في تلك اللحظة، شعر هاوارد وكأنه عاد إلى الماضي. فقد تراقصت أمام ناظريه خصلات شعرٍ أسود ناعم.
لم يصدق ما رآه، فأغمض عينيه مرارًا رغم الألم الذي كان يعانيه.
ولم يعد إلى الواقع إلا بعد أن كرر ذلك عدة مرات.
عندما نظر أمامه مجددًا، كانت ريكا واقفةً أمامه وظهرها نحوه، باسطةً ذراعيها. و شعرها الأبيض المتلألئ جذب أنظار هاوارد بقوة.
وهو يحدق بها، شعر بغصةٍ غريبة في صدره.
‘……يا لها من غرابة.’
من الواضح أن لون الشعر مختلفٌ تمامًا عن تلك الفتاة. والفتاة تلك قد ماتت، فلا يمكن أن تكون هي نفسها.
فلماذا تبدو ريكا الآن وكأنها تتداخل مع صورتها؟
‘لا بد أن حالتي أسوأ مما أظن.’
فكر هاوارد وهو يلهث بشدة.
ولحسن الحظ، بدأ جسده يتعافى تدريجيًا بفضل استخدام ريكا لقدراتها.
كان الألم الذي خنق أنفاسه يتلاشى شيئًا فشيئًا. وحين انتهى العلاج تمامًا، عاد جسده وعقله إلى حالتهما الطبيعية وكأن شيئًا لم يكن.
دفع هاوارد بريكا، التي كانت تحميه طوال الوقت، خلفه وتقدم لمواجهة ماركوس.
ثم تدخل بروتور في الوسط وتصرف بشكلٍ مزعج مرة أخرى، لكن في النهاية تم حل الموقف بطريقةٍ ما، لذا لم يكن الأمر سيئًا.
المشكلة كانت أن هاوارد لا يزال يتصرف بغرابة.
مع أن وعيه قد عاد بالكامل، فلماذا لا يزال يرى ريكا وكأنها تلك الفتاة؟ هل جنّ فعلاً؟
هاوارد، الذي كان يحدق بريكا طويلاً وهو يقف بجانبها، حرّك شفتيه قليلاً و كأنه لم يتمالك نفسه وسألها في النهاية.
“ريكا، هل سبق أن كان شعركِ أسود؟”
كان سؤالًا اندفع به فجأة. شكٌ خرج دون تفكيرٍ مسبق. لكن رغم ذلك، لم يندم عليه.
ففي حالته الحالية، إن لم يسألها اليوم، كان سيسألها عاجلًا أم آجلًا على أي حال.
“نعم؟”
اتسعت عينا ريكا بدهشة لِما قاله هاوارد. و عندما لم تفهم مقصده، عبس حاجبيها قليلًا وأمالت رأسها لتسأله من جديد.
“هل تقصد إن كنت قد صبغته بالأسود من قبل؟”
“ليس بالضرورة صبغة. حتى لو غيرته مؤقتًا باستخدام النظام، أو حتى لو كان مجرد شعر مستعار……بأي شكل من الأشكال، هل سبق أن كان شعركِ أسود؟”
“لا أدري……”
أطالت ريكا نهاية كلامها وكأنها تحاول تذكر الأمر.
انتظر هاوارد إجابة ريكا وهو يعض شفتيه.
كان قلبه ينبض بقوة من توترٍ لا يعرف مصدره، حتى أنه شعر وكأنه سينفجر من صدره. و تسلل العرق البارد على طول ظهره.
حتى عندما كان يواجه الوحوش التي ظهرت في الساحة الكبرى للقصر الإمبراطوري، لم يكن بهذا الحال، فكيف لسؤال كهذا أن يجعله يرتبك هكذا؟
‘لا، هذا ليس مجرد سؤالٍ بسيط.’
ماذا لو كانت ريكا هي تلك الفتاة؟
ماذا لو كانت تلك الطفلة، التي لم يعد يتذكرها جيدًا بسبب ما خلفته الكارثة، لا تزال حية؟
‘في تلك الحالة……ماذا سأفعل……؟’
حتى مجرد تخيل الأمر جعله يشعر بدوار من شدة الفرح الذي ملأ صدره. و رغم أنه لم يكن يركض، إلا أن أنفاسه وصلت إلى حنجرته.
وبينما كان التوتر يزداد داخله أكثر من ذي قبل، ظل هاوارد يفتح قبضته ويغلقها مرارًا.
