أدرتُ رأسي نحو ذلك الطفل.
ثم بقيت أتفحصه مليًّا. لأن وجه الطفل بدا مألوفًا لي على نحوٍ غريب.
أنا متأكد أنني رأيته في مكانٍ ما.
‘أين رأيتُ هذا الطفل من قبل؟’
بدأت أسترجع ذاكرتي ببطء. فليس من المعتاد أن أكون في موقف أرى فيه الأطفال، لذا لا بد أنني صادفته في المهرجان.
فالطفل الوحيد الذي رأيته في قصر الدوق حتى الآن هو فريدريك، أليس كذلك؟
متى رأيته؟ هل حدث شيءٌ يترك أثرًا كهذا لذاكرتي بشأن ذلك الصبي؟
‘…..آه! الألعاب!’
صفقت بيدي بقوة عندما تذكرت ما خطر ببالي.
نعم، هذا صحيح. كان أحد الأطفال الذين حصلوا على لعبة عندما وزعت الجوائز التي حصلت عليها من صالة الألعاب.
أتذكره لأنه كان يختار لعبته بتعبيرٍ ماكر أكثر من باقي الأطفال. وقد قال إنه سيأخذ أكثر لعبةٍ مميزة.
‘لكن، ما الذي قال أنه موجود هنا؟’
أنا متأكد أنه أشار إلى هذا الاتجاه بإصبعه.
أملت رأسي قليلًا من شدة استغرابي. وفي تلك اللحظة، وكأن الطفل يجيب على أفكاري، فتح فمه وتكلم.
“أختي! أخي!”
وذلك بطلب صادمٍ للغاية.
“أرجوكما، التقطا لي فأري الذي تحت المقعد!”
…..تريدني أن ألتقط فأرًا؟
هل الفأر الذي لمس كاحلي قبل قليل يخص هذا الطفل؟ أيمكن أن يكون يربي فأرًا كحيوانٍ أليف؟
بالنسبة لي، هذا أمرٌ لا يمكن تخيله، لكن لا يجوز أن أصف الآخرين بالغرابة لمجرد أن أذواقهم تختلف عني.
يجب أن أتحلى بالتفهم. من الممكن ذلك. من الممكن فعلًا…..
حاولت أن أتحكم في تعابير وجهي قدر المستطاع وابتسمت. لكن زوايا فمي التي رفعتها قسرًا أخذت ترتجف.
“حـ-حسنًا. سألتقطه لكَ.”
آه، تبا. لم أتمكن من إخفاء ارتجاف صوتي.
كنت على وشك أن ألقي نظرةً نحو الأرض، لكنني تراجعت خوفًا من أن يقفز الفأر فجأة، فعُدت أعانق عنق هاوارد بقوةٍ أكبر.
كان جسدي كله يرتعش من التوتر. عندها نظر إليّ هاوارد بنظرة شفقة، وفتح فمه متحدثًا.
“سألتقطه أنا، لا تقلقي.”
“…..هل ستكون بخير؟”
كان سؤالي جادًا وكأنني أتحدث إلى شخصيةٍ تضحي بنفسها من أجل قضيةٍ عظيمة في فيلم أو دراما.
وأنا، في الواقع، كنت أراه أمرًا لا يقل عن ذلك. و ربما لهذا السبب ضحك هاوارد بخفة.
“نعم، لا بأس. تمسكي بي جيدًا حتى لا تسقطي.”
“حسنًا. يجب أن تكون حذرًا.”
ارتجف صوتي قليلًا في نهاية الجملة. وضحك هاوارد مرة أخرى من خوفي هذا.
يا هذا، أنا أتكلم بكل جدية.
“هل وجدته؟”
“لا، ليس بعد. يبدو أنه دخل تمامًا تحت المقعد. عليّ أن أنحني أكثر لألتقطه.”
تردد هاوارد قليلًا ثم التفت إليّ.
“سأنزل أكثر إلى الأسفل، لا تتركي يدي.”
هاوارد، الذي كان يدعمني بيديه من أسفل ظهري ووراء ركبتيّ، رفع يده عن خصري بحذر. و شعرت ببعض القلق، فشددت من عناقي لعنقه أكثر.
بعد أن تأكد أنني لن أسقط، انحنى هاوارد أكثر ومد يده نحو أسفل المقعد.
بسبب حركة هاوارد، وجدت نفسي وأنا بين ذراعيه أقترب تلقائيًا من الأرض.
وكانت تلك اللحظة تحديدًا، حين سُمِع صوت مروّع من مكان قريب.
“تشيك! تشيك! تشيك!”
