“على الأقل أفضل بكثير من حالتي الجسدية.”
لم أتمكن من قول أي شيء للحظة. فيد كانت ملامح هاوارد وهو يقول ذلك جادةً للغاية، حتى أنني شعرت بوضوح أن كلماته صادقة ولا تحمل ذرة كذب.
“ثم إنني سأتحسن عندما أذهب إلى المعبد، لكنك أنتِ لا.”
…..كيف يمكن لشخص أن يكون هكذا؟ كيف يمكنه أن يُقدّم الآخرين على نفسه إلى هذا الحد؟ وكأنه شخص لا قيمة له.
وبينما كنت شاردةً للحظة، تذكرت أنني مررت بموقف مشابه من قبل. حين التقيت بفريدريك في القصر الإمبراطوري.
“أنا فقط أقوم بما يجب عليّ فعله. تقربكِ مني لن يعود عليكِ بأي فائدة، بل على العكس، لن يجلب سوى المتاعب. كما حدث دائمًا.”
وكل هذا…..بسببي. أفهمتِ الآن؟ أن بقاءكِ بجانبي لن يجلب سوى الأمور السيئة، لم أكن أقول ذلك عبثًا.”
هاوارد تشيلستون، رغم أنه يمتلك كل المؤهلات التي تميّزه عن غيره، إلا أنه كثيرًا ما يتصرف وكأن كل ذلك لا قيمة له.
لو لم تكن لديه مهمة حماية هذا العالم من ملك الشياطين، لكان قد اختفى منذ زمنٍ بعيد.
أن يصبح هاوارد بهذا الشكل…..
‘لا بد أن يكون بسبب ما مرّ به في طفولته.’
حادثة إبادة عائلته بالكامل على يد ملك الشياطين.
‘علاوةً على ذلك، سمعت سابقًا أن شخصًا مجهول الهوية قد فقد حياته أثناء محاولته حماية هاوارد.’
من الطبيعي أن يُصاب بصدمةٍ نفسية.
‘…..تمامًا مثلي.’
لأنني كنت أعرف أكثر من أي شخصٍ آخر ما يعنيه أن تفقد شخصًا عزيزًا، لم أستطع أن ألوم هاوارد على عدم قدرته على تجاوز تلك الصدمة بسهولة.
و لم يكن بوسعي سوى أن أتمنى أن يهتم بجسده قليلًا، وأن يعاني أقل ما يمكن.
عدّلت صوتي الذي كان مبحوحًا وفتحت فمي لأتحدث.
“مع ذلك، دعنا نذهب إلى المعبد.”
“ريكا.”
“أرجوكَ استمع لي حتى النهاية. لم أقل أنني لن أعالج كاحلي، ولم أقل أنني سأؤجل العلاج أيضًا. فقط…..فقط فكرت أنه ربما يوجد طبيبٌ يعمل في المعبد.”
اتسعت عينا هاوارد بدهشة من كلامي. فيبدو أنه لم يفكر بوجود طبيبٍ مقيم في المعبد.
إلى أي حد بلغت حالته سوءًا، حتى بات عقله، الذي كان يعمل بدقة دائمًا، غير قادر على التفكير كما ينبغي؟
“تلك النقطة…..لم تخطر في بالي. سأخبرهم…..أن يفحصوكِ بمجرد وصولنا إلى المعبد.”
زفر هاوارد تنهيدةً طويلة وأسند رأسه إلى الحائط. كأنه لم يعُد يملك حتى القوة ليجلس مستقيمًا.
لا أعلم لماذا، لكن مشهدٌ كهذا جعل صدري ينقبض فجأة، فمددت يديَّ ببطء واحتضنت رأس هاوارد بحذر.
نظر إليّ بعينيه الحمراوين بدهشة وكأنّه لم يفهم السبب. لكنني لم أقل شيئًا، بل اكتفيت بأن أسمح له بأن يسند رأسه على كتفي.
“…..الاتكاء على الحائط يزيد الألم. فالعربة تهتز باستمرار.”
“هاها..…”
ضحك هاوارد ضحكةً قصيرة.
كنت أخشى أن ينهض مجددًا حتى لا يزعجني، كما يفعل دائمًا، لكن لحسن الحظ، بقي بهدوء في مكانه.
“كنت أظن أن العلاج لا يُمكن إلا عندما تنفجر القوة المقدسة، لكن يبدو أن العقوبة الناتجة عن كسر إعدادات النظام يمكن معالجتها أيضًا.”
“وما شأن إعارتي لكتفي بالعلاج أصلاً..…؟”
“طالما شعرتُ بتحسن، فهو علاج.”