ولم تنطق ريكا بكلمة حتى كان قد قبض يده للمرة الخامسة.
“لا. لا أظن أنني فعلت شيئًا كهذا من قبل.”
“……لم تفعلي؟”
ردّ هاوارد بذهول.
سألته ريكا، مستغربة من تعابير وجهه، “هل أنتَ بخير؟” ثم أجابت بهدوءٍ على سؤاله.
“نعم. لم يحدث ذلك أبدًا.”
“حقًا؟ ولا مرة واحدة؟”
“بالطبع لا. من أين لي المال لأصبغ شعري؟ ولم أكن أملك مالًا لشراء شعرٍ مستعار أيضًا. ثم لماذا كنت سأغير لون شعري من الأساس؟”
قالت ريكا ذلك وهي ترفع كتفيها قليلًا.
وكان كلامها منطقيًا. فهي أخبرته بأنها كانت تعمل ليل نهار لتوفير ثمن الدواء الذي ينقذ الشخص الذي اعتنى بها في طفولتها.
شخصٌ مثلها لم يكن ليضيع ماله على رفاهية مثل تغيير لون شعره. وهاوارد يعرف ذلك جيدًا.
ومع ذلك……
“ريكا، متى قلتِ أنكِ دخلت هذا العالم؟”
“هممم، تقريبًا قبل عشر سنوات.”
“عشر سنوات إذًا……”
تردد هاوارد قليلًا ثم،
“……هل كان ذلك قبل مأساة دوقية تشيلستون أم بعدها؟”
“بعدها.”
“هل تملكين ندبةً طويلة في جسدكِ؟”
“لكن لماذا تسألني عن كل هذا فجأة؟”
“لأنها مسألةٌ مهمة. أرجوكِ أجيبي.”
نظر هاوارد إلى ريكا بوجهٍ يائس.
لم تفهم ريكا سبب توتر هاوارد المفاجئ، لكنها فكرت قليلًا ثم أجابت بإخلاص. فهاوارد تشيلستون لم يكن ليسأل بدافع سيئ.
“لا، ليست لدي أي ندبة. حتى الندوب الصغيرة لا أملكها. لطالما كانت لدي قدرة تعافٍ غريبة منذ صغري، فحتى إن أصبت، لا تترك الإصابة أثرًا. ربما لأني لم أتعرض لإصابات خطيرة من الأساس.”
“…….”
“عندما دخلت هذا الجسد لأول مرة، كان فاقدًا للوعي، لكن لم يكن عليه أي جرحٍ خارجي. الشخص الذي اعتنى بي حينها قال أن السبب ربما هو الجوع الشديد فقط.”
“هكذا إذاً……”
خفض هاوارد رأسه بيأس. و مرت أمام عينيه ذكرياتُ ذلك اليوم.
“هاوارد، عندما أُبعد هذا الوحش، اهرب فورًا. مفهوم؟ سأحاول الإمساك به قدر ما أستطيع.”
“شكرًا لأنكَ لعبت معي طوال هذا الوقت. و……آسفة.”
وبعد تلك الكلمات، فُتحت خزانة الملابس على مصراعيها. و اندفع الوحش نحو الفتاة بمخالبه الحادة وكأنه كان ينتظر تلك اللحظة.
ثم غمر المكان لونٌ أحمر فاقع بضوضائه البصرية……
هاوارد، الذي تذكر حتى تلك اللحظة، أغمض عينيه بقوة. فلم يكن بحاجةٍ لتذكر المزيد كي يدرك الحقيقة.
ريكا ليست تلك الفتاة.
‘بعد كل تلك الإصابات، لا يمكن ألا يبقى أي أثر.’
كانت إصاباتها بالغةً لدرجة أن موتها في تلك اللحظة لم يكن ليُعد أمرًا غريبًا.
تلك كانت قوة ذلك الوحش، حتى وسط الذكريات المشوشة، بقيت تلك اللحظة واضحة تمامًا.
لو لم تصل فارسة الحراسة التابعة للدوقية متأخرًا، لكان هاوارد قد مات في ذلك اليوم أيضًا.
فقد بكى بحرقة وهو يرى الفتاة تحتضر بجانب تلك الفارسة، ثم أغمي عليه، وعندما استعاد وعيه، جاءته الفارسة،
“لم نستطع……إنقاذها في النهاية.”
قالت أن الفتاة قد ماتت.
نعم، هذا ما حدث. تلك الطفلة لم تعد موجودةً في هذا العالم. ولم يكن لدى ذلك الفارس أي سبب للكذب.
