“ريكا، أنا الشخص الذي كنتِ تبحثين عنه بيأسٍ منذ زمن.”
ظل صوت بروتور يتردد في أذني. و قلبي بدأ ينبض بعنف.
ليس فقط لأن بروتور إيتينتيا نطق بكلمة “الشخصية الأصلية”، بل لأن كلماته بدت وكأنه يعرفني منذ زمنٍ بعيد.
بصعوبة فتحت شفتيّ وسألت،
“……هل كنت تراقبني طوال هذا الوقت؟”
“بالطبع. باستثناء اللحظة التي غادرتِ فيها النُزل فجأة، حينها فقط فقدت أثركِ مؤقتًا. و لحسن الحظ أنك أتيتِ مباشرةً إلى أوفلين، وإلا لكنتُ في ورطةٍ حقيقية. فكرت حتى إن كنت سأرسل أشخاصًا للبحث عنكِ.”
“….…”
“طبعًا، لا يمكنني القول أنني لم أعانِي على الإطلاق. كنت أعلم أنكِ في أوفلين، لكن رغم ذلك لم أجد أي خيطاً يدل عليكِ. ولم أدرك إلا لاحقًا أن هاوارد تشيلستون هو من محا كل أثرٍ لكِ.”
“كيف……”
“كيف عرفتُ أنك أتيتِ إلى أوفلين، صحيح؟”
قاطعني بروتور بابتسامة، كأنه قرأ أفكاري.
على عكس ما كان يظهره في السابق، بدا عليه التسلية الحقيقية هذه المرة. و لم يكن من الصعب أن أدرك أن هذا هو “الوجه الحقيقي” لبروتور إيتينتيا.
“بالطبع عرفتُ ذلك من خلال النظام، ريكا. أليس هذا هو السبب الذي جعلكِ تأتين إلى أوفلين أيضًا؟ لا بد أن النظام أخبركِ أنني موجودٌ هنا.”
“…….”
“ولهذا كنتُ سعيدًا جدًا.”
ابتسم بروتور بصفاء. وقد شعرت بوضوح أن قوله “سعيد” لم يكن مجرد كلام، ما جعلني أشعر بشيءٍ غريب في صدري.
ابتلعت ريقي في توتر.
“هل أنتَ حقًا……الشخصية الأصلية أيها الكونت؟”
“هل تعتقدين أنني أكذب؟ إن لم تصدقيني، يمكننا الخروج من أوفلين. عندها يمكنك التأكد من النظام، أليس كذلك؟”
هز بروتور كتفيه بخفة. وكان يقصد بذلك أن أتحقق من موقع الشخصية الأصلية في النظام لأقارنه بموقعه.
وبما أنه يتصرف بكل هذا الثبات والثقة، بدا أنه لا يكذب بشأن كونه هو “الشخصية الأصلية”. فهو لا يملك سببًا للكذب في المقام الأول، وحتى إن فعل، فإن النظام سيكشف الحقيقة بسرعة.
لذا تراجعت عن الجدال. وبدا أن بروتور أدرك ذلك، إذ ارتخت ملامح وجهه بعض الشيء.
“لكن، هل من المناسب أن نستمر في الحديث هنا؟”
“عفوا؟”
لم أفهم ما الذي يقصده، فمال رأسي قليلاً باستغراب، وعندها سُمِع فجأة صوت وحركة بجانبي.
“أهممم……”
كانت الخادمة التي كانت نائمةً على الكرسي.
‘آه، صحيح. كانت هذه المرأة هنا أيضاً.’
بسبب الأسرار الصادمة التي اكتشفتها قبل قليل، كنتُ قد نسيت تمامًا أنني جئت إلى هنا في الأصل لإيقاظها.
سرعان ما تفقدت حالتها. ويبدو أنها لم تستيقظ تمامًا بعد. على الأرجح ما صدر عنها كان مجرد هذيان نوم. و لحسن الحظ، لا يبدو أنها سمعت ما دار بيني وبين بروتور.
‘صحيح، من الخطر أن نستمر في الحديث هنا.’
هي الآن تبدو نائمةً بعمق، لكن لا أحد يعلم متى قد تستيقظ. ولو سمعت شيئًا عن “الشخصية الأصلية” أو “النظام” مثلاً……
‘……مجرد تخيل ذلك أمرٌ مرعب.’