مع صوتٍ حاد وقوي، قفز شيءٌ ما بسرعة خارجًا من تحت المقعد.
فصرخت بصوت عالٍ من شدة المفاجأة. و عقلي أصبح خاليًا تمامًا، كأن كل شيء قد تلاشى فجأة.
“آآآااه!”
حتى هاوارد بدا وكأنه تفاجأ، فنهض واقفًا بسرعة. لكنه لم ينسَ أن يعيد تثبيتي بين ذراعيه جيدًا، خشية أن يسقطني.
وفي هذه الأثناء، كان الفأر الذي خرج من تحت المقعد يركض بنشاط نحو مكان آخر، وكأنه يحاول الهرب.
وبعد لحظات، اختفى الفأر عن الأنظار كما لو أنه لم يكن موجودًا من الأساس. و لم يتبقَ سوى المكان الفارغ الذي بدا كأن لا شيء حدث فيه.
الصبي، الذي كان يحدّق بحسرة في أثر فأره الهارب، نظر إليّ بنظرةٍ مليئة باللوم.
“أن تصرخي بهذه الطريقة، هذا كثير يا أختي!”
“…..أنا آسفة. في الحقيقة، أنا أخاف من الفئران قليلاً.”
لا، في الحقيقة، ليس قليلاً بل كثيرًا.
عندما اعترفت بذلك رغم خجلي الشديد، أطلق الصبي ضحكةً ساخرة وقال “هاه”، وكأن كلامي لا يُصدّق، وكان تعبير وجهه ينضح بعدم التصديق التام.
“أعني، أيُّ بالغ يخاف من شيء كهذا؟”
“آسفة…..”
لكن، ليس هناك قانونٌ يمنع البالغين من الخوف من الفئران، أليس كذلك؟
أنا حقًا لا أتصرف هكذا عادةً، لكن هذا الوضع كان مختلفًا تمامًا.
هاه…..
كلمات لم أستطع قولها بقيت عالقة في فمي. لكن يبدو أن الطفل التقط ما يجول في رأسي من تعابير وجهي.
رفع حاجبيه وصاح بصوت عالٍ.
“مهما يكن، لا يجوز أن تتصرفي هكذا، أختي!”
“حسنًا، حسنًا…..آسفة…..”
“ليست أي لعبة، إنها اللعبة التي أعطتني إياها أختي بنفسها!”
“صحيح، اللعبة التي أعطيتكِ إيـ…ماذا؟”
انتظِر لحظة. ماذا قلت؟ …..لعبة؟
“أعجبتني كثيرًا لأنها لعبةٌ تتحرك كأنها حقيقية عند الضغط عليها! لكن بسببكِ ضاعت مني مرة أخرى!”
“…….”
“وااااه….فأري….إلى أين ذهب….؟”
ركض الصبي مبتعدًا وهو يطلق كلمات اللوم، تاركًا إيّاي في حالةٍ من الذهول.
يبدو أنه ذهب للبحث عن حيوانه الأليف…..لا، أقصد لعبته الأليفة. و يبدو أن الفأر الذي ظهر قبل قليلٍ كان اللعبة التي حصل عليها مني.
…..لماذا بحق يوجد في هذا العالم لعبةُ فأر تصدر أصواتًا وتتحرك؟
حتى لو كان هذا عالمًا قائمًا على الألعاب، فالعالم هنا لا يتمتع بتقنياتٍ متقدمة أصلًا، والمصداقية التاريخية في الأحداث مبالغٌ فيها لدرجة لا تُصدق.
لكن هنا، حتى أزهار شقائق النعمان تزهر في الصيف!
ظللت متيبسةً من شدة الذهول، حتى ناداني هاوارد
“ريكا؟”
و عندها فقط عدت إلى وعيي.
“الآن، الأمر هو…..الفأر الذي كان تحت المقعد…..كان لعبة؟”
“نعم.”
“و أنا فقدت أعصابي وصرخت بسبب لعبة؟”
“يبدو أن هذا ما حدث.”
نظرت إلى هاوارد وأنا ما زلت في حضنه، بوجهٍ لا يصدق ما سمعه.
ولا أدري كم من الوقت مر ونحن على هذا الحال دون أن نتكلم.
“…..بففت.”
ضحكةٌ خفيفة انفلتت من بين شفتيّ. فما إن تلاشى الخوف حتى بدا الموقف برمّته مضحكًا إلى درجة لا يمكن احتمالها.
“هاهاها.”
ضحكتُ وأنا لا أزال معانقةً رقبة هاوارد. وبسبب ضحكي المفاجئ والمتحمس، اهتزّ جسدي في حضنه، فرأيت وجهه ممتلئًا بالقلق خشيةَ أن أقع.