كان عنادًا لا مبرر له، فقط لأن ريكا تشبهها بشكلٍ غريب.
‘……حان الوقت لأدعها ترحل.’
عض هاوارد شفته بصمت، وفجأة سمع صوتًا صافياً عند أذنه.
“هاوارد؟”
رفع رأسه، فوجد ريكا تنظر إليه بقلق. كان حاجباها منسدلان، وشفتيها الورديتان مطبقتان كأن بها همًا. وعيناها الزرقاوان كانتا ممتلئتين بالقلق نحوه.
“هل أنتَ بخير؟”
شعر هاوارد بذلك القلق يتغلغل إليه بالكامل، وسرعان ما استعاد وعيه.
لماذا كان محبطًا إلى هذه الدرجة؟ فهو لم يتعلق بريكا لأنها قد تكون تلك الفتاة.
رفع هاوارد زاوية فمه بابتسامةٍ خفيفة.
“أجل، أنا بخير. لا تقلقي. ربما ارتبكت قليلًا لأنني للتو عدت من التعامل مع الوحش، وفقدت تركيزي للحظة.”
“لقد أرهقتَ نفسك كثيرًا، أليس كذلك؟”
ازدادت ملامح القلق على وجه ريكا. لكن سرعان ما تغير تعبيرها، واتخذت عيناها شكلًا حادًا، بينما بدا على شفتيها الانزعاج وهي تعقدهما.
“في الواقع، أليس هذا الوحش بلا ذرة إحساس؟! كيف له أن يظهر في يومٍ كهذا ويُفسد كل شيء؟ لقد أفسد الحفل تمامًا!”
وبدت شديدة الغضب، حتى أنها بدأت تضرب الأرض بقدميها.
فانحنى هاوارد قليلًا نحوها وهو يبتسم بخفة.
“هل أغضبكِ الأمر لهذه الدرجة؟ بالنسبة لي لم يكن شيئًا مهمًا، فكل ذلك بدا وكأنه مناسبةٌ مخطط لها لأغراضٍ خفية.”
“بالطبع أغضبني! كان من المفترض أن يكون احتفالًا يمدحكَ فيه الناس على كل ما قدمته!”
رفعت ريكا رأسها فجأة. وتلاقت نظراتهما من مسافةٍ قريبة.
“لكن بدلًا من أن تنال التهاني كما يليق، لم تحصل حتى على راحة، وها أنتَ تلاحق الوحوش وتؤذي جسدكَ مجددًا!”
“….…”
“هذا يجعلني حزينةً حقًا.”
……آه.
رفع هاوارد يده بسرعة ليغطي فمه. وإلا لكان قد كشف ابتسامته العريضة التي ارتفعت على نحوٍ لا يليق بالموقف.
كيف يمكنه وصف هذا الشعور؟
أذناه كانتا على وشك أن تحترقا من شدة الحرارة التي صعدت إليهما. فأن تكون ريكا قلقةً عليه، وأن تغضب بسببه، جعله يشعر بسعادةٍ لا تُحتمل.
وفوق كل هذا، تقول أنها حزينةٌ لأجله. هل يمكن أن يوجد إنسانٌ بهذا القدر من اللطف؟
“وفوق هذا، كنت قد تزينتُ اليوم بشكل جميل لأول مرة منذ مدة……والآن كل شيء أصبح فوضى. فستاني، إكسسواراتي، كل شيء تلف بسبب الهرب من الوحش.”
فوضى؟ أين؟
“والناس الذين كانوا هنا بالتأكيد رأوني بتلك الهيئة. لا بد أنهم فكروا أنني أبدو مضحكة……كان عليّ أن أرتب شعري على الأقل……”
“لا، أنتِ جميلةٌ كما أنتِ الآن.”
جميلة لدرجة تبهر النظر.
“……ماذا؟”
جاء صوتها مرتبكًا في اللحظة التالية. وعندما التفت نحوها، رأى خديها قد احمرا بلون وردي.
حينها فقط أدرك هاوارد الحقيقة.
‘آه، هل قلت ذلك……بصوت عالٍ؟’
________________________
يجننووووون😭🤏🏻
اتوقع صدق ريكا هي مب البنت كل الشك ذاه الي صار بس عشان هاوارد يتخطا ام شعر اسود؟
ويوم قالت ريكا ان جسدها يتعافى بسرعه بديت اصدق نظرية ايلاف في التلقرام يومها تقول يمكن ريكا هي ملكة الشياطين………
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 61"