هاوارد لم يستطع أن يهدأ بسهولة. و ظل واقفًا وهو يعانقني لفترةٍ طويلة.
لم أستطع أن أعرف بالضبط ملامح وجهه لأنه بالكاد أظهره، لكنني كنت أعلم على الأقل أنه كان يبكي. فقد سمعت صوت نحيبٍ خافت عند أذني، وشعرت بأن كتفي الذي دفن فيه وجهه بدأ يبتل تدريجيًا.
أن يكون هناك من يحزن هكذا لمجرد احتمال أن أختفي من هذا العالم…..كان ذلك يبعث في نفسي الفرح، لكنه في الوقت ذاته يغمرني بحزنٍ لا نهائي.
‘…..كان من الخطأ أن أترك له السوار.’
فكرت في ذلك بينما كنت أواصل مداعبة شعر هاوارد.
لكن لم تكن لدي نيةٌ لاستعادة السوار منه. فما زال يزعجني أن يعود السوار إلى بروتور إيتينتيا، كما أنني إن فتحت له قلبي الآن، فقد لا يكتفي بالأمر بدموعٍ فقط.
وهكذا، ظل هاوارد يعانقني حتى تجاوزت عقارب الساعة الثامنة، ولم يبتعد عني إلا بعد أن طرق الخادم بابي قلقًا مما يحدث.
ثم خرج من الغرفة دون أن يظهر وجهه حتى النهاية، ولم يعد إليّ إلا بعد مرور بعض الوقت. مرتديًا ملابس مريحة وكأن شيئًا لم يكن.
ابتسم رافعًا طرف شفتيه قليلًا.
“أتيت لأن لدي ما أقوله، ريكا.”
قال هاوارد ذلك وهو يقترب مني بينما كنت جالسةً على الأريكة.
لو لم تكن أطراف عيني هاوارد لا تزال محمرة، لكنت توهمت حقًا أنه لم يحدث شيءٌ على الإطلاق.
جلس بخفة على الأريكة المقابلة لي.
شعرت أن ذكر ما حدث قبل قليل قد يسبب مشكلة كبيرة، فآثرت الصمت ومجاراته.
فأجواء الكآبة المستمرة لم تكن محببةً لي أيضًا.
“في الحقيقة، وصلت رسالةٌ جديدة من المعبد.”
“رسالة؟”
“نعم، كنتِ قد طلبتِ أن أخبركِ حين تصل أي رسالة. قد لا يكون ما تتمنين سماعه، لكن شعرت أنه يجب مشاركته معكِ.”
ناولني هاوارد ورقة. فتسلمت الورقة وبدأت أقرأها بهدوء.
وحين وصلت إلى السطر الأخير–ستبدأ الليلة المخصصة للموتى. توقف نفسي للحظة وكأن أنفاسي انحبست.
ليلة الموتى. مهرجانٌ يمكن فيه لقاء الشخصيات غير القابلة للعب التي لم تعد موجودةً في هذا العالم.
‘..…أوديا.’
فرصة للقاء أوديا من جديد.
نبض-
نبض-
نبض-
قلبي أخذ ينبض بسرعة.
كم هذا جنوني. لقد كنت مشوشةَ الذهن لدرجة أنني نسيت أن هذا المهرجان يُقام في هذا الوقت من السنة.
حين لم أنطق بكلمة وبقيت ساكنًا، فتح هاوارد فمه بقلق وهو يراقب ردة فعلي بترقب.
“كما توقعت، لم تكن أنباء تُسعدكِ، أليس كذلك؟ كنت آمل أن يكون الخبر متعلقًا بشخصيتكِ الثانوية….”
“هاوارد.”
ناديتُه على عجل. بينما انكمشت الرسالة قليلًا بين يدي.
“أرجوكَ، ساعدني. يجب أن أذهب إلى هناك مهما كان.”
“إلى أين؟ إلى ليلة الموتى؟”
“نعم.”
أومأت برأسي بسرعة. لأنها الفرصة التي كنت أتوق إليها بشدة طوال هذا الوقت.