خفض هاوارد عينيه وأضاف بصوتٍ خافت،
“لو كانت لدي قدرة مثلكِ، لكنت شفيتُ كاحلكِ منذ زمن دون أن يبقى له أثر.”
“لا داعي لهذا الكلام. لو كان هاوارد يملك تلك القوة أيضًا، لقال اللاعبون إن إعداداته مبالغٌ فيها وبدؤوا في انتقاد اللعبة، أليس كذلك؟ لا أفهم لماذا البشر طماعون إلى هذه الدرجة.”
تمتمت باستياءٍ خفيف، فضحك هاوارد مرة أخرى. و كانت ضحكته هذه المرة أكثر خفةً من السابقة.
“من الغريب أنني لا أشعر بالملل أبدًا عندما أكون معكِ.”
“….…”
“وكأننا نعرف بعضنا منذ وقتٍ طويل..…”
قبل أن يُكمل كلماته، شعرت بثقلٍ يستقر على كتفي. وفورًا اجتاحتني موجة من القلق.
لا يمكون…..هل فقد وعيه من شدة الألم؟
“هاوارد؟”
أسرعت بتفقد هاوارد. لكن على عكس مخاوفي، كان يتنفس بهدوء أكثر من ذي قبل. و يبدو أنه غطّ في النوم فحسب.
ربما لم يكن قوله بأنه يشعر بتحسن كذبًا تمامًا.
“…..يا للراحة.”
خرج نفس الارتياح من بين شفتي دون أن أشعر. ثم نظرت إلى هاوارد النائم مستندًا إلى كتفي، وهمست بخفوت.
“نم جيدًا، يا هاوارد.”
أتمنى أن تحلم أحلامًا سعيدة.
***
استفاق هاوارد عند توقف العربة أمام المعبد.
كنت أنوي تركه ينام أكثر لو كان نائمًا بعمق، لكنه استيقظ بدقةٍ وكأنه كان ينتظر لحظة التوقف، مما أدهشني.
ولم يكتفِ بذلك، بل حملني فور نزوله من العربة وتوجه مباشرةً إلى الطبيب.
‘حسنًا، ربما هذا طبيعي إذا فكرت بالأمر.’
فقد وصل إلى المعبد وفقًا لإعداداته الأصلية، لذا لا بد أن العقوبة قد زالت. و على الأرجح، جسده قد عاد إلى حالته السليمة الآن.
عندما رأيت هاوارد وقد بدا عليه تحسنٌ في ملامحه مقارنةً بما كان عليه من قبل، حولت نظري إلى الطبيب الواقف أمامي.
كان الطبيب قد جاء بنفسه إلى مكتب هاوارد مراعاةً لي، كي لا أضطر إلى التعامل مع فرسان الهيكل الآخرين الذين قد يزعجونني.
وبما أن هاوارد كان قد شرح مسبقًا كل ما حدث في قصر الكونت، لم يكن هناك ما أضيفه. و كل ما كان علي فعله هو أن أجلس على الأريكة، أمدّ ساقي بالكامل، وأستمرّ في وضع كماداتٍ باردة من الثلج على قدمي المصابة.
راح الطبيب يفحص جسدي من مواضع مختلفة، ثم أطلق تنهيدةً بدا فيها وكأنه متردد أو يفكر بشيء.
ولم يتحدث إلا بعد مرور قليلٍ من الوقت.
“همم. على الأقل، الكاحل لم يتعرض للكسر لحسن الحظ. يبدو أنها مجرد كدمة. يُفضل ألا تمشي عليه لمدة أسبوعين، واستخدمي عكازًا في هذه الأثناء. و واصلي استخدام الكمادات الباردة كما تفعلين الآن، سأصف لكِ دواءً فاحرصي على تناوله.”
“نعم، شكرًا جزيلًا.”
“أما بالنسبة لباقي المواضع..…”
أمال الطبيب رأسه قليلًا بتساؤل، ثم أكمل،
“فلا توجد أية مشاكل تُذكر.”
“عفوًا؟”
اتسعت عيناي دهشةً من النتيجة غير المتوقعة.
مستحيل…..هل يُعقل أنني شعرت بألمٍ في رأسي جعلني أفقد الوعي، لكن لا يوجد أي خلل في جسدي؟
هل هذا معقولٌ أصلًا؟
حتى هاوارد الذي كان واقفًا بجانبي بدا عليه الاستغراب، فسارع بسؤال الطبيب،
“هل أنتَ متأكد؟ لقد كانت تتألم بشدة إلى درجة فقدان الوعي.”
“بما أنكَ ذكرتَ ذلك، فقد حرصت على فحصها بدقة قدر الإمكان. لكن بالفعل، باستثناء الكاحل، لا توجد أي مشكلة. أعتقد أنها ربما تعرضت لمستوى عالٍ من الضغط النفسي مؤخرًا، وهذا ما أدى إلى ما حدث..…”
الضغط النفسي، إذًا.
