ساد صمتٌ مؤقت في الشرفة. لم أتكلم، ولم يتكلم بروتور أيضًا.
لم أكن أعرف بالضبط لماذا كان بروتور يتصرف بتلك الطريقة.
هل كان ذلك من شدة الذهول؟ أم لأنه كان غاضبًا حتى أعماق رأسه؟ أم لأنه كان مزيجًا من الأمرين؟
لكن ما كان مهمًا هو السبب الذي جعلني أنا أصمت الآن.
‘أخيرًا……أخيرًا صفعته!’
لقد صفعت الشخصية الأصلية أخيرًا!
هتفت داخلي بحماسً بينما كنت أعض شفتي من الداخل. فلو لم أفعل ذلك، لشعرت أنني سأصرخ من شدة الفرح.
ولِمَ لا، أليس ضرب الشخصية الأصلية هو السبب النهائي الذي جعلني أترك النُزل وآتي إلى أوفلين؟
لقد حققت ذلك الهدف بعد حوالي شهرين من وصولي إلى أوفلين. لا يوجد سببٌ لعدم الفرح.
“واو……”
فتح بروتور فمه أخيرًا بعد مرور بعض الوقت، بينما كان لا يزال في مكانه ورأسه مائلٌ إلى الجانب.
“لم أتخيل أبدًا أنني سأتلقى صفعةً منك.”
أعاد بروتور نظره نحوي. و كان خده الذي تلقى الصفعة محمرًا قليلاً، لكنه لم يرفع يده ليلمسه.
ولسبب ما، شعرت أن ذلك يشبهه بشدة. رغم أن هذه أول مرة أرى فيها بروتور اليوم.
“هل هذا يعني أنكِ ترفضين اقتراحي؟”
“وإذا كان كذلك؟”
ارتبك بروتور للحظة. بينما رفعت كتفي بلا مبالاة تجاهه.
“لماذا؟ بما أنكَ تكلمني طوال الوقت بصيغةٍ غير رسمية، فلا يوجد سبب يجعلني أستخدم الاحترام معكَ، خاصةً إن كنتَ أنت الشخصية الأصلية.”
“صحيح، هذا منطقي.”
ضحك بروتور بصوتٍ منخفض. وبدا على وجهه أنه لم ينزعج إطلاقًا من كوني صفعته.
“فأنتِ، دائمًا ما تقومين بأشياء غير متوقعة.”
“….…”
“فجأة تتركين النُزل رغم أنك كنتِ بخيرٍ هناك. ثم تظهرين بهويةٍ مزورة كعشيقة لهاوارد تشيلستون. والآن حتى تصفعينني هكذا……”
توقف بروتور عن الكلام وهو يتمتم بصوت خافت.
“……ثم ما هذا الآن أيضًا؟”
كان رد فعله طبيعيًا. ففي تلك اللحظة كنت قد جلست على حافة درابزين الشرفة.
“كيف تريدينني أن أفسر هذا التصرف الآن؟”
“كما ترَاه تمامًا. أنوي القفز للأسفل. فليس هناك قاعدة تقول أن عليّ الخروج من الباب فقط.”
“ماذا……؟”
“أنا أعرف أنكَ لا تنوي أن تتركني أرحل.”
هبت الريح بيني وبين بروتور. فتطاير شعري الأبيض الطويل في كل اتجاه، مما أعاق رؤيتي.
يبدو أن الحاضرين في الحفل بدأوا بالانصراف، إذ بدأت الأصوات الصاخبة تتعالى من خلفي.
وخلال كل ذلك، لم ينبس بروتور بكلمة واحدة. وهو صمتٌ كان أبلغ من أي تأكيد.
“كنت أعلم ذلك. لو كنتَ تنوي حقًا أن تتركني أرحل لمجرد أنني رفضت عرضك، لما كنتَ دعوتني إلى قصر إيتينتيا بهذه الطريقة وأقمت حفلاً كاملاً لأجلي. حسب كلامك، نحن مقدرٌ لنا أن نكون معًا، أليس كذلك؟”
أملت رأسي وابتسمت ابتسامةً صغيرة.
“لكنني لا أحب هذا المصير. لذلك أنوي الهرب بهذه الطريقة.”