كنت أعلم طوال الوقت بوجود مهرجانٍ يُدعى “ليلة الموتى”، وكنت أعلم أيضًا أن المشاركة فيه تتيح فرصةً للقاء أوديا، لكن لم أفكر مطلقًا في الذهاب.
لأن هذا الحدث لم يكن متاحًا للجميع. فهو يُقام مرة واحدة في السنة في قرية تقع شمال إمبراطورية فيدوس، وتُدعى آنِيما، وهي مكانٌ مشبع بطاقة الأرواح، ويُقال إن استدعاء الأرواح من العالم الآخر يتطلب قوةً عظيمة، لذا فإن عدد المشاركين في المهرجان محدودٌ للغاية.
وطبعًا، تماشيًا مع هذا الإعداد، كان ثمن التذكرة مرتفعًا جدًا.
في الأوقات العادية، كنت سأشتم الشركة المطوّرة للعبة معتبرةً ذلك استغلالًا تجاريًا، لكن هذه المرة، كنت مستعدةً تمامًا للوقوع في فخ ذلك الاستغلال.
لا، بل كان من الضروري أن أفعل ذلك.
‘إنها الفرصة الأخيرة لأرى أوديا.’
في ليلة الموتى القادمة من العام المقبل، لن أكون موجودةً في هذا العالم.
لم يكن الأمر مؤكدًا بعد، لكن من المحتمل جدًا أن يكون كذلك. لذا يجب أن أذهب مهما كلّف الأمر.
حتى لو كان عليّ أن أطلب معروفًا كبيرًا من هاوارد.
“كما تعلم بالفعل، لا أعتقد أنني أستطيع شراء تذكرة المهرجان بالمال الذي جمعته حتى الآن. هل يمكنني الحصول على نفقات علاجي مقدمًا؟ وإن كان ذلك غير مريح، فلا بأس إن أقرضتني المال مقابل كتابة تعهد دين. سأفعل أي شيءٍ لسداد المبلغ-”
“لحظة، لحظة. ريكا.”
قاطعني هاوارد وهو يمد يده نحوي.
“أتعنين أنكِ على استعداد لإنفاق كل ما تملكين، بل وحتى اقتراض المال مني، فقط من أجل حضور ليلة الموتى؟”
“نعم، صحيح.”
“…..لماذا؟”
مال هاوارد برأسه قليلًا. وانحسرت عيناه قليلاً بتركيز.
‘من الذي تحاول لقاءه حتى تفعل كل هذا؟’
كنت أفهم سبب استغرابه. فقد تصرفت طوال الوقت كما لو أنني مستعدةٌ لفعل أي شيء من أجل كسب المال، والآن أنا مستعدةٌ لأُنفق كل ما جمعته دفعةً واحدة بهذه السهولة.
حرّكت شفتيّ قليلًا قبل أن أتكلم.
لم أكن أنوي إخفاء شيءٍ عن أوديا، لكن عندما حان وقت الحديث عنها أمام هاوارد، شعرت ببعض التوتر.
“هاوارد، هل تذكر أنني أخبرتكَ من قبل أن هناك من اعتنى بي عندما كنت صغيرة؟”
فقد كانت هذه المرة الأولى التي أتحدث فيها عن أوديا لأي أحد. حتى آنا، التي تعرف كلًا منّي ومن أوديا، لم أكن أذكرها أمامها كثيرًا.
قصة أوديا كانت بمثابة جرحٍ نازف لكلينا.
“تلك الشخص هي أوديا. أوديا ستوريج.”
“ماذا؟”
انكمش وجه هاوارد. وكأنه سمع اسمًا لم يكن يتوقعه على الإطلاق.
كنت أتوقع أن يُفاجأ، لكن لم أظن أن تكون ردة فعله بهذه القوة، مما أربكني قليلًا.
هل صُدم من فكرة أن شخصيةً مهمة مثل أوديا ستوريج قد اعتنت بشخصيةٍ عادية مثلي؟
من الطبيعي أن يتفاجأ، خاصة أنه، مثل أوديا، شخصية غير قابلة للعب من لعبة <عالم الفانتازيا>.