لكن، رغم ذلك، لم أستطع التوقف عن الضحك.
شعرت أنني سأحتفظ بهذه اللحظة في ذاكرتي طويلًا، وكأنني على يقينٍ من ذلك.
***
نظر هاوارد إلى ريكا التي كانت تضحك بين ذراعيه.
عيناها الزرقاوان كانتا تنحنيان بنعومة وتنتهيان بانحناءة جميلة. و شفاهها ترتفع بابتسامة مشرقة. و خدّاها يتوردان بلون وردي. وشعرها الأبيض يتطاير بخفة مع نسمات الريح.
بكل تلك التفاصيل. كانت ريكا تبتسم في تلك اللحظة بأصفى ابتسامةٍ على الإطلاق.
ومع رؤيته لذلك المشهد الساحر، والذي خشي أن ينساه، ظلّ يحدق بها في شرود، حتى اجتاحت رأسه فجأة فكرةٌ واحدة سيطرت عليه تمامًا.
‘…..إنها…..رائعة.’
في الحقيقة، كان هذا شعورًا يراودني منذ فترة. لسببٍ ما، كلما نظرت إلى ريكا، أصبح جسدي يتصرف بغرابة.
حين تلتقي أعيننا، أشعر وكأن كارثةً ستحل فأشيح بنظري بسرعة، لكنني أرغب في الإمساك بيدها الصغيرة.
وفي كل مرة ترفع نظرها إليّ، أرغب في تقبيل جبينها الذي يظهر بلطف.
أشعر بالضيق عندما يتصرف بروتور إيتينتيا وكأن ريكا ملكه، وكنت أود طرده من أمام عينيها في اللحظة التي جعل ريكا تجهش بالبكاء.
أخشى أن يأتي يومٌ تختفي فيه من أمامي فجأة.
كنت أحب أن تتوجه إليّ نظرات عينيها الزرقاوين. و كنت أريد أن أرى ابتسامتها مرارًا وتكرارًا.
وخاصةً اليوم، كان هذا الشعور أقوى من أي وقتٍ مضى.
منذ أن أُبيدت عائلتي بالكامل على يد ملك الشياطين بينما كنت أستمتع في أحد المهرجانات في طفولتي، لم أعد أحب المهرجانات.
بل على العكس، أصبحت أمقتها.
لكن، وكأن كل ذلك كان كذبة، وكأن شيئًا من ذلك لم يحدث أبدًا، قفد بدت المشاهد التي أمامي مشرقةً بشكل لا يُصدق.
منذ اللحظة التي خطوت فيها تحت ضوء الشمس بحرية، شعرت وكأنني تحت تأثير سحرٍ ما.
“هاوارد! هيا بنا!”
سحرٌ طفولي، وساحر، سحرٌ يجعلني أبتسم كلما نظرت إلى شخصٍ واحد فقط.
“هاهاهاهاههه.”
انفجرت ريكا ضاحكةً مرة أخرى.
فوقع هاوارد تحت تأثير ذلك السحر مرة أخرى، وانفجر ضاحكًا تمامًا كما فعلت ريكا.
حدث ذلك من تلقاء نفسه، وكأنه أمرٌ طبيعي تمامًا دون أن يشعر.
وفي تلك اللحظة تحديدًا،
“أ-أرجوكما! لا تتحركا! ابقيا كما أنتما!”
سمع صوت الرسام يصرخ. الذي كان يحاول أن يخلّد هذه اللحظة في لوحة.
وكان ذلك مرضيًا للغاية. فهاوارد كان يتمنى بالفعل، في تلك اللحظة، لو أن هذا المشهد الذي يراه بعينيه يبقى إلى الأبد.
وهكذا، لم يكن أمامه سوى أن يعترف أخيرًا.
أن هذا الشعور الذي جعله يشعر بأنه غريبٌ عن نفسه في الآونة الأخيرة، هو حقيقة أن مشاعرًا كانت تائهةً بلا وجهة، قد وجدت أخيرًا صاحبها.
نظر هاوارد بهدوء في عيني ريكا، التي كانت بين ذراعيه.
الزرقة فيهما كانت تتلألأ ببريقٍ ساحر. و حتى الشمس التي خلفها، لم تعد تُرى أمام ذلك الجمال.
____________________
هاوارد طااح طيحة قويه ومحد سمى عليه😭
الصوره تجنننننن علقوها في وسط القصر تورونها عيالكم 🤏🏻💕💕
المهم صراخي مب مخلص فبوقف قبل لا املا الصفحة
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 57"