“تحقق لي من أمر الكونت إيتنتيا.”
كانت عيناه الحمراوان تغوصان في سواد غير معتاد.
في الحقيقة، كان قد عقد العزم منذ وقتٍ طويل على التحقيق في أمر بروتور إيتنتيا. منذ حفلة عائلة كونت إيتنتيا، تحديدًا.
“لا أعلم كيف غفوت فجأة. كنت أراقب الآنسة ريكا عن كثب. وكنت أكثر حرصًا من المعتاد لأن الكونت إيتنتيا كان لا يزال في الغرفة معها. لكن الأمر كان وكأنني وقعت تحت تأثير سحرٍ ما..…”
قالت الخادمة التي كانت ترافق ريكا هذا الكلام وهي تشكو بمرارة بعد عودتها إلى قصر الدوق.
قالت أن وعيها انقطع فجأةً وكأنها فقدت إدراكها دون سبب واضح.
ومنذ اللحظة التي شاهد فيها خادمة الدوق، التي لطالما أدّت مهامها على أكمل وجه، نائمةً بشكل غير طبيعي، بدأ شعور مزعجٌ يتسلل إلى قلبه.
لكن بعد أن سمع ذلك الكلام، بدأ ذلك الشعور ينمو أكثر فأكثر. لأن كل الأدلة تشير إلى أن بروتور إيتنتيا قد جعل الخادمة تغفو عن قصد.
قالت أنها لم تأكل أو تشرب شيئًا في قصر الكونت.
ولم يكن من المنطقي أن يكون قد استخدم بخورًا منوّمًا، لأنه كان في الغرفة نفسها، وكان ذلك يحمل مخاطرةً كبيرة. فقد ينام هو أيضًا قبل أن يتمكن من البقاء وحده مع ريكا.
‘كيف فعلها يا ترى..…؟’
ظل هاوارد يفكر للحظة، ثم أفرغ رأسه من الأفكار وأكمل حديثه. لأن الوقت لم يكن مناسبًا ليغوص وحده في القلق والتحليل.
“الأمور التي يجب التحقيق فيها بسيطة. ما الذي كان يفعله بروتور إيتنتيا في أراضيه قبل أن يُعرف اسم عائلة الكونت إيتنتيا على نطاق واسع في أوفلين، أي قبل أن يُصبح بروتور كونتًا؟ ومتى تعرف إلى جلالة الملك؟ ومن هم الأشخاص الذين يقترب منهم حاليًا..…؟”
أكمل هاوارد حديثه، ثم هزّ رأسه.
“لا، تحقّق من كل شيء. كل شيءٍ بلا استثناء.”
“مفهوم.”
أجاب ليون على الفور.
لم يشرح هاوارد سبب هذا التكليف، لكن ليون لم يرتكب الخطأ بسؤاله عن السبب.
فالأمر صادرٌ عن هاوارد تشيلستون، وليس أي شخص آخر. ولا بد أن هناك سببًا وجيهًا خلفه.
“إذا وجدت أي شيءٍ يبدو مريبًا، أبلغني فورًا.”
“حاضر.”
أجاب ليون بإيجاز، وبدأ في تقديم تقريره المعتاد كما يفعل كل أسبوع.
“آه، وبالمناسبة، لم أجد أي جديدٍ هذه المرة أيضًا.”
“ماذا تقصد؟”
“أقصد المهمة التي أوكلتها إليّ في السابق.”
أكمل ليون حديثه بصوتٍ منخفض،
“لقد طلبتَ مني سابقًا أن أحقق بشأن الآنسة ‘ريكا’، من تُعد حاليًا حبيبة سيدي. تحديدًا، طلبتَ مني معرفة ما كانت تفعله وأين كانت قبل أن تبدأ عملها في النزل.”
“آه…..”
تنهد هاوارد بخفة. والأمر المضحك هو أنه لم يتذكر أنه أمر بالتحقيق بشأن ريكا إلا بعدما سمع شرح ليون.
لقد نسي أمر المهمة التي أوكلها بنفسه.
‘لقد شُغلتُ بالتفكير في ريكا..…’
حتى في هذه اللحظة، كان يشعر بالقلق عليها. خوفًا من أن تعجز عن تحمّل الحزن وتبكي وحدها مجددًا.
وخوفًا من أن…..تفكر في التخلي عن الحياة.
‘…..لا، عليّ فقط أن أمنعها من ذلك.’
مرّر هاوارد يده بعنف بين خصلات شعره.
كانت أفكاره في فوضى تامة.
“لكن، لم تعثر على شيء؟”
عقد هاوارد حاجبيه تلقائيًا. فمنذ أن بدأ التحقيق في ماضي ريكا، كانت الأمور تسير على هذا النحو دومًا.