“……نحن في الطابق الثاني يا ريكا. هذا خطر، انزلي من هناك.”
“أليس هذا منزلكَ؟ ألا تعرف هيكله؟ يوجد بركة ماءٍ تحت هذا المكان مباشرة. سأسقط فيها.”
“تلك البركة أعمق مما تظنين. قد يحصل لكِ مكروه.”
“حقًا؟ هذا ممتاز.”
اختفت ابتسامتي من على وجهي بشكلٍ طبيعي. فقد كنت أريد هذا منذ البداية.
أن أبتسم أمام من خدعني……هذا مقرف.
“أن يحصل لي مكروه، أهون من البقاء معكَ.”
وما إن أنهيت كلامي، حتى ملتُ بجسدي إلى الوراء. فاقترب بروتور مني وهو يبدو متوترًا لأول مرة منذ لقائنا، وكانت ملامحه تحمل استعجالًا واضحًا.
امتدت يده نحوي حتى كادت تلامسني. لكنني لم أكن أنظر إلى تلك اليد. فما كنت أراقبه هو يده الأخرى.
تلك التي، بسبب ارتباكه، كان يُمسك بها السوار بشكلٍ أضعف من ذي قبل.
“لذلك، أعطني هذا.”
مددت يدي وانتزعت السوار.
“إنه لي.”
وبينما كنت أسقط إلى الخلف بكل قوتي، انشد السوار بسهولةٍ أكثر مما توقعت. وما إن أمسكت بالجوهرة الزرقاء بيدي، حتى شعرت براحةٍ عميقة.
أخيرًا……صار بين يدي.
“ريكا!”
ثم سمعت صراخًا مضطربًا عند أذني. و تنفست الصعداء مرة أخرى حين لم تلمسني يد بروتور ومرت بجانبي بصعوبة.
حينها، هبّت ريحٌ قوية عند أذني. وبعد لحظات، سُمع صوت ارتطامٍ قوي بالماء، وسقط جسدي في البركة.
و قبل أن أغوص بالكامل، خُيّل لي أنني أسمع صراخ الناس من بعيد.
بذلت جهدي لألا أفلت السوار من يدي بينما أسبح بأقصى ما أستطيع نحو السطح. لكن الصعود إلى سطح الماء لم يكن بالأمر السهل.
‘الفستان ثقيلٌ جدًا.’
كنت أظن طوال الوقت أنني لست سيئةً في السباحة، لكن يبدو أن ذلك كان مجرد وهم. فعندما احتجت إلي هذه المهارة حقًا، لم تكن مفيدةً على الإطلاق.
هل سألقى حتفي كما قال بروتور فعلًا؟
‘لكن ما زلت أكره أن أكون قرب بروتور، و هذا لن يتغير.’
نظرت مرةً أخرى إلى السوار الذي أمسكه بيدي. و خيّل لي أنني أسمع صوت أوديا وهي تهمس عندما أعطتني السوار.
“تا دا! ريكا، هذه هدية ميلادكِ. هل أعجبتكِ؟”
“لقد صنعته بنفسي. لا يوجد له مثيلٌ في العالم.”
……صحيح، هذا لي. شيء ثمين لا أندم على التضحية بحياتي من أجله.
سحبت يدي التي تمسك بالسوار نحو صدري.
بدأ تنفسي يضطرب شيئًا فشيئًا، وبدأت قوتي تنهار من أطرافي. فأغمضت عيناي دون أن أشعر.
وحين ظننت أنني سأموت على هذا النحو— شعرت بقوة شديدة تجذب خصري.
***
“القائد! هناك موجةٌ جديدة قادمة من الجنوب!”
عند سماعه للصراخ في أذنه، استدار هاوارد بسرعة وضرب بسيفه الوحش الذي كان يوشك على مهاجمته.
سقط الوحش الذي كان قد اقترب إلى أنفاسه الأخيرة، وهو يصرخ بصوتٍ غريب.
لم يعد هاوارد يعرف كم مرة فعل ذلك حتى الآن.
“……لا نهاية لهم.”
تفحّص هاوارد محيطه بسرعة. و رأى الفرسان المقدسين الذين تجمعوا من كل حدب بعد بدء الفوضى وهم يخوضون معارك عنيفة ضد عشرات الوحوش.