أسرعت بهز رأسي لأطرد الصورة التي ارتسمت في ذهني.
وعلى أية حال، بما أن بروتور هو الشخصية الأصلية، لم يعد ممكنًا أن أرحل من هنا الآن. فثمة شيءٌ يجب أن أستعيده منه مهما كلّف الأمر.
نظرت إلى السوار المزخرف بجوهرةٍ زرقاء في يده، وابتلعت ريقي.
“إلى أين تنوي أن نذهب لنتحدث؟”
“لنخرج من هنا.”
قال بروتور مشيرًا برأسه إلى الجهة المقابلة من الغرفة.
المكان الذي أشار إليه كان الشرفة المتصلة بهذه الغرفة. ومن المشهد الظاهر خلف النافذة، يبدو أن الشرفة تطل على حديقة قصر إيتينتيا.
وبما أن الحفل لم ينتهِ بعد، فكرت أنه إن لزم الأمر يمكنني الصراخ عاليًا باتجاه الحديقة وطلب المساعدة، لذا بدا الأمر آمنًا نسبيًا.
‘من المؤكد أنه أفضل من البقاء معه داخل الغرفة.’
أومأتُ برأسي بخفة، فتحرك بروتور أولًا نحو الشرفة. و دخلت من الباب الذي فتحه لي.
طَق-
لمحت بركة الماء أسفل الشرفة بنظرةٍ خاطفة، وإذا بصوت قفل الباب خلفي يتردد في الأجواء.
رغم أن المكان مفتوح، تسللت إليّ مشاعر توترٍ خفيفة جعلتني أعبث بطرف فستاني.
اقترب بروتور مني بينما كان يُدير السوار في إصبعه السبابة،
“كنت أرغب بسؤالكِ منذ فترة……كيف انتهى بكِ الأمر أن تتظاهرين بأنكِ حبيبة هاوارد تشيلستون؟”
“…….”
“كنت أتساءل، لو لم يكن الدوق موجودًا، هل كنت سأعثر عليكِ في وقتٍ أقرب؟ فبوابات أوفلين كانت تحت تفتيش فرسان الهيكل، والمعلومات جميعها تدور حولهم. مع أن التفتيش أصبح أخف مؤخرًا، ولا أعرف لماذا.”
لكنني لم أستطع الرد مباشرة.
لا، في الحقيقة لم أسمع سؤال بروتور جيدًا. فقد كان تركيزي كله منصبًا على السوار الذي يدور بأصابعه.
……تبا. ألن يُفلت السوار ويطير هكذا؟ دع سوارِي وشأنه!
“هم؟ ربكا.”
مدّ بروتور وجهه نحوي فجأة. وامتلأ بصري به دون وعي.
وجهٌ وسيم يليق برجلٍ يحظى بشعبية بين نساء إمبراطورية فيدوس، لكنني كنت مسحورة بجماله……لا طبعًا.
‘تحرك من أمامي. لا أستطيع رؤية السوار!’
حركت عينيّ قليلًا لأتفقد إن كان السوار بخير، ويبدو أن بروتور لاحظ نظراتي فضحك بخفةٍ وتراجع خطوةً للوراء.
لا أدري ما الذي وجده مضحكًا في الأمر. فأنا في حالة توتر شديدة.
“هل يشغل بالكِ هذا السوار إلى هذه الدرجة؟”
قال بروتور ذلك بعد أن كف عن الضحك.
نظر أولًا إلى السوار، ثم إليّ، ثم عاد ببصره إلى السوار مرة أخرى.
“صحيح، كنتِ تهتمين به كثيرًا منذ أول مرة حصلتِ عليه. لم تكوني تخلعينه أبدًا إلا عند منتصف الليل.”
فتحت عيني بحدة على شكل مثلث، ثم تجمدت فجأة.
هل يُعقل أن يكون معنى هذا الكلام هو……
“……كنتَ تراقبني حتى عندما تلقيتُ هذا السوار كهدية؟ منذ متى تعرفني؟ متى عرفتَ أنني شخصيتك البديلة…….”
“منذ البداية.”