حتى مع مهارة ليون العالية، لم يتمكّن من العثور على أي معلومة.
وهذا أمرٌ غير معقول بكل بساطة. فأي إنسان، أو بالأحرى، أي كائن يعيش في هذا العالم، لا بد أن يترك وراءه أثرًا ما.
ومع ذلك، لم يُعثر على شيء إطلاقًا. وهذا بحد ذاته يحمل دلالةً واضحة.
‘شخص ما تعمّد محو أثر ريكا.’
وشخصٌ يتمتع بقدرات تفوق قدرات ليون.
وما إن أدرك هاوارد هذه الحقيقة، خطر في باله مشتبهٌ به على الفور—الشخص الذي كان يعتني بريكا عندما كانت صغيرة.
فقد كانت حينها طفلةً بحاجة إلى رعاية، لذا فإن هذا الافتراض منطقيٌ تمامًا.
من يكون؟ ولماذا حرص على محو كل أثرٍ لها بهذه الدقة؟
‘هل أسألها مباشرة؟’
ربما ريكا ستخبره الحقيقة.
فربما فقط لم تُتح لها الفرصة للحديث، لا أكثر. ولم تكن تُظهر أي نية لإخفاء الأمر عنه. بل إن التي ذكرت وجود من اعتنى بها في الماضي كانت ريكا نفسها.
ولكن…..
“لقد ماتت بسبَبك. أنتَ الذي قتلتها. كانت عائلتي الوحيدة. كانت الشخص الوحيد الذي اعتمدت عليه في هذا العالم…..وأنتَ..…”
صرخات ريكا ترددت مجددًا في أذنيه. فاهتزت عيناه الحمراوان بلا حول ولا قوة، ثم اختبأتا خلف جفنيه المنخفضين.
كيف يمكنه أن يسألها؟ وقد رأى حالتها تلك بعينيه.
فتح هاوارد عينيه من جديد وأطلق تنهيدةً طويلة.
ليون، الذي استغرب تصرفات سيده المختلفة عن المعتاد، توقف عن طرح التساؤلات وانحنى برأسه.
“إذاً، سأواصل التحقيق بشأن الآنسة ريكا أيضًا.”
وما إن همّ ليون بالاختفاء، حتى فتح هاوارد فمه فجأة.
“لا.”
تردّد قليلًا، ثم أكمل كلامه،
“…..توقف عن التحقيق في أمر ريكا.”
اتسعت عينا ليون من وقع هذا الأمر غير المتوقع.
“ماذا؟! ولكن من الواضح أن هناك أمورًا مريبة. ولم نكتشف أي معلومةٍ بعد..…”
“ليون.”
قاطع هاوارد كلامه بهدوء. ولم يستطع ليون أن يضيف كلمةً واحدة بعدها.
لأنه حتى الآن، بعد أن خدمه كسيده، أصبح يعرفه معرفةً عميقة قد تكون مفرطة.
هاوارد لا يتراجع أبدًا عن قرار اتخذه بحزم.
“……سأطيع الأمر.”
انحنى ليون واختفى على الفور.
ثم عاد هاوارد ليحول نظره مرة أخرى إلى خارج النافذة. بينما كان قلبه مضطربًا.
***
مر الوقت بعدها دون مشاكل تُذكر. وشهدت حياتي عدة تغييرات.
أولًا، تحسنت حالة كاحلي بشكلٍ كبير.
فبفضل عناية هاوارد، حصلتُ على راحةٍ تامة دون القيام بأي شيء، كما التزمت بتناول الأدوية جيدًا، واهتممت بتبريد التورم بكمادات الثلج.
و أصبحت الآن قادرة على المشي دون الحاجة إلى العكاز……بالطبع لا يزال يتعذر عليّ تثبيت القوة في كاحلي، لذا أمشي بعرجٍ بسيط.
وبسبب إصرار هاوارد على أن الوقت لا يزال مبكرًا، لم أتمكن حتى الآن من المشي جيدًا بدون عكاز……
على أي حال، كان ذلك تقدمًا كبيرًا. على الأقل، لم أعد في وضعٍ تُقيدني فيه قدمي وتمنعني من الهرب إن اضطررت لذلك.
أما ثانيًا، فقد انتهى إصلاح السوار. رغم أنه صُنع قبل عدة سنوات، وكان الصائغ مختلفًا، فلم يكن مطابقًا تمامًا، لكنه كان قريب الشبه جدًا.
كنت أشعر بالقلق من أن أفقده مجددًا، لذا لم أكن أحمله معي، لكن بما أنه مع هاوارد، كان بإمكاني رؤيته متى ما رغبت.