كان الأمر غريبًا.
‘من أين خرجت هذه الوحوش؟’
كيف خرج هذا العدد الكبير من الوحوش دفعةً واحدة من الزنزانة؟
في السابق، كانت تظهر أحيانًا وحوشٌ قليلة تتجول بحثًا عن فريسة، أو كان الهراطقة يثيرون بعض الشغب، لكن مثل هذا لم يحدث قط.
هل يمكن للوحوش أن تتحرك في جماعاتٍ كهذه؟
‘إلا إذا كان هناك من يتحكم بها……’
لكن، حتى لو كان هراطقة، فلا يمكنهم التحكم بهذا العدد الكبير من الوحوش. وهاوارد، أكثر من يعرف الهراطقة عن قرب، كان يعلم هذا جيدًا.
أقصى ما يستطيعون السيطرة عليه لا يتجاوز خمسة وحوش.
ربما تكون هذه خطة من عدة هراطقة اجتمعوا معًا……لا، حتى هذا الاحتمال لم يكن مقنعًا.
زفر هاوارد زفرةً خفيفة وهو يلوّح بسيفه ليقضي على وحشٍ آخر اندفع نحوه.
الهراطقة لا يجتمعون بسهولة، ربما لخوفهم من أن يُقبض عليهم دفعةً واحدة. وحتى لو تجمع هذا العدد، لكان من المفترض أن يشعر بهم أحد.
‘إذًا، لماذا……’
وبينما كان يفكر بذلك، عقد هاوارد حاجبيه. ذلك لأن اسمًا أو وجودًا معينًا خطر فجأة في ذهنه.
‘ملك الشياطين.’
ملك كل الوحوش والهراطقة. وهو أيضًا ذلك الكائن الذي سلب من هاوارد تشيلسـتون كل من كان عزيزًا عليه في الماضي.
من الواضح أن ذلك البغيض عاد لينشر الفوضى من جديد.
عض هاوارد شفته بعنف. ثم تسارعت حركته بسرعة لا تُقارن بما كانت عليه من قبل، وكان في طرف سيفه، المشبع بقوة القداسة الهائلة، وهجٌ أشبه بالبرق.
كان هاوارد بعينيه المتقدتين يستعد للتسلل بين الوحوش و عندما خفض جسده—
“ما هذا؟”
الوحش الذي كان على وشك مهاجمة هاوارد استدار فجأةً وبدأ في الجري مبتعدًا.
ولم يكن ذلك الوحش وحده. فحين التفت برأسه، رأى جميع الوحوش تركض في اتجاهٍ واحد.
الفرسان المقدسون جميعهم راحوا ينظرون إلى ظهور الوحوش بدهشة. ثم اقترب فيليب من هاوارد بسرعة.
“من اتجاه حركتهم، يبدو أنهم عائدون إلى الزنزانة.”
“……سوف نطاردهم. لا نعرف ما الذي قد يُقدمون عليه لاحقًا.”
قال هاوارد ذلك وهو يراقب الوحوش تبتعد، ثم بدأ يتحرك. لكن فيليب مدّ ذراعه ليعترض طريقه.
“نحن يمكننا تولّي المطاردة وحدنا. فخلال انشغالكَ، تم إجلاء جميع المدنيين، لذا لم تعد هناك أي صعوبة. من الأفضل أن تعود الآن.”
“أعود؟”
“نعم. ألم تكن منشغلاً بها طوال الوقت؟”
رغم أن كلام فيليب لم يذكر فيه أي اسم، فإن هاوارد فهم فورًا ما الذي كان يشير إليه.
لأنه بالفعل، طوال القتال مع الوحوش، كان هناك شخص ما يملأ زاويةً من قلبه بوضوح.
“هاوارد. سأذهب لأتلقى الفحص الطبي وأستريح في الأعلى. اذهب أنت.”
حتى وهي مريضة، كانت تحاول جاهدةً ألا تُظهر ذلك على وجهها.
______________________
بسرعااااااااه
من الي انقذها يعني؟ حسبته هاوارد
المهم بروتور ذاه مب موقف المجنون
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 34"