قال بروتور ذلك كما لو كان يتمتم. و عيناه الخضراوان كانتا تحدقان في وجهي بثبات.
“قلتُ لكِ يا ريكا، كنت أراقبكِ طوال الوقت، باستثناء حين أتيتِ من النُزل إلى أوفلين.”
لا أعلم إن كان بروتور قد قال شيئًا آخر بعدها أم لا.
كان رأسي ممتلئًا بذكريات أخرى، فلم أعد أسمع الرجل الواقف أمامي، ولا ضجيج قاعة الحفل، ولا حتى صوت الرياح.
كان قلبي ينبض بسرعةٍ تفوق ما كان عليه من قبل، يخفق بعنف كما لو أنه سينفجر في أي لحظة.
‘إذا كنتَ تراقبني طوال ذلك الوقت، إذاً……’
“أرجوكَ، أعده لي. لا أريد شيئًا آخر، فقط ثمن الدواء……أرجوكَ فقط أنقذ ذلك الشخص.”
“إنه مثل عائلتي……إنسانٌ عزيز جدًا عليّ. أرجوكَ……سأفعل كل ما تطلبه.”
حين كتبتُ لك الرسالة بتوسلٍ شديد، كنتَ أنتَ……
كانت رؤيتي تومض بياضًا وتعود مرارًا وتكرارًا. و ارتجف جسدي كما لو كان يرتعد من البرد، بسبب الغضب المتصاعد من أعماق صدري.
ولم يكن هذا غريبًا. فكل ما كان مجرد شكٍ في رأسي، تبيّن الآن أنه الحقيقة بعينها. ذلك الرجل تجاهلني بالفعل، وهذا مؤكد.
‘……يا ترى، بماذا كان يفكر وهو ينظر إليّ حينها؟’
هل كنت أبدو مثيرةً للسخرية وأنا أعمل حتى الفجر دون نوم لأجمع ثمن الدواء؟
هل بدوتُ مثيرةً للشفقة وأنا أسير و عيني إلى الأرض أبحث عن قطعةٍ نقدية ربما سقطت من أحدهم؟
هل كنت تافهةً في نظره وأنا أبكي وأتوسل في رسائلي إلى شخصٍ لا أعرف حتى من يكون؟
هل رآني حقيرةً لأنني بقيتُ وحيدة في النهاية؟
شعرت وكأن الأرض تحت قدميّ تنهار وتتفتت. وكأن جسدي يُلقى في هاويةٍ لا نهاية لها. وكأنني سأُبتلع بتلك الظلمة إلى الأبد.
فيما كنت متجمدةً في مكاني، تحدث بروتور،
“كانت لدي ظروفي التي منعتني من البقاء بجانبكِ، لكن يا ريكا، أنتِ يجب أن تكوني بجانبي. هذا ما كُتب لنا منذ البداية.”
“…….”
“لم أطلب منكِ أن تصبحي حبيبتي عبثًا.”
اقترب بروتور خطوةً مني.
“تعالي إليّ، يا ريكا. فأنتِ لستِ على علاقة حقيقية مع هاوارد تشيلستون على أية حال. كنتِ بجانبه في أوفلين فقط لأنك كنتِ بحاجةٍ لمكان تمكثين فيه بينما تبحثين عني، أليس كذلك؟”
كان بروتور يبتسم ابتسامةً خفيفة. وكأن شيئًا لم يحدث بيننا أبدًا.
“إذا كنتِ بجانبي، فلن تحتاجي لأن تصبحي مثل ‘الآنسة النبيلة ابنة البارون إيفريت’. يمكنكِ أن تبقي كما أنتِ، وهذا يكفي. لن تحتاجي للقلق بشأن منتصف الليل أيضًا، لأني سأُعيد كل شيءٍ فورًا.”
ثم مد بروتور يده نحوي. وفي كفه كان هناك سوار.
السوار الخاص بي، المرصّع بحجرٍ أزرق.
“ما رأيكِ، ريكا؟”
كان بروتور يجبرني على اتخاذ قرار. و كأنه يقول “إن أردتِ السوار، فعليكِ قبول عرضي.”
_______________________
الله ياخذه الزفت مشاعر ريكا وهي تسأل نفسها تووجع😔💔
و هاوارد وييينههه؟؟
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 32"