اقترب ليون بخطواتٍ سريعة ووجه يملؤه القلق.
“ها أنتَ يا سيدي قد خرجت. لو تأخرتَ أكثر، لكنت دخلت لأبحث عنكَ بنفسي.”
“ما الأمر؟ هل حدث شيء؟”
“ألستَ من طلب مني مراقبة بروتور إيتنتيا سابقًا؟ في الآونة الأخيرة بدا وكأنه يخطط لشيءٍ ما، فظللت أتبعه باستمرار.”
تنهد ليون بخفة، ثم تابع،
“لكني فقدت أثره. فور تجاوزه بوابة أوفيلين. يبدو أنه كان يعلم أنني أتبعه.”
“ولا تعرف إلى أين ذهب؟”
“على الأرجح، توجه شمالًا.”
الشمال. حيث تقع أنِيما.
عض هاوارد على شفتيه بحدّة وهو يوقن أن بروتور إيتنتيا تبع ريكا. و كان الغضب يتصاعد داخله من هذا التصرف الخارج عن كل منطق.
لماذا هذا التعلق المرَضِيُّ بريكا؟
حتى لو كان يرغب في استعادة ريكا كما كانت في شخصيتها السابقة، فأن يتبعها حتى أنيما أمرٌ مبالغ فيه.
وأن يستخدم سيرديا آفلز أيضًا في ذلك؟
‘ما السبب الحقيقي وراء كل هذا……؟’
هزّ هاوارد رأسه وهو يحاول إبعاد الأفكار التي راودته. بينما كان وجه ريكا، المليء بالكراهية تجاه بروتور، قد ظهر في ذهنه.
لم يكن هناك وقتٌ للتردد. مهما كان ما ينوي بروتور فعله، كان عليه أن يوقِفه فورًا. فلم يعد يريد أن يرى ريكا تبكي مجددًا.
“سأذهب إلى أنِيما. أما أنت، فابقَ في أوفيلين وراقب عائلة الكونت آفلز. وتأكد من أن جلالة الإمبراطور بأمانٍ أيضًا.”
“سيدي الدوق، لحظةً واحدة.”
أوقفه ليون قبل أن يركب العربة. فتوقف هاوارد بوجهٍ متوتر.
“ما الأمر؟ إن لم يكن طارئًا، فحدثني لاحقًا.”
“بل هو طارئ. لقد راقبت تحركات الكونت إيتنتيا منذ وصوله إلى أوفيلين، ووجدت أمرًا غريبًا. في كل مرة يلتقي فيها الآنسة ريكا، كان يحدث نفس الشيء.”
“الشيء نفسه؟”
“الوحوش.”
أمال هاوارد رأسه مستغربًا، فنطق ليون بصوتٍ منخفض وثقيل،
“في كل مرة تلتقي فيها الآنسة ريكا بالكونت إيتنتيا، كانت الوحوش تظهر بأعدادٍ كبيرة. و لم تُستثنَ أي مرةٍ واحدة.”
_____________________
ليون افا عليك تشك بسيدتك المستقبلية؟
المهم الوحوش بسبة بروتور ريكا مالها دخل رح لها بسرعااااااااه
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 74"