وأخيرًا، ثالث وآخر تغيير مهم هو……
دينغ-!
<تم تحديث قدرة [ريكا].>
قدرتي قد تغيرت.
فبعد أن كانت قدراتي تقتصر على “من ألمسهم فقط”، أصبحت الآن تنطبق على من هم بالقرب مني.
المشكلة أنه لم يكن هناك إشعارٌ أو تنبيه يخبرني بذلك، لذا لم أكن أعرف متى أو كيف حدث هذا التغير……
‘……لا أعلم. لكن الجيد يبقى جيدًا، فلا بأس.’
وبفضل ذلك، أصبحت أستطيع علاج هاوارد بكفاءة أكبر، وهذا أمرٌ مريح.
فقد كان هاوارد يهتم بي كثيرًا بعدما علم أن حالتي ليست على ما يرام كما كانت من قبل، ولذلك أردت أن أرد له الجميل ولو بهذا الشكل.
‘……ليتني أستطيع الاستمرار في رد الجميل.’
تنهدت وأنا أتكئ على سور شرفة غرفتي.
منذ الحديث مع بروتور في غرفة الاستقبال، تعمدت ألا أبحث عن أي شيء يتعلق بـ”النوكس”. وهذا يعني أنني لم أجد بعد طريقةً للنجاة من وضعي كصاحبة أجلٍ محدود.
ومن المفارقات، أنه كلما حاولت بجهد أكبر البحث عن وسيلة للنجاة، شعرت وكأنني أموت حقًا.
كان الخوف من الموت أعظم مما تخيلت.
حين علمت لأول مرة أنني شأعيش بوقتٍ محدود، وأتيتُ فورًا إلى أوفيلين للانتقام من الشخصية الأصلية، أي بروتور، لم يكن ذلك لأنني كنت أستخف بالموت.
بل لأنني لم أستوعب الأمر جيدًا بعد.
لم أكن أدرك مدى خطورة الموقف الذي أواجهه، أو ما يعنيه أنني لا أستطيع طلب المساعدة من أي أحد حفاظًا على سر “النوكس”.
رفعت رأسي لأنظر إلى المشهد أمامي. و ظهرت السماء الصافية والشمس الساطعة في مجال بصري.
السحب البيضاء التي توزعت بشكلٍ جميل، والطيور التي كانت تحلق فيما بينها.
نسيمٌ لطيف ومريح لامس وجهي برقة. ومع مرور بعض الوقت، شعرت أن أفكاري بدأت تتوضح قليلًا.
‘……صحيح. حان الوقت للاستعداد نفسيًا.’
علي أن أواجه حقيقة أنني قد أموت فعلًا.
وأن أبدأ بالتحضير لذلك. لكي أتمكن من مغادرة هذا العالم دون أي تعلقٍ أو ندم.
‘لكن، هذا لا يعني أنني سأبقى مكتوفة الأيدي.’
ما أعنيه هو أنني سأقبل واقعي كما هو، لا أن أستسلم له تمامًا.
بعد أن حصلت على قسطٍ جيد من الراحة، حان الوقت الآن لأقوم بشيءٍ ما مجددًا. وإلا فلن أستطيع مواجهة أوديا، التي اهتمت بي طوال هذا الوقت.
‘لحسن الحظ، لا يزال هناك أمل، فليست كل السبل مقطوعةً بعد.’
أليس بروتور إيتينتيا هو الدليل على ذلك؟ إن بحثت في أمر ذلك الوغد، فلا بد أن أجد شيئًا ما.
هل أجرب تهديده؟ أم أرمي القمامة أمام منزله عند منتصف الليل؟
“نعم، سأرسل له القذارة مجددًا!”
رفعت ذراعيّ عاليًا بحزم بعدما عقدت العزم.
لكن ربما بالغت في الحماس، فجسدي الذي كان مستندًا إلى السور فقد توازنه ومال.
حاولت تثبيت قدميّ بقوة حتى لا أسقط. لكن رغم محاولتي، انحرف جسدي بسرعة.
آه، يبدو أنني انتهيتُ فعلًا.
أغمضت عيني بقوة وأنا على وشك السقوط من فوق السور.
لكن في تلك اللحظة بالضبط، شعرت بيدٍ قوية تمسك بي من الخلف بشدة.
____________________
هاوارد الي ماقدر يرقد امس وهو يهوجس فيها بينفجع😭
اكيد هو الي جا يمسكها طبعاً هاهاعا
المهم ليتها تعلمه انها نوكس يمكن يعرف شي او يحبها زود ههع
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 53"