هكذا حاولت أن أرتّب أفكاري بهدوء.
لكن سبب صدمته كان مختلفًا تمامًا عمّا توقعت.
“إذًا كنتِ مع أوديا طوال الوقت؟ منذ متى؟”
“منذ أن انتقلت إلى هذا العالم.”
“ومتى كان ذلك بالضبط؟ أعلم أنه قبل عشر سنوات، وأعلم أنه بعد مأساة دوقية تشيلستون، لكن لم أسمع بالتاريخ المحدد من قبل.”
“حتى أنا…..لا أتذكر بالتفصيل إلى هذه الدرجة..…”
ابتسمتُ بخجل ثم توقفت فجأة.
رغم أنني فوجئت بإلحاح هاوارد في طرح الأسئلة، لم يكن ذلك وحده ما أربكني. لأن نبرة حديثه بدت وكأنها…..
“هاوارد، سأطرح هذا السؤال فقط لاحتمالٍ بسيط.”
بدا وكأنه يعرف أوديا جيدًا.
“هل كنت تعرف أوديا من قبل؟”
خرج السؤال فجأةً من فمي دون تفكير، نتيجةً للشك الذي راودني في لحظته.
لكن، هل من الممكن أصلًا أن تكون بينهما معرفة شخصية؟ ليس مجرد معرفة بالاسم، بل معرفة مباشرة؟
فهاوارد تشيلستون وأوديا ستوريج لم يلتقيا أبدًا في القصة الرئيسية للعبة <عالم الفانتازيا>. ولم يسبق لهما أن ذكرا أحدهما الآخر على الإطلاق.
وبينما كنت أنظر إليه بحيرة، رأيت على وجه هاوارد نفس علامات الاستفهام، قبل أن يتحدث أخيرًا بصوتٍ منخفض.
“أوديا كانت فارسة تابعة لعائلة دوقية تشيلستون. غادرت بعد المأساة، لكنها كانت من بين رجالنا.”
“…..لم أكن أعلم ذلك إطلاقًا.”
والآن بعد أن أفكر في الأمر، لم تخبرني أوديا يومًا بشيء عن ماضيها. لا، في الحقيقة، لم تكن تتحدث عن نفسها أبدًا.
كل ما كنت أعرفه عنها هو أنها مرتزقة ماهرة أنقذتني عندما كنت فاقدة للوعي.
كنت قد علمت من خلال القصة الرئيسية للعبة <عالم الفانتازيا> أن سبب موتها كان بسبب ملك الشياطين. لكن ذلك لم يكن يعني لي الكثير.
فأياً كان السبب، أوديا ظلت دائمًا إلى جانبي.
الآن بعد أن فكرت بالأمر…..
‘أوديا كانت دائمًا تتغير ملامحها عندما يُذكر ملك الشياطين أو الهراطقة.’
وقتها ظننت فقط أنها مرتزقةٌ مفعمة بالإحساس بالعدالة، تكره الأشرار بطبعها، لكن بعد سماع حديث هاوارد، شعرت أن الأمر أعمق من ذلك.
ليس فقط لأن ملك الشياطين ارتكب فظائع يستحق عليها الشتم من الجميع، بل لأنه كان هناك سببٌ مباشر وشخصي أكثر…..
“هل يجب أن أقتله بدلًا من مراقبته فقط؟”
“أنا متأكدة مما رأيته في ذلك اليوم، على جسد هذه الطفلة..…”
…..مهلًا.
بينما كنت أتابع أفكاري، صدح في رأسي فجأة صوتٌ مألوف.
منذ زمنٍ بعيد…..مدفونٌ في ركن من ذاكرتي…..من يومٍ كنت فيه أرتجف خوفًا.
_____________________
هاه؟ هاه؟ نظرية ان ملك الشياطين داخلها صدق؟
المهم ليه سوو سكيب للاعتراف😭
بس حلو ان ريكا قالت اسم اوديا وماصاروا خواضيين ويكتمون ويكتمون لين انفجر انا
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 69"