صحيحٌ أنني شعرت ببعض التوتر مؤخرًا بسبب الحفلات التي اضطررت لحضورها، لكن ليس إلى درجة أن أنهار بهذا الشكل.
في الواقع، ما حدث بعد لقائي ببروتور هو ما أثار غضبي حقًا.
‘هناك شيءٌ غير مريح……’
لكن بما أن الطبيب قال ذلك، لم أجد ما يمكنني الاعتراض به. خاصةً أن الصداع قد اختفى تمامًا منذ أن استعدت وعيي.
هل كان حقًا بسبب الضغط النفسي؟
“إذًا، سأذهب الآن لأطلب من الصيدلي أن يبدأ في تحضير الدواء. مرِّي على العيادة متى ما كان مناسبًا لكِ لتستلميه. أما العكاز فسأتركه بجانب الأريكة.”
نهض الطبيب من مكانه بعد أن أنهى الفحص.
ثم بدأت أعض باطني شفتي بشعورٍ غير مريح، وكأن شيئًا ما ما زال عالقًا في صدري.
حينها، هاوارد الذي بدا كأنه التقط ما يجول في خاطري، انحنى نحوي قليلًا.
ثم همس لي بصوتٍ خافت لا يكاد يُسمع إلا لي،
“حين نعود إلى قصر الدوق، دعينا نجري فحصًا آخر. للاحتياط فقط.”
“آه، نعم. شكرًا لكَ.”
أجبت بإيماءةٍ خفيفة، وابتسم هاوارد بخفة، ثم سار بهدوء نحو مقعده في المكتب وجلس.
وبعد أن استقر في مكانه،
“والآن، ما الذي تنوين فعله يا ريكا؟”
“ماذا تقصد؟”
“أقصد، هل ستعودين إلى قصر الدوق بالعربة الآن لتأخذي قسطًا من الراحة، أم أنكِ ستنتظرين وتعودين معي؟”
“كنتُ أعتقد أنني سأعود معكَ، هذا ما توقعته طبعًا.”
“لكن هذا يعني أنكِ ستنتظرين حتى المساء.”
“لا بأس بذلك.”
أجبت بكل بساطة.
صحيح أن وقت انتهاء دوام هاوارد لا يزال بعيدًا، والبقاء بانتظاره قد يكون مرهقًا لي. لذا، فإن عودتي فورًا إلى قصر الدوق لأرتاح كانت الخيار الأسهل.
ورغم ذلك، فقد اخترت أن أبقى هنا. وكان لذلك لسببٍ واضح.
‘…..لأنني بحاجة لإيجاد طريقة لأبقى على قيد الحياة.’
لطالما فكرت بهذا الأمر مرارًا من قبل. أين يمكن أن أجد أكبر قدرٍ ممكن من المعلومات عن النوكس؟
قصر الدوق تشيلستون؟ القصر الإمبراطوري؟ معقل ملك الشياطين؟
‘لا، لا شيء من ذلك.’
رغم تفكيري العميق سابقًا، إلا أنني أدركت اليوم، بعد أن أتيت إلى هنا بنفسي، ما هو الجواب المؤكد.
دون شك…..إنه المعبد.
رئيس الكهنة الأعلى قد يكون تابعًا لأوامر الإمبراطور، لكن المكان الذي تُجرى فيه التحقيقات الفعلية هو المعبد، وليس سواه.
أما ملك الشياطين والمهرطقون فلن يهتموا أصلًا بأمر النوكس.
وعلى عكس ما يعلنه المعبد في بياناته، فـالنوكس في الحقيقة…..ليس مهرطقًا.
‘لم آتِ إلى المعبد بهذه النية، لكن على أي حال يجب أن أستفيد من هذه الفرصة. ففرصي لزيارة المعبد ليست كثيرة.’
بلعت ريقي بقلق.
لم تحدث أي مشكلةٍ كبيرة حتى الآن. و إذا كنت حريصةً على تجنب اللقاء مع نائب القائد الذي بدا أنه يمتلك حاسة ملاحظة حادة…..
بينما كنت أفكر بذلك، سُمع صوت طرقٍ مفاجئ على الباب.
“سيدي القائد، أنا فيليب. هل أنتَ بالداخل؟”
___________________
جا على طاريه😂
شكل نهاية كل فصل بأصرخ انهم يجننون مافيه الا كذا😭
المهم شكل ريكا صدق البنت ام شعر اسود الي دافعت عن هاوارد……
واضح الموضوع فيه سوالف عوالم وكذاته
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 45"